السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

لحن مصرى.. فى فن النحت

عن عمر يناهز 91 عاما رحل المثال الكبير آدم حنين.. بعد رحلة طويلة من  الإبداع فى النحت والتصوير تقترب من السبعين عاما.



 

وإذا كانت  الشرارة  الأولى للتشكيل  المجسم.. أطلقها مثال مصر محمود مختار.. وامتدت من البحث فى جذور مصر القديمة  واستلهام البيئة المصرية..مع المؤثرات الغربية من الفن الأوروبى.. وجاءت الشرارة الثانية متمثلة فى إبداع جمال السجينى..وقد امتدت مع كل هذا إلى استلهام التراث الإسلامى والعمارة الريفية الفطرية والفن الشعبى. 

 

 

فتمثل  أعمال آدم حنين المساحة الثالثة فى الإبداع النحتى المعاصر.. وهى مساحة تألقت فيها كائناته المجسمة.. مسكونة بالصمت والسكون غارقة فى زمن لا ينتهى بعد أن تخلصت من الزوائد والثرثرات.. اختزل فيها الشكل إلى أقصى صورة التجريدية متضمنا أعمق الانفعالات والأحاسيس والأفكار.. فيها من آثار مصر القديمة وملامح العصر المسيحى.. محلقة فى آفاق الحاضر.. أعمال تنساب بلغة مصرية جديدة فى فن النحت.. لغة الإشارة والإيماءة والإشراق الروحى.. لا تعرف البوح.. مسكونة بالأسرار.. كما ترك ديوانا مصورا فى لوحة التصوير والرسم.. وصل بها إلى درجة من النقاء والاختزال فى أعمال تشخيصية وأخرى تفيض ببلاغة التجريد .

 

رحلة مدرسية 

 

بدأت رحلة «آدم» مع الفن وهو  فى الثامنة.. بعد زيارة إلى المتحف المصرى بالتحرير برفقة مدرسة التاريخ.. فى رحلة مدرسية كان  وقتها بالصف الثانى الابتدائى.. فى  هذا اليوم ترك  المدرسة والتلاميذ وهام على وجهه من صالة لأخرى.. وفى لحظة تأمل حقيقية كان كل ما رأى  قد غاص بداخله وأحس بشىء قد تغير فى نفسه.. كما قال «من خلال لقاءات عديدة كانت لنا معه من قبل:» مثل إرهاصات قرأتها فى الإنجيل.. وكنت وحيدا صغيرا بين التماثيل الضخمة.. لكن شعرت بنوع من الطمأنينة المباغتة بشعورى أن هذا الفرعون هو جدى.. وفى اليوم التالى وفى حصة الأشغال اليدوية التقطت يدى قطعة صلصال..أخذتها معى للبيت وجلست لأقلد تمثالا لرأس إخناتون.. الذى رأيته بالمتحف وعندما رأى والدى التمثال سعد به وجاءت سعادته..  بداية التشجيع للالتحاق بالفنون الجميلة فيما بعد».

 

كان  ضمن طلبة دفعة 1953 قسم النحت.. وكان معه مجموعة من الفنانين بالفنون الجميلة من بينهم: بهجت عثمان وهبة عنايت وبهجورى.. وصلاح جاهين الذى قضى معهم سنة واحدة فقط.. والتقيا معا فيما بعد بصباح الخيرورسم له «الرباعيات».

 

بعد ذلك قضى  عامين بمرسم الأقصر وقت أن كان مديره المهندس حسن فتحى.. وهناك استفاد كثيرا فيما يتعلق بالعمارة والفن وارتباطهما بالبيئة.. وفى عام 1959 سافر فى منحة إلى ألمانيا لمدة عام.. وهناك أقام  معرضا لأعماله  النحتية وكانت معظمها من الفخار.. حضر المعرض زوجة  الفنان المعاصر «كاندنسكى» صاحب المذهب التجريدى.. وهى فنانة أعجبت بأعماله  وقالت له  بالحرف الواحد: ماذا تفعل هنا؟ أفضل أن تعود إلى بلدك لأن أعمالك الفنية ذات اتجاه خاص.. ولن تستطيع أن تتعلم الكثير عندنا هنا..وكان أن عاد وفى البداية  عمل رساما بروزاليوسف لمدة عشرة شهور.. والتقى بصديقه جاهين وكان يرسم له الرباعيات التى نشرت أسبوعيا بمجلة صباح الخير.. ظل يرسمها حتى  خرج ديوان الرباعيات فى طبعته الأولى عام 1963 مصحوبا برسومه ومقدمة طويلة ليحيى حقى مبدع «البوسطجى» و«قنديل أم هاشم».. «ونشرت فى طبعتها الثانية فى التسعينيات وطبع منها 125 ألف نسخة نفذت فى أيام».

 

حصل آدم على منحة تفرغ أثناء تولى د.ثروت عكاشة وزارة الثقافة وعاد إلى منابعه الأولى بالنوبة.. وهو يقول: «هى المكان الوحيد الذى ظلت حضارتنا القديمة مستمرة فيه.. ولو تأملنا طراز المبانى والنقوش سوف نجد طراز المعبد الفرعونى..والكنيسة القبطية والمسجد كلها مندمجة فى طراز واحد نكتشفه فى البيت النوبى».

 

وبعد أن عاش  بالنوبة لمدة 4 سنوات.. عاد مسكونا بالجذور.. محصنا بالفن المصرى.. محملا بتماثيل تميزت بصفاء الكتلة ونقائها.. وسموها ورشاقتها تخلصت من ثرثرات الزخرف.

 

نداء باريس 

 

وهو يتعلم النحت بالفنون الجميلة.. كان آدم حنين قد سمع عن رحلات قام بها أهل الفن فى مغامرات من أجل المدهش والممكن والمستحيل.. مثل رحلة «ليوناردو دافنشى» من إيطاليا إلى فرنسا.. ورحلة «فان جوخ» من هولندا إلى فرنسا أيضا.. وصديقه الذى صاحبه واختلف معه وعنه: «جوجان «وارتحاله من فرنسا إلى «تاهيتى».. تلك الجزيرة النائية القابعة بين زرقة أمواج المحيط.

 

 من هنا سافر آدم  أواخر عام 1971 إلى باريس مدينة الفن والنور.. وأقام هناك لفترة طويلة.. «لقد سافرت وأنا حاطط رجلى على حجر.. يعنى لست تائها ولن أتوه.. السفر أعطانى حرية بلا حدود وانطلاقا نحو آفاق جديدة انعكست على فنى.» 

 

سفينة آدم  

 

 وبجوار مركز رمسيس ويصا واصف وتجربته الأصيلة لفنون السجاد «بالحرانية» قرب أهرامات الجيزة.. و«هو أيضا من قام بتصميم منزل آدم الذى تم تطويره ليكون متحفا يضم أعماله التى تربو على 4000 قطعة فنية ما بين النحت والتصوير والرسم».

 

فى بيته  ومتحفه.. ومع تماثيله.. ترسو سفينة طويلة مسحوبة من الجرانيت وسط الحديقة.. اصطفت عليها أعماله فى مراحلها المختلفة من الخمسينيات وحتى أحدث أعماله.. وهى تعنى الإبحارمع الفن  إلى المجهول والسفر عبر الأزمنة . 

 

وعالم الفنان آدم  حنين  يمتد بين قوة الأحجار وصلابتها وبين رقة الألوان وجريانها.. بين النحت والتصوير.. وبين حدة الأزميل ورهافة الفرشاة.. يقول: «عندما انتقل من النحت إلى الرسم تتغير التجربة مع المادة.. فالانتقال من الحجم إلى السطح.. يقحم الفنان فى تجربة يكتسب منها خبرة هائلة.. وتمكنه من التعبير عن أشياء كثيرة ليس بإمكانه التعبير عنها بالنحت.. النحت يشغلنى لوقت طويل أقضى شهوراً كثيرة فى إنجاز منحوتة واحدة.. فليس من الممكن أن أظل سجين النحت لمدة طويلة.. هناك أشياء كثيرة أريد أن أعبر عنها.. ولذلك ألجأ إلى الرسم.. بعد ذلك أعود إلى النحت.. كما لو كانت الرسوم التى أنجزتها دراسات وتحضيرات للبحث..وطبعا أفعل ذلك بشكل مباشر». 

 

وداخل حديقة بيته يطل تمثال أم كلثوم.. يختزلها آدم.. تقف بالمنديل تنساب الكتلة كشجرة.. فى تموجات.. بلا فم ولا عينين.. الوجه مجرد كرة صماء.. مسكونة بالتعبير.. والجسد كله معبأ بطاقة الغناء.. 

 

 ولآدم حنين تمثال «حامل القدور».. مقام حاليا بإحدى الحدائق بمكسيكو سيتى وله أيضا تمثال لطائر فى وضع مائل.. على وشك الطيران.. يكاد ينطلق محلقا من مكانه بالأكاديمية المصرية بروما.. ورغم هذا ليس له  تمثال واحد بأحد ميادين القاهرة .. وكان يهفو إلى وضع أحد تماثيله .. بعيدا عن الميادين.. مثل المدن الجديدة والحدائق والقرى السياحية.. فهل نبادر ونقيم إحدها فى مكان يليق بقيمتها وقيمته؟.

 

خلد الفنان آدم زوجته السيدة عفاف وتمثال آخر لفلاحة أطلق عليه اسم «وجيدة» مع «الراعية» لزينب موديل الفنون الجميلة التى أثرت فيه بطيبتها وهدوئها ومنحوتته البليغة «القارئة» صديقة «الكاتب المصرى» فى الفن الفرعونى.. تجلس بالشال تتصفح فى كتاب «نسخة من التمثال أمام متحف الفن الحديث بأرض الأوبرا».. بينما يطل «رأس جاهين» صديقه ببريق العينين الدائريتين علامة العبقرية وتوهج الموهبة .. ومنحوتاته التجريدية الخالصة وتشكيله الرجل والحصان..مع طيوره الناطقة وحيواناته الوديعة.. من الغراب والقط والحمار.

 

من النحت إلى التصوير 

 

وأعمال آدم  التصويرية أشبه بالألحان المصورة.. أو الشعر المرئى.. مع بنائيتها البليغة الصارمة.. معظمها مجسدة على البردى.. «لقد كنت فى بداية تجربتى الفنية نحاتا.. والنحات يتعامل مع المواد .. اشتغلت بالخشب والحجر والبرونز.. وفى كل مرة تحملنى المادة إلى شىء مختلف.. وعندما أعادوا صناعة ورق البردى بدأت أرسم عليه.. لأننى أشعر بدفء ذلك الورق وبثقل تاريخه أيضا.. ومن خلاله أستحضر أشياء كثيرة». 

 

أسس آدم سومبوزيوم «ملتقى» النحت الدولى بأسوان وأشرف عليه منذ بدايته عام 1996.. وحصل على جائزة النيل أكبر جائزة مصرية فى الإبداع فى الفنون وفى عام 2017 أطلق  جائزته «لفن النحت».. وهى جائزة سنوية  لشباب النحاتين  أقل من 35 عاما.. «تتخذ مكانها فى مصاف الجهود التى تتطلع إلى قبلة حياة جديدة.. تتنفس فنا مبتكرا فى بعض حالاته ومستلهما ما مضى فى أحوال أخرى».

 

أخيرا..لا نقول إلا ما قاله جاهين فى  إحدى الرباعيات:

 

خرج ابن آدم من العدم قلت: ياه

 

رجع ابن آدم للعدم قلت: ياه

 

تراب بيحيا... وحى بيصير تراب

 

الأصل هو الموت و لا الحياة ؟

 

عجبى !.

 

سلام عليه وتحية إلى روحه بعمق لمسته العميقة التى نطقت بحديث الحجر والعزف بالألوان.. وسوف يظل بيته ومتحفه.. شاهدا على عظمة فن النحت المصرى وتواصل الأجيال.. بعد علامته الأولى مثال مصر مختار.