الإثنين 21 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الجزار فنان الثورة.. والحلم القومي

مثلما ودّع مثّال مصر مختار الحياة بعد الأربعين بقليل بعدما  ترك «نهضة مصر» و«الخماسين» وعشرات  الأعمال التى ستظل شاهدًا على جذوة إبداعه التى لا تنطفئ. رحل الفنان عبدالهادى الجزار مبكرًا، بعد أن صنع أسطورته بعالمه السحرى رغم رحلته القصيرة مع الحياة «1925 - 1966» والتى لم تتجاوز 41عامًا.



 

هذا العالم الذى ينتمى فى البداية إلى أعمق أعماق الإنسان البدائى والطقوس الشعبية، التى غاصت فى الوجدان المصرى، وفى الجانب الآخر خاطب إنسان القرن العشرين بكل همومه وأحلامه ونوازعه وأفكاره ومعضلاته، كما فى مرحلة الفضاء.

وفوق كل ذلك يعد فنان الوطن والثورة، وقد أبدع أعمالًا جسَّدت الحلم القومى، بمثابة علامة من علامات فنه والفن المصرى الحديث، والسر فى هذا يرجع إلى أنه عاش وجدان شعبه وتأمل -بحسه الوطنى- طموحه للتغيير من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والحلم بغدٍ أفضل، وكانت هناك جذور وإرهاصات تعتمل بداخله، جسدتها ريشته فى دنيا من الأضواء والظلال قبل أن يعلن عن روائعه التى واكبت ثورة مصر 1952، وتعد آخر إبداعاته التى وصل بها  إلى حد التوهج بقوة وحيوية فى  التشكيل والتعبير. 

عاش الجزار  كما يشير أستاذه حسين يوسف أمين رائد جماعة الفن المعاصر: فى ظروف نضج فيها فكره وعقله وتفتح على مأساة بلده وهو مقسم نهبًا بين الاستعمار والإقطاع، تتمثل أمامه فصول هذه المأساة، وهو يعيش فى حى السيدة زينب عندما تتجه الحشود من البشر، تمشى فى بحر من الغموض تلفها ثياب التقاليد البالية والمتناقضات، تحمل راية  اسم الله، لعلها تجد فيها الحماية من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان. 

وقد أثارت فى نفسه هذه المشاهد والصور، مشاعر الأسى والحزن والألم والتعاطف بينه وبين هذه الجماهير، فلم يقبل الفنان الثائر الشاب أن يكون مهادنًا فى فنه، مع هذه الأوضاع السائدة فى المجتمع فى ذلك الوقت، خاصة وكانت جماعة الفن المعاصر، قد تكونت عام 1946 و شعارها «الفن والمجتمع»، هدفها التعبير عن حقيقة الواقع ونقد وكشف المستور من علل المجتمع.

فى عام 1949 أبدع الجزار لوحته «الكورس الشعبى» و«الجوع» والتى صور فيها سبع نساء ورجلًا، أمامهم على الأرض صحون فارغة وإبريق ماء، فى تكوين سيريالى صادم، بما يجسد أوضاع غير منطقية، كالمرأة العارية التى تجاور امرأة منتقبة، واللوحة تصورفى تركيب درامى  ما كان عليه مجتمع ماقبل ثورة 1952.. من جوع وحرمان والإبريق هنا يعد رمزًا للعطش  لحياة كريمة.

وقد قبض على الجزار وحسين أمين وقُدما للتحقيق بسبب هذه اللوحة، التى اعتبرتها الملكية هجومًا  على النظام الاجتماعى، وتدخل الفنانان محمود سعيد ومحمد ناجى فى ذلك الوقت باعتبارهما من المشتغلين السابقين بالسلك القضائى والسياسى واستخدما نفوذهما فى نفى التهمة عن الجزار وأستاذه فأفرج عنهما.  

تحقيق الحلم 

  شهد  الجزار فيما بعد مواكب أخرى، رأى تحقيق الحلم.. مرحلة أحداث ثورة يوليو سنة 1952.. من  مواكب النصر ومواكب العلم وهى تسير فى عصر الفضاء فى الجامعة، ومواكب  العمال تسير نحو المصنع وفى السد العالى، ومواكب الفلاحين وهم يخرجون من وراء أسوارالإقطاع ويدخلون الأرض الخضراء، لقد رأى صورًا ومشاهد كثيرة تختلف عن الأولى، فأخرج إنتاجًا رائعًا جاء فى لوحات خالدة. 

ففى لوحة « الميثاق - 1962» الحائزة على الجائزة الأولى فى أمجاد الثورة فى عشر سنوات، يتطابق الحلم والواقع فى إيقاع رمزى،  من المرأة المتوجة بالنسر رمز مصر كشجرة فروعها فى السماء، تحمل الميثاق الذى يمثل فكر الثورة، والفلاح يحمل فى كفيه القطن والغلة، والعامل راكعًا بمفتاحه محفوفًا  بالمكن والتروس، وبينهما أبوقردان صديق الأرض والفلاح، وفى الخلفية بيوت ومراكب ومدائن مع الشيخ والقسيس، إنها مصر الحاضر والمستقبل. 

وتبلغ لوحة «السد العالى - 1964» ذروة من ذرى فن الجزارببلاغتها الرمزية، يبدو فيها إنسان السد شامخًا بعيون متطلعة، تستطيل رقبته التى تتحول فيها الأوردة والشرايين إلى دنيا ميكانيكية من الصواميل والعدد والتراكيب الهندسية تدب فيها الحياة، محفوفة بصور النهضة ورموز العلم الحديث والتوثُّب نحو واقع جديد، واقع المجتمع الصناعى، إنسان السد هنا جاء بملامح الزعيم ناصر عملاقًا رأسه فى السماء وفى العام نفسه أنجز الجزار لوحته «إعادة البناء بالعلم» والتى جسد فيها رجل العلم يتطلع إلى دنيا جديدة من خلال الميكروسكوب، تأكيدًا على هزيمة الخرافة وسار الاتجاه العلمى جنبًا إلى جنب مع التكنولوجيا وهيمنة الآلة. وقد جاءت لوحته «حفر قناة السويس» والتى صورها « 1965» ملحمة أخرى، تحتشد بجموع البشر وحركة السواعد مع الخيام والروافع والدواب خاصة الجمال، وهى  حافلة بالحركة وتنوع الأبعاد، وإبراز العمق  مع ثراء الدرجات اللونية، التى يغلب عليها لون واحد هو الأزرق النيلى وهو لون وثائقى.

وإذا كان الجزار قد أبرز معاناة الفلاحين المصريين فى حفر القناة فى الشمس الحارقة، فقد جسد تلك الخيام التى كانت تأوى الإنجليز، وكان وراء اللوحة ما يعد إجابة شافية بعد تأميم القناة فى عهد الثورة، شركة مساهمة مصرية، وبعد أن آلت ملكيتها للشعب المصرى، صاحب المعاناة والإرادة فى نفس الوقت.

لوحة السلام 

تمثل لوحة السلام اللحن الأخير فى أعمال الجزار، وهى لوحة صرحية ضخمة «زيت على ابلكاش– 85 -123سم»، تعد بمثابة ملحمة للسلام، استلهامًا من دعوة التعايش السلمى والسلام العالمى وعدم الانحياز التى تبناها الرئيس جمال عبدالناصر، مع مجموعة من القادة الكبار من بينهم نهرو وتيتو، والسلام هنا  من أجل رخاء العالم، فصور الجزار بناية صرحية ضخمة بجناحى السلام وكأنها قدس أقداس السعادة  والوئام، بينما تطل أعلام الدول المختلفة، ووقوف ملوك ورؤساء العالم خلف منصة كبيرة، وعروس تجلس داخل محارة ضخمة فى ثوب الزفاف، وتبدو الحركة الدائبة للبشر ينضمون إلى هذا الموكب العظيم، وكأن السلام بمثابة الموكب الأخير للجزار، وآخر كلماته وآخر لمسة له إعلانًا وتأكيدًا على إخلاصه الشديد للثورة ومبادئها، وقيمها وتأثيرها على مصر ومختلف شعوب العالم، بعيدًا عن التكتلات السياسية، وهيمنة الغرب.

سلام على عبدالهادى الجزار، فنان الوطن والثورة، وتحية إلى أعماله بعمق مساحات التألق والتوهج.