تسع سنوات إرادة واستقلال وانتماء
كتبت الشهادة: إسراء أبو بكر
بين الرسوم الهندسية والمخططات تتساقط ورقات من مذكرة شاهد على الحدث، شاهد كان يعلم جيدًا أن تلك الورقات والتذكارات التى تزين منزله ستصبح شاهدًا على العصر ذات يوم، تغمر وجهه الحماسة وكأنه عاد إلى سن السابعة عشرة مجددًا، يُظهر ميدالياته وصوره مع الرفاق فى فخر ثم ينظر إلى صورة الراحل عبد الناصر ويطلق زفرة حنين ويقول «الله يرحمك يا ناصر».
لا يمكن أن ينمو حفيد من أحفاده إلا وقد تشبع بقصص جده كنا كذا وكذا..، لكن حكايات هذا الجد تختلف تحمل معها روح الانتماء والفخر تضاحك الزمن الجميل وتمسح عرق الجبين، قصص تستدعى كل تلك الأعداد من المجلات والصحف التى يحتفظ بها فى ذاكرته قبل درج مكتبه.
أنا المهندس أحمد حمدى عملت بالسد العالى منذ المرحلة الأولى لبنائه، حين وطئت قدماى أسوان لأول مرة، لم أكن قد بلغت من العمر الـ 17 بعد، عملت لتسع سنوات فى البداية كفنى ثم بالقناة الأمامية كرئيس مجموعة تركيب بوابات. المرحلة الأولى من البناء بدأت من عام 60 حتى 64 تمثلت فى حفر القناتين الأمامية والخلفية والأنفاق ثم تحويل مجرى النيل فى التاريخ الفارق 14 مايو 1964، أما المرحلة الثانية فبدأت 64 وانتهت 71 حين افتتح الرئيس أنور السادات المشروع. كانت الهيئة العامة لبناء السد العالى وشركة المقاولون العرب وشركة مصر لأعمال الأسمنت المسلح هي الجهات الثلاث المسئولة عن بناء السد، كانت الهيئة العامة تختص بأعمال التركيبات الميكانيكية والكهربائية وكانت هى الجهة التى أمارس عملى تبعًا لها. قضيت 9 سنوات من حياتى فى السد تم تأجيل خدمتى العسكرية بسبب احتياجهم لى بالمشروع 3 مرات، كنت أذهب إلى مقر التعبئة وفى كل مرة ينادون اسمى لأخرج من صفوف المجندين وأعود إلى أسوان لأشارك فى المشروع الذى حمى مصر من الفيضان والعطش أثناء أزمة الجفاف التى أودت بالعديد من الدول الإفريقية 78-87 والذى سيوفر لنا طوق نجاة أمام سد النهضة الإثيوبى فى المستقبل.
من لم يشهد المرحلة الأولى من البناء لن يدرك ما أنجزه بناة السد العالى، فى المرحلة الأولى كان عدد العاملين بالسد 43 ألف فرد منهم 3500 روسى ما بين مهندس وخبير وفنى، بعد انتهاء تلك المرحلة الصعبة قلت تلك الأعداد. كان يوم العمل الخاص بالهيئة وشركة مصر يبدأ من 6 ص لـ 2 وردية أولى، ثم الوردية الثانية من 2 م لـ 10 م، ثم وردية ثالثة من 10 م وحتى 6 ص. يصل بنا القطار فى تمام الخامسة والنصف إلى موقع العمل ويكون أمامنا نصف ساعة للانتشار فى مواقعنا ومباشرة العمل، كانت المواعيد كالسيف التأخير لربع ساعة فقط يساوى خصم نصف يوم ونصف ساعة تأخير تعنى غياب يوم كامل، أما الروس فكانت لهم حافلات خاصة بهم. فى الأيام الأولى كنا نقيم فى مستعمرة بالسد حتى بنوا لنا مساكن فى السيل الجديد قبل أسوان بحوالى 4 كيلو، لكن القطار كان يمر من أسوان حتى السد يقف للركاب ويوزع العمال على أشغالهم ثم يعود ليقوم بنفس الدورة.
من لم ير المشروع فى مرحلته الأولى لن يعلم مدى الجهد المبذول فى المشروع. عبد الناصر غرس فينا شعور الانتماء الذى دفعنا للعمل بلا كلل. بدأت المرحلة الثانية وبدأ معها عملى كرئيس مجموعة مصرية وكان الروس أيضًا مقسمين لمجموعات لكل منها رئيس ورئيس المجموعة الروسية لم يكن يتعامل إلا مع رئيس المجموعة المصرية والذى يقوم بدوره بتوزيع العمل.
كرئيس مجموعة لم يكن يمكننى الخروج من الموقع قبل تسليم العمل لرئيس المجموعة التى تتولى الوردية التى بعدى، ذات يوم انتهى أفراد مجموعتى من العمل وجاء أفراد المجموعة التالية لكن دون أن يحضر رئيسهم وبالطبع لم يكن يمكننى أن أسلم العمل لهم، انتظرت طويلاً دون أن يظهر فاضطررت للعمل وردية أخرى ثم جاءت الوردية الثالثة فلم يظهر رئيس مجموعتهم أيضًا حتى بدأت الوردية الصباحية، وهى ورديتى، فباشرت العمل أيضًا، حصلت على مكافأة 3 أيام و3 آخرين إجازة تقديرًا لتطبيقى هذا الكم من الورديات.
كنا جميعًا نعمل بتفانٍ يتملكنا شعور الانتماء الذى غرسه فينا الراحل جمال عبدالناصر وهو الشعور الذى تجمعنا عليه، أميًّا ومتعلمًا، وفنيًا، ومهندسًا، وعاملًا، لم نكن نتطلع لشيء سوى نجاح مشروعنا القومى، بالفعل نجح المشروع شهدنا أفواجًا من السياح من كل أنحاء العالم تزور أسوان غير مصدقين أننا استطعنا إنجاز السد الذى راهن العالم على فشله. انفجارات السد...
على ضفاف النهر.. فى ظلال السد العالى العديد من الحكاوى، آلاف البشر اجتمعوا هنا عاشوا وأكلوا وشربوا وعملوا وخلفوا مئات القصص. أذكر أهمها حكاية رجلين من أقصى شمال العالم على حافة الكرة الأرضية جمعنى بهما السد، مستر إيفان أوتين ومستر أناتولى ولنا العديد من الصور معًا فى موقع المشروع. غادرنا مستر أناتولى بعد انتهاء المرحلة الأولى، قبل أن يعود إلى بلده كتب لى شهادة تقدير ووقع اسمه عليها باللغة العربية، ورغم التشديد على منع الزيارات والاختلاط بين الروس والمصريين إلا أنه قام بدعوتى إلى منزله قبل الرحيل، كنا نعلم أن مثل تلك الدعوات لا تأتى إلا عندما يحين وقت الوداع.
كان انتهاء المرحلة الأولى وتحويل مجرى النهر بنجاح مناسبة خاصة احتفلنا بها أيما احتفال وأمر الرئيس عبد الناصر وقتها بصرف 6 أشهر مكافأة لكل العاملين من الوزير وحتى أصغر عامل.
أما مستر إيفان فقد عملت معه لـ 3 سنوات صقل فيها موهبتى وعلمنى أكثر مما تعلمه كليات الهندسة، وكان أحد الخبراء الروس مستر كوستا هو من أوصى مستر إيفان بتعيينى رئيس مجموعة رغم وجود من هم أكبر منى. كان مستر إيفان ومستر أناتولى من أعز الأصدقاء إلى قلبى وكم تمنيت أن ألقاهما أو يأتيا لأستضيفهما فى مصر، طلبت من المركز الثقافى الروسى أن يحاول الوصول لهما لكنهم بحثوا عنهما ولم يجدوهما. مستر أناتولى أيضاً حاولت الوصول إليه حين قابلت إحدى السائحات الروسيات فى مصر لكن أيضاً لم أصل إلى شيء.
أثناء أعمال الحفر كان يتم استخدام المتفجرات التى تنسف الجبل وكنا نخلى الموقع أثناء تلك العملية من الساعة 2 وحتى 5، لكن الصخور المتطايرة تسببت فى فقداننا للعديد من الأصدقاء رحمهم الله شهداء السد العالى، وتسببت أيضاً فى فقدانى للسمع بإحدى أذن ى أما الأخرى فنجت بعد ثلاث عمليات جراحية وبالاستعانة بسماعة.
من السد العالى .. للضبعة
بعد مشروع السد العالى عملت بالنوبارية ومن ثم بالسفارة التشيكية، كنت أرغب أن أكون أحد العاملين فى مشروع مفاعل الضبعة اليوم لأكون قد بدأت المشوار بالسد العالى مع الروس وختمته أيضًا معهم.
لا يمكن أن أفوت هذه الذكرى دون أن نرد الجميل لأصحابه لذا لزم أن أوجه الشكر لكل من ساهم فى بناء السد العالى، شكرًا لجميع القيادات العسكرية على رأسهم وزير السد العالى م. صدقى سليمان كان رجلاً متفانياً لا يترك موقع العمل بالمشروع ساعة من نهار فى كل الورديات وكل الأوقات يقف على رأس العمل حتى أننى ظننت أنه يقيم بالموقع، شكر آخر للخبراء الروس على رأسهم أصدقائى مستر إيفان ومستر أناتولى فقد علمانى خلال تلك السنوات ما لا تُعَلِمه الجامعات ولا تحيط به كتب الهندسة، وشكر أخير وجزيل لأصدقائى الذين طواهم الثرى، والموجويون على قيد الحياة حتى يومنا هذا. ربما يكون الزمن قد مر وباغتتنا السنين لكن الوقت لم يفت لنناشد الرئيس السيسى أن يكرم ما تبقى من بناة السد ليبقى المشروع الذى علمنا الإرادة والاستقلال والانتماء حياً فى الذاكرة ومشيرًا إلى إنجازات هذا الشعب حتى اليوم.