الإثنين 11 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

عمارة ملكة الأسطوانات 

فى شبرا وشوارعها الشهيرة، تبهرك عمارات لا تتخيل أنها لاتزال موجودة، بطابعها المميز لعمارة القرن التاسع عشر، التى شاعت فى أوروبا وانتقلت لمصر، مع نهضتها الحديثة.. من بين هذه العمارات، العمارة رقم 79 شارع طوسون، التى لا يعرف أحد من أصحاب المحلات الموجودة بها أو حتى المحلات المجاورة لها، شيئًا عن المطربة الشهيرة التى امتلكتها  فى العشرينيات  وعاشت فيها حتى باعتها فى أوائل الستينيات.



 

لكن تُوثِّق لتلك السنوات ولتلك المطربة، لافتة مشروع الجهاز القومى للتنسيق الحضارى «عاش هنا» الملصقة بجوار باب العمارة، المفتوح على حارة جانبية «سكة العروسى»، المكتوب عليها اسم نعيمة المصرية وبجانبها تاريخ «1 يونيو 1894-26 ديسمبر 1976».. من بلكونة الطابق الرابع، آخر طوابق العمارة، كانت تشدو نعيمة المصرية بأغانيها الوطنية خلال ثورة 1919، يا بلح زغلول..ياحليوة يا بلح، ياولد عمى يا بوى، على يوم ما خدونى الجهادية، فلصوتها القوى مثل شخصيتها، طلب منها سيد درويش أن تغنى هذه الأغانى،  حتى تصل للناس ويرددونها، وخاصة لحنه الشهير يابلح زغلول بعد أن منعت سلطة الاحتلال البريطانى تداول اسم سعد باشا على ألسنة الناس.

نعيمة الملقبة بملكة الاسطوانات، لغزارة إنتاجها الذى بلغ 150 اسطوانة، وبملكة الجراما فون، وسلطانة الطرب، وكروانة الشرق، من أشهر مطربات مصر فى العشرينيات، وُلدت فى 1894 بحى المغربلين، بقاهرة المعز، لأم ذات أصول مغربية وأب مصرى.. حفيدتها الاقتصادية د. ضحى منير، حفيدة «فردوس» ابنة نعيمة، والتى عاشت مع جدتها الكبرى نعيمة، حتى تُوفيّت وكانت ضحى فى الثانية عشرة من عمرها، تؤكد أن جدود عائلة نعيمة، تجار حرير، تنقلوا بين مكة وليبيا والمغرب، واستقروا فى مصر، وتزوجت نعيمة فى سن التاسعة من صديق والدها، وكان يكبرها بكثير، وعاشت مع زوجها في  بيت أسرتها، ورزقت ابنتها الوحيدة فردوس التى رزقت بها وهى فى الخامسة عشرة.

الهروب والعودة

لحب نعيمة للغناء، تعرفت على مغنيات وعوالم سكنّ بجوار شقتهم، وشجعتها إحداهن «السورية عزيزة المظلوم» على الغناء، وبالفعل بدأت نعيمة رحلتها مع الغناء فى 1911، ما أثار  غضب عائلتها ومنعوها من الغناء، فهربت الى حلب برفقة عزيزة، تاركة ابنتها الوحيدة فردوس..  تلقفتها فى سوريا المطربة «رحلو جرادة»، وبقيت نعيمة فى حلب 4 سنوات، تعلمت فيها أصول الغناء والمقامات والعزف على العود، وتمكنت من كتابة وقراءة النوتة الموسيقية، وأُعجب بها السميعة هناك وأعطوها الإجازة، وفى سوريا قابلت سيد درويش فى إحدى حفلاته، فاستمع لصوتها، ونصحها بالعودة لمصر، ووعدها بأن يتبناها فنيًا.. وبالفعل عادت نعيمة لمصر فى 1914، وكان زوجها قد طلقها بعد هروبها، فعاشت مع ابنتها، وتعلمت على يد سيد درويش الطقاطيق والموشحات، وأُعجب بصوتها وأدائها، وقال هذا هو الصوت الذى أبحث عنه، لتشدو نعيمة بألحان سيد درويش وكتابات  بديع خيرى والشيخ يونس القاضى. واشتُهرت بالأغانى الوطنية ومنها أغنية «يا عزيز عينى أنا بدى أروح بلدى»، والأغنية الوطنية الشهيرة «خد البزة واسكت.. خد البزة ونام»، «يا بلح زغلول»، وأغنية وطنية بمناسبة اكتشاف مومياء توت عنخ آمون فى 1922.. لم تقف موهبة نعيمة عند حدود الغناء، بل شاركت بالتمثيل أيضًا فى فرقة على الكسار، كما مثلت مع سيد درويش فى كل مسرحياته الغنائية، وعندما ذاع صيتها، عملت فى مسارح عماد الدين وروض الفرج وصالات بالإسكندرية والمنصورة، وأصبح لها جمهور خاص، وفى 1922 أصبح لها صالة خاصة بها بشارع عماد الدين أسمتها «الهامبرا»، ولحن لها أشهر ملحنى ذلك الوقت، داود حسنى وزكى مراد والقصبجى وزكريا أحمد الذى لحن لها أغنيتها المشهورة «تعال يا شاطر نروح القناطر»،. وغنت لعبدالوهاب أغنية واحدة، أو دورًا واحدًا هو «قوم هات لى بدلة».

عمارة بفخامة قصر

أقف أمام عمارة 79 شارع طوسون، ذات الأربعة طوابق التى اشترتها نعيمة فى العشرينيات، وسكنت الطابق الرابع مع ابنتها فردوس واختها وابنة أختها. 

أتأمل العمارة التى تشبه عمارات الأحياء الراقية فى الزمالك وجاردن سيتى،  بارتفاع طوابقها، والطوب الذى يزخرف الواجهات، وأشكال الشبابيك، وكلها عناصر تميز عمارات فن الآرت نوفو، الذى ساد فى عمارة القرن 19، بخطوطه المنحنية والأشكال المتموجة والأخرى ذات الأقواس والزخارف المعدنية ذات الأزهار.. أبحث عن كتابة تدل على تاريخ العمارة، مثلما هو الحال فى الكثير من عمارات ذلك العصر، فيؤكد لى شريف محمد الشيخ، ابن أقدم ساكن فى العمارة، أنها بنيت فى العشرينيات. شريف الذى يسكن شقة الطابق الأول بعد وفاة والده، صاحب محل الجزارة الشهير بشارع شبرا.. العمارة من أقدم بيوت شارع طوسون التاريخى،  الذى ينتهى بقصر الأمير عمر طوسون حفيد  سعيد باشا ابن محمد على،  وكان الشارع يتميز بأشجاره وبيوته الضخمة، التى امتلكها بعض الفنانين القدامى،  مثل منيرة المهدية، ويقال أن صاحب عمارة نعيمة كان جواهرجيا.. «كل طابق به شقة واحدة، مكونة من 5 غرف  وحمامين ومطبخ، ومازال المستأجرون يدفعون إيجارًا لا يتجاوز 5 جنيهات و75 قرشا»، بحسب شريف الذى استأجر والده الشقة عام 1954، ومن قبله سكنت خياطة يونانية، قبل أن تبيع نعيمة العمارة فى أوائل الستينيات، لمحمد البربرى،  وهو جزار شهير بشارع الجمهورية، ومالكها حتى الآن.

عمارة محمولة بثلاث واجهات 

وكأنها تمثال ضخم أو أبو الهول منحوتاعلى قاعدة حجرية، أو عمارة محمولة !! هذا ما ينطبع فى ذهنك، حين تتأمل العمارة ذات المدخل المرتفع عن مستوى أرض الشارع، المقامة على قاعدة حجرية ضخمة، وطوابقها التى يرتفع الواحد فيها إلى 5 أمتار.. وكأنها ستبقى بمفردها فى الشارع، ليتأملها الذاهبون والقادمون من الجهات الثلاث، غير الظهر الملاصق لعمارة خلفية، هكذا بالتأكيد كان يفكر مصمم العمارة الذى حرص على أن يكون لكل واجهة تصميم مميز، يشد الانتباه.. الواجهة الأولى على شارع طوسون يعلوها شريط من الزخارف الجصية، فوقه تندة من الأسمنت، وتتميز بنوافذ ونوعين من البلكونات، صغيرة بباب من الشيش العادى،  وأخرى فراندة واسعة تعلوها حليات من الجص، وبابها يشبه باب الشقة، بضلفتين من الزجاج والحديد المشغول، تعلوه شراعة كبيرة.. أما الواجهة الثانية فيعلوها شريط عريض من الجص، عبارة عن زخرفة المقرنصات التى عُرف بها فن العمارة الإسلامية، وخاصة فى المساجد. وتطل على حارة «سكة العروسى»، وبها باب العمارة الذى لايزال بحالته، بضلفتين من الحديد المزخرف بزخارف هندسية وتجريدية ونباتية، ووريدات تميز «سمات طراز فن الآرت نوفو»، يعلوه شراعة مستطيلة من الحديد الفورفورجيه، مزخرفة على هيئة أقواس.. وللباب إطار من الجص، يتوسطه من أعلى زخرفة جصية بهيئة محار بداخلها شكل دائرى، نقش به شكل الهلال والنجوم، ويأخذك الباب إلى درابزين السلم وهو من الحديد الفورفورجيه، يشبه درابزين البلكونات الحديدى..  وتطل الواجهة الثالثة على منور لعمارة مجاورة، وبها شبابيك لغرف وشبابيك لسلم العمارة تنتهى من أعلى بشكل قوس، بضلفتين من الخشب والزجاج وشراعة من أعلى مزخرفة  بقطع من الطوب على شكل نصف دائرة، ويلفت فى الشبابيك أنها تبدأ بحجم صغير فى الطابق الأول، ثم يكبر حجمها كلما ارتفعت الطوابق. . العمارة المبنية من الحجر، مكونة من طابق أرضى وثلاثة طوابق علوية،  وطابق أخير  من غرف ذات نوافذ من الشيش والزجاج أصابها الإهمال وكانت سكنًا للخَدّم، وبكل طابق شقة واحدة، ذات ثلاثة أبواب تشبه باب الفراندة الكبيرة، أحد  هذه الأبواب يفتح على المطبخ والحمام، خاص بالعاملين بالمنزل، وآخر يفتح على الصالون، وثالث فى المنتصف يفتح على باقى الشقة.

قرآن وحفلات زار

تحكى ضحى بنت رجاء بنت فردوس، التى عاصرت جدتها نعيمة وهى طفلة ابنة 12 عاما،  أن جدتها كانت تنظم حفلات غنائية فى شقتها، للباشوات وعلية القوم، فقد كان حى شبرا هو حى الأغنياء والفنانين، وكانت شقتها قريبة من مسرحها بعماد الدين، وذهبيتها فى روض الفرج، والتى كانت تجلس فيها فى أيام الصيف.. الشقة ذات الأرضيات الخشبية، تتميز صالتها وبلكوناتها ببلاطها الأحمر الداكن الفخم، كما فى البسطات، والذى يلمع بمجرد مرور المياه عليه، ولا تنسى ضحى حديث جدتها عن صندرة  المطبخ والحمام المصنوعة من كمرات حديد تشبه قضبان السكك الحديدية، بارتفاع متر ونصف المتر، لتحفظ فيها خزين البيت من السمن والحبوب ومربى اللارنج والفراولة، التى تعشقها.. كان يزورها فى شقة شبرا كل يوم جمعة، القارئ الشيخ على محمود، ليقرأ القرآن، وهى تعلمه الوقفات والقفلات، مما تعلمته من خبرات فى غناء الموشحات والقصائد والتواشيح، بكافة المقامات الغنائية. وكعادة أهل ذلك الزمان، كانت نعيمة تقيم بشقتها حفلات زار، وكان لديها أدوات وملابس الزار. كما كان يزورها أيضا الشيخ زكريا أحمد، وعازفو فرقتها وأشهرهم سامى الشوا عازف الكمان وعبد الحميد القضابى عازف القانون الشهير وهو أحد أهم عازفى تخت أم كلثوم فيما بعد.

تترك الفن وتعود لاسمها الحقيقى

كان لنعيمة رحلات فنية سنوية تجوب فيها العراق وسوريا ولبنان، وكانت قد ألحقت ابنتها بمدرسة البومباستير «الراعى الصالح» فى شبرا، وهى وقتها مدرسة داخلية، وكانت زميلتها بالمدرسة ليلى مراد. وفى الثلاثينيات تقدم لخطبة ابنتها شاب من عائلة كبيرة، خريج السوربون، فقررت نعيمة اعتزال الفن والغناء بعد 27 عاما من العمل والنجومية والشهرة، من أجل سعادة ابنتها، حيث كانت نظرة العائلات الكبيرة إلى الفنانين نظرة سلبية، وعادت نعيمة إلى اسمها الحقيقى وهو «زينب محمد إدريس».. وبعدها أخذت تبيع ممتلكاتها شيئا فشيئا، فباعت مسرح الهامبرا لمنيرة المهدية، ثم باعت دهبية روض الفرج، ثم عمارتها فى شبرا، واشترت عمارة فخمة من 4 طوابق، كل طابق به شقة واحدة، بميدان الإسماعيلية  فى حى مصر الجديدة، فى 11 شارع شرف، وسكنت نعيمة فى الطابق الأول، وعاشت معها أختها فاطمة وابنتها.

وسكنت ابنتها فردوس فى عمارة مجاورة لعمارة الأم، وعاشت نعيمة من مقابل إيجار الشقق الثلاث بعمارتها، وكانت تحرص على جمع عائلاتها وأقاربها كل فترة فى حفلات عائلية فى شقة مصر الجديد، المكونة من 6 غرف وصالة وحمامين ومطبخ، واحتفظت نعيمة بنفس طقوسها، فى تخزين الأكل فى الصندرة، واستقبال أقاربها وجيرانها فى شبرا كما اعتادت. وكانت تحب أن تجلس فى البلكونة عصرا لتشرب الشاى بالنعناع، كما تحكى ضحى.

أما شقتها فى شبرا فسكنها بعد نعيمة، محاسب بالسكة الحديد، اسمه فايق اندراوس، وابنه ناجى لايزال يسكن الشقة حتى الآن، وإيجارها لايزال خمسة جنيهات و75 قرشا، مثل باقى الشقق، فى حين تحولت شقة الطابق الأرضى،  الى ثلاثة محلات، ومخزن لقطع غيار سيارات.

جرامافون وتراث غنائى

لاتزال ضحى تحتفظ بجراما فون جدتها نعيمة، التى كانت تطلب منها أن تشغله لها، لتسمع اسطوانات أغانيها واسطوانات لموسيقى وإيقاعات أجنبية كالفالس والتانجو والفوكس تروت، كما تحتفظ أختها بعود نعيمة المصنوع من الصدف، تعد ضحى كتابًا عن جدتها نعيمة وتتمنى أن تساعدها وزارة الثقافة فى جمع تراث جدتها الفنى والغنائى،  وإنتاج أفلام تسجيلية عنها، على غرار الفيلم الذى أنتجته مكتبة الإسكندرية.. جمعت ضحى الكثير من أغانى نعيمة ومنها، أنا نايمة - غالى والطلب رخيص - ياميت مسا  - جن الظلام - ياكوكب الفجر - موال ياللى القمر طلعتك، قوم يا حبيبى بقينا الصبح، والنبى لآيس وياك يا غزال، دور يا قلبى تستاهل، حكواتى ومغنواتى. إن كنت شارينى،  معلوم ياهانم ، يابو الشريط الأحمر، دور يا قلبى تستاهل، ماتخافش علىّ، يا ميت مسا على العيون الكويسة، مهما تقول ولا تعيد ، يا مدموازيل رقى شوية، يا كيكى كيكو، عروستنا ياللا نحييها، قوم هاتلى بدلة، فرغ الهزار،  لو كان عذولى يحس، اسحب كلمتك أوام بسرعة.. وتتمنى ضحى أن يتناول المتخصصون دراسة صوت نعيمة المصرية وتحليله، وأن تُدرّس أعمالها فى الكليات المتخصصة باعتبارها نموذجًا للغناء فى بدايات القرن العشرين، وأن تغنى أغانيها ومسرحياتها الغنائية فى دار الأوبرا المصرية.