الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الموجة الثالثة من الهجوم

تشهد حفلاتُ التخرُّج فى الكليات العسكرية مراسم تسليم وتسَلم القيادة، ولعل الإمبراطوريات اقتبست هذا الطقس فى لحظة تسلم إمبراطورية من أخرى مركز قيادة العالم، لا توجد فى لحظة التسلم الإمبراطورى نفس المظاهر الاحتفالية فى الكليات العسكرية.



تتسلم الإمبراطورية الصاعدة قيادة العالم فى صمت وقوة وعلى الإمبراطورية الراحلة العودة إلى مقاعد الدول العادية والانزواء، ولا مانع أن يبدأ المؤرخون فى مجالسة الراحلة والاستماع إلى ذكرياتها عن أيام قوتها الغابرة.

يصبح تحديدُ لحظة تسلم القيادة أو الظهور الإمبراطورى الأول صعبًا مع وجود أكثر من لحظة فى أكثر من نقطة على مسرح أحداث العالم يتجلى فيها بداية الحضور الإمبراطورى الأول.

ارتبطت بداياتُ التجلى الإمبراطورى الأمريكى فى منطقتنا العربية بالمَراحل الأخيرة من تصنيع إسرائيل ثم غرسها فى المنطقة.. فى الأسبوع الماضى ذكرنا الحوار العاصف الذى دار بين الجنرال جورج مارشال والرئيس الأمريكى هارى ترومان.

 رفض مارشال بكل السبل أن تعترف الولايات المتحدة بإسرائيل؛ لأن وجود إسرائيل يتعارض مع مصالح أمريكا فى الشرق الأوسط، ولكن ترومان أصر على موقفه واعترف بإسرائيل بعد 11 دقيقة من إعلان قيامها بتأييد من اللوبى الأمريكى اليهودى، وعلى رأسه صديق ترومان أدى جاكو بسون.

تبدو للوهلة الأولى لحظة الاعتراف الأمريكى بإسرائيل هى لحظة التجلى الإمبراطورى الأمريكى فى منطقتنا واستلام القيادة من الإمبراطورية البريطانية التى غربت عنها الشمس، لكن الحقيقة أن التسليم والتسلم حدث قبل الاعتراف بعامَين فى 1946م، عندما تشكلت اللجنة «الأنجلو/أمريكية» لبحث مسألة يهود أوروبا والأوضاع فى فلسطين، كان التواجد البريطانى فى اللجنة مثل المدير الذى يُسلم عهدته للمدير الجديد ويُطلعه على جميع محتويات المخازن والخزائن للشركة التى كان يديرها وأيضًا آخر منتجات الشركة، الكيان الإسرائيلى الذى يتم تجهيزه للنزول إلى أسواق الشرق الأوسط.

من أجل حفظ ماء الوجه وضع أرنست بيفن وزير خارجية بريطانيا إطار عمل اللجنة فى ثلاثة توجهات، معرفة الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى فلسطين وتأثيرها على الهجرة والاستيطان اليهوديين، بحث حالة اليهود فى الدول الأوروبية؛ لأنهم ضحية للاضطهاد النازى والتدابير التى اتخذت أو التى سيتم اتخاذها لإنقاذهم، وتقدير عدد الذين يرغبون فى الهجرة إلى فلسطين، سماع آراء الشهود من ممثلى العرب واليهود بشأن مشكلات فلسطين وعلاقاتها بأحوال اليهود وتقديم التوصيات لحكومتَى بريطانيا والولايات المتحدة لمعالجة هذه المشكلات.

بدأت اللجنة عملها من نيويورك وواشنطن لتستمع إلى الجالية اليهودية وبعض الممثلين عن العرب، ثم عبَرت الأطلنطى إلى لندن وعدد من الدول الأوروبية لتتفقد أحوال اليهود فى القارة العجوز، ثم وصلت الشرق الأوسط فى فبراير46 لتكون محطتها الأولى والرئيسية هى القاهرة قبل القدس.

التقت اللجنة عبدالرحمن عزام أمين الجامعة العربية وعددًا من المسئولين والدبلوماسيين العرب ليشرحوا الوضع فى فلسطين ودعوها أيضًا لزيارة بلدانهم، وبتوصية بريطانية عقدت اللجنة لقاءً خارجًا عن سياق لقاءتها المعتادة فعقدت اجتماعًا مع مرشد جماعة الإخوان حسن البنا.

 كان هذا الاجتماع التقديم البريطانى لرجلهم حسن البنا وجماعته التى تخدم مصالح الإمبراطورية البريطانية للسادة الأمريكان الجدد، فمن ضمن ملفات التسليم والتسلم بين الإمبراطوريات ملفات العملاء أيضًا، ومن تلك اللحظة أصبحت الولايات المتحدة مسئولة عن كل من إسرائيل وجماعة الإخوان لتستخدمهما فى تحقيق مصالحها الإمبراطورية، وكان قدر مصر التصدى للاثنتين وللإمبراطورية اللتين تديرهما.

خرجت توصيات اللجنة متوافقة مع ما طلبه هارى ترومان من فتح باب الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتغيير قوانين تمَلك الأراضى ليصبح من حق اليهود تمَلك الأرض فى فلسطين.

 بعد عَشر سنوات من عمل لجنة التسليم والتسلم أو «الأنجلو/ أمريكية» أنهت مصر الوجود البريطانى تمامًا فى المنطقة بإعلان جمال عبدالناصر قرار تأميم قناة السويس، وبالتأكيد قرار التأميم حق كامل لمصر، إلّا أنه فى الوقت نفسه كان العامل الحاسم فى الظهور الأمريكى الجَلىّ فى الشرق الأوسط بعد أن تسلمت من بريطانيا زمام القيادة.

حاولت الولايات المتحدة القيام بصيغة توافقية تجمع بين مصر والوجود الإسرائيلى والإخوانى أيضًا، لكن القرار المصرى كان قاطعًا بالقضاء على الجماعة الإرهابية أولًا ثم التصدى للمشروع «الأمريكى/ الإسرائيلى» ثانيًا، أمام هذا الرفض بدأت الولايات المتحدة إنشاء وتفعيل الأحزمة الإقليمية والحدودية القائمة على المفهوم الدينى المحيطة بمصر (التى ذكرناها فى الجزئين الأول والثانى من هذه السلسلة).

كان هدف هذه الأحزمة تحجيم المشروع الحضارى المصرى، وهى المستخدمة حتى الآن وعلى رأسها تركيا بامتدادها الإخوانى وإسرائيل المتخفية وراء لافتة «السلام»، لكن كما ذكرنا فيما سبق فإن الصراع الإمبراطورى «الأمريكى/ الصينى» وثورة يونيو أثرا بشدة فى إحاطة هذه الأحزمة بمصر.

خرجت السعودية بتوجُّهها الانفتاحى نتيجة لثورة يونيو وانضمت إيران بكامل مُقدراتها إلى الإمبراطورية الصينية الصاعدة، بتسليمها أهم الموانئ على الخليج واستقبال قوات عسكرية صينية لحماية استثمارات ستضخها بكين بقيمة 400 مليار دولار مقابل كل الإنتاج الإيرانى من البترول والغاز، وفق المعاهدة الاستراتيجية التى وُقّعت بينهما فى 2016م، وتم التصديق عليها نهائيّا قبل فترة وجيزة لتنكسر الهيمنة الأمريكية على الخليج العربى المستمرة منذ الحرب العالمية الثانية.

فى ظل الصراع الإمبراطورى بين الولايات المتحدة والصين كادت أمريكا أن تفقد حليفها الإسرائيلى الذى تسَلمته من الإمبراطورية البريطانية لصالح الصين، فقد استطاعت الصين الوصول إلى الموانئ الإسرائيلية وعلى رأسها ميناء حيفا بمعاهدة مشابهة للمعاهدة الإيرانية غير وصول التعاون التكنولوجى بين الاثنتين لمراحل متقدمة.

كان تصريح خبير المدرعات ومدير المخابرات السابق ووزير الخارجية الأمريكى الحالى مارك بمبيو لا لبس فيه أن الاستثمارات الصينية فى إسرائيل خطر علينا، والصين تشترى إسرائيل، وفى ذروة جائحة «كورونا» وصل بمبيو إلى تل أبيب ليعلن لا علاقة بين إسرائيل والصين، وبعد يومين من مغادرة بمبيو عُثر على السفير الصينى «دو واى» الذى لم تَمُر أسابيع على استلام مهامه ميتًا فى ظروف مريبة داخل شقته بضاحية هرتسليا شمال تل أبيب!

كان آخر ما فعله الراحل «دو واى» كتابة مقال ردّا على تصريحات بمبيو، ولكن أخطرما يعرفه الأمريكان عنه أنه رجُل تنفيذ المهام الصعبة أو رجُل القضاء على النفوذ الأمريكى، وكانت آخر انتصارته قبل قدومه مباشرة إلى إسرائيل من أوكرانيا، رُغم الضغط الأمريكى على كييف والتدخل المباشر نجح «دو واى» فى أن تستولى الشركات الصينية على جزء كبير من المصانع الأوكرانية التى تُصنّع محركات الطائرات العملاقة، ولعل «دو واى» دفع ثمَن انتصاره الأوكرانى الذى حاول تكراره فى تل أبيب. 

الملاحظ هنا أن الصراع الشرس «الأمريكى/الصينى» مُفتقد لكلاسيكية لحظة التسليم والتسلم «الأمريكية/ البريطانية»، فمَهما كانت حدة التنافس بين أمريكا وبريطانيا فهُما من جذر حضارى واحد عكس التنين الصينى القادم من آسيا، وفى الوقت نفسه ترى الصين فى الشرق الأوسط وإفريقيا نقطة ارتكاز وتأمين على جميع المستويات لمشروعها الإمبراطورى.

أمام كل هذه المعطيات وفى ظل هذا الصراع الشرس لاتزال الولايات المتحدة تمارس ألاعيب الماضى فى المنطقة وتستخدم ما تبقى من أحزمتها ضد مصر لتحقيق نقاط فى الصراع ضد الصين، تُطلق البلطجى التركى وجماعته الإخوانية فى ليبيا وقبلها سوريا مقابل حسابتها الخاصة معه حول أقلية الأيجور المسلمة ذات الأصول التركية المتواجدة داخل إقليم شينجاينج البوابة البرية للمشروع الصينى.

تريد الولايات المتحدة من إسرائيل أن تكون حارسة لمصالحها فى إفريقيا ومناكفة للتواجد الصينى هناك، وتحاول إبعاد مصر فتصل هى وحليفتها إلى منابع النيل، تمارس الولايات المتحدة هذه الموجة الثالثة من الهجوم بعد فشل الموجة الثانية فيما يُسمى بالربيع العربى بنشر الفاشية الإخوانية برعاية «تركية/ إسرائيلية» لتحاصر الصين بحزام دينى شرق أوسطى.

يأتى التحرك الأمريكى المحموم وهى مطمئنة إلى أن ركيزة الصراع الأساسى فى الشرق الأوسط بين مصر والمشروع «الأمريكى/ الإسرائيلى» نائمة فى محطة «السلام». 

سبق «السلام» حرب أكتوبر المجيدة وقبلها التأميم، هذه القرارات المصرية المصيرية أسّست النظام الإقليمى الحالى المتشابك مع الوضع الدولى، ورحلت بسبب هذه القرارات إمبراطورية بريطانية ودولة عظمى هى الاتحاد السوفيتى.. لقد حققت الولايات المتحدة الكثير منذ العام 79، عام توقيع معاهدة «السلام» وتحقق الآن أيضًا. 

 بعد 40 عامًا وفى ظل ضغوط تأتى من الغرب والجنوب والشرق تدفع مصر ثمَنها بلا مناسبة بسبب استخدام الولايات المتحدة أذرُعها لتحقيق مكاسب فى صراعها الإمبراطورى، نعتقد أنه قد حان الوقت لعمل جداول جديدة لحساب ثمَن الطمأنية و«السلام». 

سمحت الطمأنينة ابنة «سلام» المعاهدة للولايات المتحدة بالتفرغ لصراعها الإمبراطورى فى بحر الصين الجنوبى ومطاردة إيران وعمل الحملات الدعائية وفرض القوانين على بكين بسبب الأيجور وشن الحروب التجارية والحفاظ على حليفتها إسرائيل وإطلاق يد البلطجى التركى الإخوانى.

لم تتعلم الولايات المتحدة من فشلها الذريع فى الموجة الثانية من الهجوم أمام إصرار هذه الأمّة وتتوقف عن ألعاب الماضى، نحن الآن فى الحاضر ومصر قادرة أن تحوّل هذه الطمانية إلى إزعاج وتهدم مصالح وتنشئ مصالح أخرى وتعيد ترتيب أوراق هذا الصراع الإمبراطورى، بل لا نبالغ إن قلنا حسمه لصالح أحد الطرفين، فالمخزون الحضارى المصرى لا ينضب والقرارات المصرية المصيرية جاهزة وستُستخدم فى اللحظة المناسبة.. وليس أكتوبر ويونيو ببعيد.

فى الوقت نفسه يستطيع المشروع الحضارى المصرى بسهولة استيعاب جميع الفرقاء وتثبيت الطمأنينة فى المنطقة دون الحاجة لهذه الألعاب القديمة والضغوط الساذجة، هذا المشروع يحتاج فى جزء منه إلى مظلة اقتصادية تعمل هذه الأمة منذ ست سنوات على بنائها بأيدى أبنائها، ترحب مصر المتسامحة، المستوعبة للآخر فى حدود كبريائها وسيادتها، الساعية إلى السلام الحقيقى بمن يشاركها فى البناء.

يبقى أمام الولايات المتحدة فى لحظة الحساب والصراع خياران؛ إمّا أن تصر على رفض تحذير الجنرال جورج مارشال أو تستلهم مشروعه الأوروبى لتشاركنا البناء.. ولن تنتظر مصر طويلًا؛ لأن كل الخيارات والقرارات بَعد ثورة يونيو متاحة أمامها.