الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

«صندوق الدنيا الذى سمعنا به قبل أن نراه»

 سمعت عن التليفزيون وأنا طفل قبل أن أراه، كان أحد زملائى فى الفصل فى المرحلة الابتدائية يحكى أنه شاهد بالأمس أم كلثوم وهى تغنى وتعجبت، كيف شاهدها ونحن فى بلد بعيد عن القاهرة؟! وسألته ببراءة «هل تحدثت إليها؟» نظر منذهشاً وقال «كيف أتحدث إليها وهى تغنى فى التليفزيون؟! آه التليفزيون، وفكرت، أليس هو الجهاز الذى سمعت أن جدى اشتراه هذا الأسبوع». 



 

كان شراء التليفزيون فى بداية الستينات حدثًا عظيمًا لم تقدر عليه سوى عائلات قليلة. كان إيريال التليفزيون فوق سطح أى عمارة مثار فخر لسكانها ومصدر غيرة بين النساء، يكفى أن تشترى أسرة واحدة التليفزيون وترفع الإيريال بسلكه الطويل فوق السطح حتى يبدأ ضغط النساء على الرجال لشراء التليفزيون.

أتأمل ما فعله بنا التليفزيون خلال ستين عامًا، خصوصًا أننى والتليفزيون نتقارب فى الأعمار، والدور الذى لعبه التليفزيون فى حياتى وحياة جيلى يبدو لى بسيطًا أحيانًا كصندوق الدنيا الذى ينشر البهجة، وكثيرًا ما يبدو كنافذة على العالم رأينا منها ما كان مستحيلًا يومًا أن نراه، ولكن فى حقيقة الأمر إن دققنا النظر وفتشنا فى التاريخ كما يفتش العلماء سنجد أن التليفزيون لعب دورًا خطيرًا فى تنمية المجتمع المصرى لا يقل عما فعلته كثير من المشروعات القومية التى تزامنت مع ظهوره.      

شاهدت التليفزيون لأول مرة فى بيت جدى لأبى، ومع ظهوره، بدأنا نرى مباريات كرة القدم، وتعرفنا على نجوم كنا نسمع عنهم فقط، كان أبى رحمه الله يعشق النادى الإسماعيلى ويتابع مبارياته من الراديو، ويحدثنى عن شحته ورضا وباقى الدراويش. الطريف أنه ظل يتابعهم سماعًا فقط حتى بعد ظهور التليفزيون! وأظن أن الخيال الذى كان قد رسمه للاعبين الذين أحبهم مع الراديو كان أجمل من الواقع الذى أظهره التليفزيون بدون تجميل. 

كان بيت جدى ملتقى معظم أطفال العائلة، حيث اللهو والشقاوة وإزعاج الآخرين، ولكن بعد شراء التليفزيون أصبحت للزيارات هدف آخر وهو مشاهدة التليفزيون. كان أحد أعمامى من المقيمين فى بيت جدى شديد التعصب للزمالك، لا أتذكر أن شاهدت هناك مباراة للأهلى وأنا صغير، ولم يكن مسموحًا لطفل أهلاوى مشاهدة المباريات، وإن حضر أحد الأطفال مرتديًا قميصًا أو تشيرت أحمر منعه من الدخول وأعاده لأهله، وعاقب أحدهم مرة بأن حبسه بردائه الأحمر مع ديك رومى فى أحد الغرف كشكل من أشكال التعذيب حتى لا يرتدى اللون الأحمر بعد ذلك، فاللون الأحمر يجعل الديك الرومى يهتاج ويهاجم من يرتديه. وهكذا انتشر الزمالكاوية فى العائلة ولم أعد أرى فيها أهلاويًا إلا نادرًا.

ومع انتشار التليفزيون، كانت شوارع دسوق تبدو خاوية فى أوقات معينة، مع المسلسل العربى، وبعض المسلسلات الأجنبية مثل «الهارب» و«منزل صغير فى البرارى» و«جذور» وغيرها. وأيضًا أثناء مباريات كرة القدم، وعندما يكون هناك خطاب لجمال عبد الناصر موجه للجماهير.

وفى وجه قبلى أيضًا لم يكن دخول التليفزيون إلى المنازل أمرًا سهلًا على البعض. 

يومًا ما، وأنا أعمل فى الصعيد الجوانى فى الثمانينيات، ذهبت للكشف على إحدى المريضات وكانت سيدة عجوز، لاحظت احمرار وجهها خجلًا لحظة دخولى غرفتها، وهربت إلى أطراف السرير حين اقتربت منها لبدء الكشف. لاحظ ذلك ابنها الشاب فابتسم وقال لى: «معلش يا دكتور استحملها شوية، أصل إنت أول راجل غريب تشوفه فى حياتها» واستدرك وقال «الكذب خيبة يا دكتور، إنت تانى راجل مش الأول» وعندما بدا علىّ الاندهاش قال: «أول راجل كان مذيع فى التليفزيون، لما اشترينا التليفزيون أول مرة، وفتحناه وظهر المذيع فجأة، أمى ماستحملتش منظر الراجل الغريب وغطت وشها على طول وخرجت وسابت الأوضة».

ومع هذا، عندما سأل الباحثون النساء فى ريف مصر شمالًا وجنوبًا عن المصدر الذى يعتبرونه الأهم فى الحصول على المعلومات المتعلقة بصحة الأم والطفل كان التليفزيون يتفوق على كل وسائل التواصل الأخرى فى التأثير على مستوى المعرفة وتغيير السلوكيات والمفاهيم إلى الأحسن.

ترى ماذا يخبئ لنا القدر فى المستقبل، ينحسر دور التليفزيون هذه الأيام ويكاد يقترب من النهاية، فمع تطور التكنولوجيا وانتشار شبكة الإنترنت، لم يتبق من التليفزيون سوى شاشة نرى منها العالم أوضح والمستقبل أقرب.