السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
مائة عام صينية

مائة عام صينية

كل يوم يمر تتمد الحرب لبقعة جديدة. وتزداد عنفا. انتشرت المعارك فى كل أنحاء الأرض . النسر الأمريكى يتتبع كل خطوات التنين الصينى. كلما مشى خطوة تضع أمامه العراقيل لتمحو آثار أقدامه. السياسة الأمريكية المقبلة لا ترى سوى عدو واحد كبير . كل يوم يتمدد وكل يوم يكسب أرضا جديدة ويستحوذ على مساحات استراتيجية . لا صوت على ظهر الكوكب سوى صوت المعارك .



 

فى هدوء. وبدون صخب تمددت الصين. انسابت بنعومة فأصبحت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس. إذا كانت بريطانيا فى عهدها الفيكتورى أواخر القرن التاسع عشر هى الإمبراطورية الأقوى والأوسع. فكانت لا تغيب عنها الشمس. وإذا كانت منتجات الولايات المتحدة موجودة فى كل أنحاء الأرض بداية من الكوكاكولا إلى مايكروسفت. بسلاسة وقوة وإصرار وهدوء أصبح الصينى موجودًا فى كل بقاع الأرض. فردا وسلعة. سرا صنعت جيشًا كبيرًا، وأنفقت عليه بسخاء . فقد قفز الإنفاق العسكرى الصينى فى الفترة ما بين 2000-2019 من 43 مليار دولا إلى 266 مليار دولار . وهو مبلغ يتجاوز مجموع ميزانيات بريطانيا وروسيا وفرنسا وإسرائيل فى التسليح . وفى الوقت الذى تحاول فيه الصين إظهار التفوق العسكرى فى منطقة غرب المحيط الهادى. إلا أن الهدف الأوسع هو تعزيز القدرة الدفاعية الصينية لكى تظهر قوتها فى كل مكان. زادت بوارجها البحرية وغواصاتها إلى 530 بدلا من 400 . وهو ما سيجعل أمريكا غير قادرة على اللحاق بالصين. قد يحلو للبعض القول إن البوارج الأمريكية أقوى وأكبر وأحدث وطواقمها مدربة ولديها خبرة أفضل من الصينية. لكن بكين لا تخطط لتحدى سيادة أمريكا البحرية. بل إلى تقليص القوة الأمريكية ببطء وبطريقة منهجية بهدف إقناع حلفاء أمريكا أن القوة تنسحب من واشنطن. ولا داعى للتعويل عليها. الصينيون يريدون أن يقولوا للحلفاء القدامى أن الإمبراطور الأمريكى قد شاخ. التفوق العسكرى الصينى لم يكن من أجل استعراض العضلات وضرب نار على الشط . بل بدأت التحرك الفعلى . ففى عام 2017 افتتحت أول قاعدة عسكرية لها فى جيبوتى . هى الأولى من نوعها . موقع القاعدة الصينية مهم وخطير ومؤثر وموتر لأعصاب الولايات المتحدة . جيبوتى تقع على مدخل باب المندب الذى يربط قناة السويس بخليج عدن . من هنا فاستراتيجية الصين الشرق أوسطية واضحة. فهى لا تريد مواجهة عسكرية. بل تشن حربا سياسية . تريد الاستحواذ . تقتضى هذه الاستراتيجية لتظهر أمريكا كحليف لا يوثق به. رسالة الصين وجهت إلى اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية. رسالة بكل لغات العالم تقول أمريكا فى تراجع والصين فى صعود . وصولها إلى المجد وذروة القوة بات محتوما . الشرق الأوسط يمثل تهديدا واضحا للصين وفرصها للتمدد . لذا فى عام 2016 زار الرئيس شى جين بنج الشرق الأوسط بصفته رئيس الجمهورية الشعبية الصينية . زار مصر والسعودية وإيران . بالغ الإعلام الصينى وصور الزيارة باعتبارها زيارات تاريخية. نشرت وزارة الخارجية الصينية ورقة بيضاء حول السياسة من العالم العربى . هى الأولى من نوعها . كان فيها «سنعمق التعاون والتبادل العسكرى الصينى – العربى «و» سنعمق التعاون فى مجال التسلح والمعدات ومجالات التخصص التكنولوجى والمشاركة فى مناورات عسكرية» . لدى الصين قلق تجاه الشرق الأوسط الواقع فعليا فى أحضان الولايات المتحدة منذ سبعين عاما. لذا فهى تشعر بالتهديد المؤرق . التهديد يأتى من أن نصف وارادت الصين من النفط تأتى من الشرق الأوسط وتمر عبر قناة السويس . كما أن معظم البضائع التى تنتهى فى شنغهاى أو جوانزهو تمر عبر نقاط الاختناق بالشرق الأوسط وهى عرضة للتدخل الأمريكى . من ناحية الفرص فالشرق الأوسط ليس مصدرا للطاقة فقط. بل تكنولوجيا الأمن تتفوق فيها إسرائيل وهى حليف محتمل . لكن يظل الشرق الأوسط حديقة العالم . على أرضه  تتصارع الإمبراطوريات . اليوم تتحكم الولايات المتحدة بخطوط التجارة والحركة وفى حالة تراجعها فالميزان سيميل حتما لصالح الصين . لكن تحرك التنين الصينى البطيء يعطى الإحساس بالحيادية . تركيزها على الحاجة للطاقة وعدم إرباك خطوط إمداداته تخفى وراءها الأهداف المظلمة لها. الأهداف السرية . الصين من أكبر مستوردى النفط فى العالم وهى تحتاج إلى 10.1 مليون برميل فى اليوم . ومن أجل منع إرباك إمداداته نوعت مصادر الاستيراد . فذهبت إلى البرازيل وأنجولا وروسيا وبريطانيا . الاستيراد من الأخيرة مثال عجيب وهى الحليف الاستراتيجى للولايات المتحدة . فقد زادت نسبة صادرات النفط البريطانية بنسبة 44 % ومعها زادت استثمارات الصين فى الاقتصاد البريطانى . وجاء هذا فى وقت عبرت فيه إدارة دونالد ترامب عن غضبها من عقد الحكومة البريطانية مع شركة هواوى . لكنها لغة المصالح . كان السفير الصينى واضحا عندما حذر بوريس جونسون عندما ألغى العقد بأن الشركات الصينية تراقب . أصبح التهديد بخسارة الاستثمارات الخاصة أسلوب الصين مع حلفاء أمريكا (بريطانيا وكندا واستراليا) . الصين أصبحت تهدد . وصارت تستخدم تأثيرها الاقتصادى لإضعاف الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط . فهى أكبر مستثمر خارجى فى المنطقة وشمال أفريقيا. فقد ضخت أكثر من 124 مليار دولار . وفى الوقت الذى تراجعت فيه استثمارات الصين العالمية 100 مليار دولار عام 2018 إلا أنها زادت فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فى نفس العام بـ 28 مليار دولار . ربعها ذهب لحلفاء أمريكا . كما زادت استثمارات الصين فى دول الخليج من 10 مليارات دولار عام  2000 إلى 163 مليار دولار 2019 . الصين أكبر شريك لسلطنة عمان والكويت والإمارات العربية المتحدة والسعودية . وهى من أكبر الشركاء مع إسرائيل . رغم إنهاء تعاقد شنغهاى الخاص بإدارة ميناء حيفا . وزادت التجارة مع العراق فى الفترة ما بين 2008 إلى 2018 بنسبة 1.000 % من 2.6 مليار دولار الى 30 مليار دولار . وأصبح العراق ثالث مصدر للنفط بعد السعودية وروسيا . فالتراجع الأمريكى من الشرق الأوسط هو أكبر خطأ فى التاريخ الأمريكى . لذا بدأت الولايات المتحدة فى إعادة توازنها . رغم الصراع الداخلى الدائر بشراسة هناك . فالسلطة فى الولايات المتحدة دستورية قانونية ومراكز متعددة لصنع القرار. ضوابط وتوازنات تحمى عملية صنعه بين مختلف المؤسسات. والقرار فى تلك المجتمعات لا يصدر من فراغ . فهى ليست مجرد مؤسسة سلطة وإنما هى مؤسسة هدف. والسلطة أداة لتنفيذ هذا الهدف. وقيمتها ترتبط بنجاحها أو فشلها فى تحقيقه. بل ترتبط بذلك شرعيتها من الأساس . الولايات المتحدة تلخص استراتيجيتها فى أن تكون بنظامها الاجتماعى هى أقوى بلد فى العالم وتكون هذه القوة غير مسبوقة مهما كانت الظروف والتكاليف. والهدف الأمريكى هو المنافسة فى كل المجالات وبكل الوسائل مع القوة الثانية المضادة التى تحاول أن تجرى معها فى السباق على مركز الأقوى فى العالم وهى الصين . كما أنها تمد حمايتها عبر الأطلنطى إلى أوروبا الغربية وعبر الباسفيكى إلى اليابان وهذه جميعا شريكة نفس النظام الاجتماعى وبالتالى شريكة نفس دوافع الأمن. كما أنها تركز على أقاليم معينة فى العالم ذات أهمية خاصة اقتصادية أو عسكرية وربط هذه الأقاليم  بروابط المصلحة والأمن مع الولايات المتحدة وحلفائها. والشرق الأوسط مثالا. كما أنها تقوم بمحاولة خلق مناخ إقليمى وعالمى ملائم لمصالحها وضرورات أمنها وذلك عن طريق جهد سياسى وإعلامى مكثف وخصوصا إذا أدى إلى إحراج الصين التى تحاول منافستها. وتقوم بحملة حقوق الإنسان ضد الصين (عام 2010 غادر وزير الخارجية يانج جيتتشى مؤتمرا دوليا بعدما انتقدت وزيرة الخارجية هيلارى كلينتون الصين لنشاطاتها فى بحر الصين الجنوبى ) . وقال «الصين هى بلد كبير وبقية الدول صغيرة وهذه حقيقة». وتشعر بكين بالحنق عندما تقوم الولايات المتحدة بدعم دول «صغيرة» للحفاظ على نظام دولى لا تلعب فيه الصين دورا مركزيا وتراه خنجرا موجها للحزب الشيوعى الصينى .وتقوم الولايات المتحدة بإشاعة جو عام من حسن النية تجاهها. فأنماط الاستهلاك الأمريكى راحت تكتسح مجتمعات أخرى بينها مجتمعات متخلفة لا تستطيع أن تدفع التكاليف العالية لنمط الاستهلاك الأمريكى وذلك ما يسمى أحيانا استراتيجة الكوكاكولا. وهنا يأتى دور مصر . دورها فى ذلك الصراع سيحسم معارك كثيرة فى الحرب الكوكبية الدائرة . العالم لم ينس . وما زال يتذكر أنهاء أسطورة إمبراطورتين فى منتصف الخمسينيات . كما لم ينس العالم أول مسمار وضعته مصر فى نعش الاتحاد السوفيتى فى بداية السبعينيات . لمصر دور عظيم دائما . والعالم فى انتظارها.