اللغة الغائبة
دارين مصطفى
«بين منطوق لم يقصد ومقصود لم ينطق تضيع الكثير من المحبة» هكذا عبّر جبران خليل جبران عما نسميه نحن بـ«سوء التفاهم».
وعندما نقع فى ذلك الأمر نجدنا عاجزين عن الشرح والتحليل و الإقناع لدى أشخاص كانوا ومازالوا أقرب ما يكون إلينا..
بل إن سر قرب هؤلاء منّـا، كان أننا لا نحتاج أن نصوغ الكثير من الكلمات حتى نشرح ما نشعر به وما نقصده وما يعتمل فى نفوسنا..
عندها.. نتساءل.. ترى.. أكان شدة القرب بيننا و قراءة كل منّا لأفكار الآخر ذلك الأثر الشديد فى نفوسنا عند حدوث العكس؟!
أكان زيادة «العشم» فى العلاقة هو ما جعلنا نتكئ عليها دون الأخذ فى الاعتبار ما قد يهشم جوانبها يوماً ما؟!
هل هى الرغبة الداخلية الشديدة لدينا فى عدم التضحية بهذا الشخص إلى خارج جدران حياتنا هى ما دفعتنا إلى عدم تصديق أن يصدر منا يومًا ما يجرحه أو ما قد يزعجه؟!
أم أن وجود ذلك الآخر فى أدق تفاصيل حياتنا هو ما دفعنا إلى التعامل مع وجوده كشىء من المسلّمات التى لا تستطيع نوائب الدهر كله فى القضاء على وجوده بجوارنا؟!
أسئلة كثيرة تجول بخاطرنا فى تلك اللحظة التى ينوى فيها الصديق اعتلاء عرش العدو.. لكنها ليست مجرد أسئلة..
بل هى سيوف تقطع نياط أيام سعيدة وذكريات عديدة وصحن طعام علاه الخبز والملح الذى تناثر جراء رياح التمرد على تلك العلاقة..
ومع كل محاولة تتجلى فيها أصدق مشاعرك تجاه الطرف الآخر لإنقاذ ما تبقى من روابط بينكما بعد هذا الإعصار الذى عصف بأساساتها..
تتفاجأ بمزاد علنى يعقده قرينك على كل ذرة جمعت بينكما فيما سبق..
تجد أن عيوبك التى احتواها سابقًا هى أبرز ما يضعه نصب عينيك مبررًا غضبه تجاهك..
وترى بأم عينك يديه وهى تغرف من قلب ما اتسمت به علاقتكما من ود وتفاهم وحب وتلقى به فى أقرب سلة مهملات..
ووقتما تنحنى لتلتقط ما تبقى منها رغبة فى حمايتها والبناء عليها من جديد تشعر بقدمه تضغط على رأسك كى لا تقوم لك ولا لها قائمة من جديد..
وفى اللحظة التى ترفع عينيك إليه استدراراً لما مضى بينكما.. وتذكيراً بما جمعكما.. تجده يمسك بزمام يلجم به لسانك عن النطق بالمزيد..
ويسيطر على أذنيك سياط كلماته اللاذعة المنتقدة القاتلة.. وفقط
يعطى نفسه الحق وفقط..
تتحدث الـ أنا لديه وفقط..
يتمثل الإعراض عنك فى كل حروفه وفقط..
تنهال الاتهامات المصحوبة بكل تجريح فيك وفى نواياك وفقط..
تكتشف أنك شخص آخر لا تعرفه ولم تعرفه ولا تريد أن تعرفه يتطاير شظى شره بين صوت كلماته وفقط..
عندها يعلو قلوبنا شعور الذلّ والخزى بين ما لم نقصده وأوّل خطأ.. وبين ما نعجز عن نطقه دفاعاً عن ذلك المقصود الصامت.. وبين جهد بحثنا عن مفردات اللغة المشتركة فيما بيننا..
لنقرّ ونعترف فى التو واللحظة أنها تحولت إلى «لغة غائبة» ..
بل ربما إن صح المسمى.. «اللغة المفقودة».