الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

شائعة تعيد البهجة للإسكندرية!

 لا يوجد محافظة فى مصر تحمل ملامح نشأتها الحضارية والتاريخية مثل الإسكندرية! 332 عامًا قبل الميلاد ليومنا هذا وكل تاريخها محفور فى تفاصيلها.. من تقسيم شوارعها، لآثارها، لطابعها الثقافى، حتى نسيم هوائها وبحرها، ومخزون التراث العالمى الذى يميز سكانها؛ باعتبارهم أبناء تلك المدينة المصرية الكوزموبوليتانية Cosmopolitan City بشطآنها الممتدة على ساحل البحر المتوسط لحوالى 32 كيلو مترًا.. استوعبت الكثير من الجنسيات واللغات والثقافات!



 

أفتقد مدينة الإسكندرية شتاء! وفى الصيف أشتاق لعبيرها الذى نشأتُ عليه، بل ومهما تبدلت المصايف وتغيرت بين الغردقة وشرم الشيخ، ومرسى علم، وغيرها، تبقى هى المصيف الأول والأقرب لقلبى ولقلوب الكثير من المصريين! فقررتُ زيارتها؛ لأعيش تفاصيل الحياة اليومية كأهلها، متخذة جميع إجراءاتى الاحترازية.. رغبة فى التمتع بوجودى فى ظلالها، ومشاهدة متغيراتها، وكيف تستعد لاستقبال المصيفين فى ظل مأساة ڤيروس كورونا وعيد الأضحى.

 المدارس، والسينما، ومحطة الرمل، ونزهة الكورنيش، وزيارة حى بحرى، والمنتزه، والقلعة، وسوق العطارين، وكوبرى ستانلى، والجلوس فى الكافيهات والكاڤيتريات الخاصة. بجدرانها الزجاجية التى تمكن الناس من رؤية البحر. فندق توليب، ومول سان استيفانو...و..و...  

كسر روح السأم.

كل شىء مختلف فى الإسكندرية عن العام الماضى.. حينما زرتها فى مثل تلك الأيام! بداية بالمرور من البوابات، حتى دخول المدينة التى كانت لا تنام. أتأمل الناس والشوارع والأماكن، فأرى كيف تغيب البهجة والتفاؤل عن ملامح الإسكندرانية الذين يعشقون الحياة، فلم تعد وجوههم مرحة ولا تملؤها بالحياة! وكأنهم يؤجلون التنفس واستعادة البهجة لوقت لا يعلمون عنه شيئًا!

 تظهر ملامح القلق والاستسلام للمجهول خلف الكمامات التى يرتدونها، رغم عدم التزام الكثيرين بها.. فى ظل انتشار شائعة تقول «كورونا انتهت» ربما أراد من أطلقها كسر روح السأم والملل التى تسيطر على كل شىء فى المدينة.. حتى البحر نفسه! ورغم هذا فلا توجد أية بادرة لعودة الحياة لا بالمسارح التى اصطفت بالشارع المواجهة للكورنيش، ولا بالسينمات داخل المدينة!

 أما محطة الرمل وزنقة الستات وجميع محال البيع والتسوق الشهيرة بالمدينة، فتغلق محالها فى التاسعة مساء، كالعادة منذ حلول الحظر! وبعدها بساعة تغلق محال الطعام، فتتحول المدينة لشوارع كئيبة، تغيب عنها ضوضاء الحياة، وكأن ڤيروس كورونا أعجبه الحال هاهنا، فلا تنبئ الأحوال لا عن مصيف ولا تظهر بها مظاهر العيد.. 

مارينا تفتح البحر

أخذتنى قدماى لزيارة بيت جدى فى العمارة ذات الطراز الإيطالى العريق بشارع پورسعيد- كامپ شيزار، لتسبقنى ذكريات الطفولة والصبا بالمكان مع الأهل والجدود! الشوارع الواسعة التى شهدت نمونا كل عام، والجيران، ومحلات الطعام والبقالة، والاكسسوار، والسوق، حتى رائحة الفرن البلدى، والجزار وبائع الخضار.. وكل ما كنا نشتريه ونأكله بنهم لاختلاف طعمه ومذاقه عما نأكله بالقاهرة!

 كل شىء تغير، وماعاد شارع پورسعيد كالذى عهدته، بعدما هُدِمت بعض بناياته القديمة وتحولت إلى أبراج سكنية، فضاقت الطرق، وأظلم الطريق المؤدى إلى البحرعبر الشوارع الجانبية الشبيهة بالتل فى صعودها، والمنحدر فى هبوطها أثناء الذهاب والعودة من وإلى كورنيش البحر، وقيل لنا إن تصميمها يعود لأيام الإسكندر الأكبر، بغرض الحفاظ على عدم غرق المدينة بمياه البحر! 

كنت أتطلع إلى ركوب الترام الذى يميز الإسكندرية الحبيبة، بنوافذه المفتوحة، وصوت صليل تلاقى عجلاته مع الشريط الأرضى الممتد يحمله فى اتزان، ما لم يميله زحام المصيفين فى سنوات ما قبل كورونا! فعادت إليَ عادة تخمين ما إذا كان ركابه من المصيفين أو الإسكندرانيين، حيث دائمًا ما يظهر أبناء البلد غاضبين ومتجهمين لرؤية ما يحل بمواصلاتهم العامة من الضيوف غير المرغوبين!

 بينما فاجأنى حال الترام بأرضيته المتسخة وألوانه الكالحة، رغم غياب المصيفين بنسبة تفوق نصف العدد المعتاد – كما أخبرنى أصدقائى شريف فرنسيس، وأمير كمال، ومروى محمود، وحنان وديع، الذين قابلتهم بالترام.. أثناء عودتهم لبيوتهم من عملهم بجمعية كاريتاس مصر- مكتب الإسكندرية، وأخبرونى أن هذا العام لا يوجد مصيف بالإسكندرية! حتى الإسكندرانيون أنفسهم لن يصيفوا هذا العام لا فى مطروح، ولا البحر الأحمر- كعادتهم- ماعدا مروى التى ربما تقضى عيد الأضحى بالساحل الشمالى، خاصة وأن مارينا ضمن القرى السياحية التى «تفتح البحر»! 

البحر اللازوردي

بعد نزولهم، تأملت الشوارع، واستعدت ذكريات الطريق إلى سيدى بشر ومحطة الرمل! ومدرسة چيرار (بحى بولكلى الشهير ببوكله) التى شهدت معسكرات الشباب، وشجر المانجو فى حديقتها، والمطبخ الذى تحمل خبراتنا الصغيرة المليئة بالمرح والتفاؤل رغم سوء الطعام!

 شاطئ ستانلى، والمنتزه والمعمورة، والعجمى - قبلما يتحول إلى شواطئ هانوڨيل والبيطاش الشعبية-! وحى بحرى.. بحيويته وتميز أبنائه باللهجة الإسكندرانية الأصيلة! سوق السمك الذى لا ينام، وجولة الأتوبيس ذي الدورين... الذى لم يعد يجد من يركبه! 

إلى شارع سيزوستريس حيث منزل شقيقة أمى، حينما كانت النظافة والهدوء بشكل أو آخر من أهم ما يميز ذلك الشارع ويمنحه الطابع الحميم، ولا أعرف إن كانت تلك سمات كل البيوت فى هذا الوقت أم هى سمة البيوت بعائلة أمي؟ كان البيت يطل على النادى اليونانى العريق، فأتابع مع بنات وأبناء الخالات أنشطته الرياضية والفنية، ونتنافس على لفت نظر صديقنا اليونانى إيدى لاعب كرة السلة الذى كنا نناديه فيضحك معنا، لنشجعه!

حينما دخلت الشارع، فوجئت بكم صناديق الزبالة التى تحاصره! وعدد الأطفال الذين يلعبون بالطرقات كأن أهلهم لم يسمعوا عن شىء اسمه كورونا!  فتأكدتُ أن وجوه الناس المبتسمة دائمًا فى ملابسها النظيفة الأنيقة الذين رأيتهم منذ سنوات الصبا.. مجرد ذكريات لن تعود!! 

ثم توجهتُ إلى البحر من أحد الشوارع الجانبية. واتخذت طريقى الصاعد إلى شارع الكورنيش بأنفاس متماسكة، وشيئًا فشيئًا.. تراءى لى لون البحر اللازوردى البهيج من بعيد، وامتلأت أنفى برائحته وصوت هدير أمواجه المتخبطة التى تعلن استمرار الحياة.. تلك اللحظات التى جعلت المهندسة نجوى إسماعيل تخطط مع زوجها المهندس محسن عبدالراضى منذ منتصف يونيه لإيجار شقة بتجمع الشقق المفروشة بشارع خالد بن الوليد، للتمتع بجو البحر وهوائه المنعش الذى يرد الروح كما تقول، نتيجة لإصابتها بحساسية مفرطة تتجدد -منذ سنوات- مع شهر يوليو وأغسطس وتسبب لها آلامًا عصبية غير محتملة! فقرر الزوج هذا العام الاستفادة من هبوط أسعار الشقق بالإسكندرية، لقلة عدد المصيفين، وحجز شقة تطل على البحر لمدة شهرين! سألته عن الإجراءات الاحترازية، فابتسم قائلًا: هواء البحر يقتل كورونا!

ممنوع أكل الفريسكا 

لحظة ملامسة قدمى لرمال البحر التى يسرع الموج إليها ويغطيها.. كانت من اللحظات الممتعة التى صارت حلمًا بعيد المنال فى ظل قرار منع نزول البحر، ولا حتى السير على الشاطئ! أما الكاڤيتريات، فمفتوحة للساعة العاشرة للزوار الذين لم يزد عددهم عن الأيام العادية! بينما الصيف فى الإسكندرية يبدأ بعد الساعة الثانية عشرة- كما قالت لى حنان وديع وأمير كمال-! غاب صوت باعة الفريسكا على البحر.. إلا بعضهم ممن  يظهرون من حيث لا ندرى، حينما يتجمع بعض المصيفين الذين يتجرأون على اتخاذ مواقعهم بأحد الشواطئ الشعبية مثل سيدى بشر، والعصافرة، والمناطق الصخرية التى يغامر البعض بالنزول فيها، لابتعادها عن عيون الشرطة! وبعض من يغامر باتخاذ موقعه على الرمل، ولا يتردد فى تأجير كم شمسية وبعض المقاعد للاستمتاع بمنظر البحر دون نزوله! 

وفى المساء، وعلى العكس من سنوات عديدة، تحسن الطقس هذا العام، خاصة بعدما التأم ثقب الأوزون - مثلما أخبرنى المهندس محسن عبدالراضي- وتحولت أنسام البحر لبرودة فى بعض الأمسيات التى كانت تحتاج لباعة الترمس والفول والبطاطا، فوق الكورنيش، لكنهم لم يعودوا موجودين! وما أكثر الملل فوق المقاهى بالضفة الأخرى المواجهة للبحر، حينما تصبح أعداد المارة قليلة، خاصة إذا ما قررت الصحبة المعتادة فى المصيف الانعزال خوفًا من كورونا!

 قررتُ شراب السحلب الساخن تشجيعًا لتلك المقاهى، مع القراءة الإليكترونية عن الإسكندرية عبر الإنترنت، فعرفت أن شارع فؤاد يعد أحد أهم شوارع المدينة، كما يعد من أقدم شوارع العالم، ويتميز بطراز العمارة اليوناني والفن الإيطالى المعمارى الفلورنسى. أما الأزاريطة، المُعربة من كلمة لازاريت أو لازاريتا الفرنسية الإيطالية، ومعناها الحجر الصحى، فهى منطقة خصصت -منذ أواخر القرن التاسع عشر- كحجر صحى للقادمين من الخارج إلى ميناء الإسكندرية، إذا ثبت أنهم مرضى أو يحملون أمراضًا معدية! 

تلفحت بشالى الأسود، لتلافى نسمات الهواء المبالغة فى التحسن، وأنا أغادر القهوة! تأملت البحر ليلًا لآخر مرة، وقررت المرور بمكتبة الإسكندرية، وفندق توليب، وزيارة منطقة كفر عبده -لأتعرف على سبب اعتبارها أرقى منطقة-  قبل مغاردة مدينتى المفضلة التى قال عنها أحمد شوقي: «الإسكندرية هى التاريخ والحضارة والمجد».. إلى القاهرة!