مقتطفات من أول حوار تليفزيونى مع الرائدة النسوية سيمون دى بوفوار
لا نولد نساء .. لكننا نصبح كذلك!

هذا ملخص أول حوار تليفزيونى أجرى عام 1975 مع الكاتبة والمفكرة الفرنسية سيمون دى بوﭬوار (9 يناير 1908– 14 إبريل 1986)، ننقل من خلاله أهم أفكار تلك الكاتبة التى ساهمت بدراساتها الفلسفية والسياسية والاجتماعية، بالإضافة إلى كتبها ومقالاتها ورواياتها فى تغيير أوضاع نساء العالم وتحررهن، حيث عُرفت كرائدة الفكر النسوى، وناشطة سياسية، وصاحبة كتاب الجنس الثانى Le deuxième sexe الذى نشرعام 1949، والذى اعتبر تحليلا تفصيليا للوضع الإقصائى للمرأة، وعومل كنص تأسيسى للنسوية.
الحوار فرصة لنتأمل إلى أين مضينا منذ 45 سنة
تدور الفكرة الأساسية لكتب سيمون دى بوﭬوار التى لخصها كتاب الجنس الثانى حول مقولة «إن المرأة لا تولد امرأة ولكنها تصبح كذلك فيما بعد»! وهى هنا لا تتحدث عن الأنثى ولكن عن المرأة التى يختلف دورها الاجتماعى من مجتمع لمجتمع.. ولهذا قالت: إن وجود المرأة ليس حقيقة طبيعية، ولكنه نتيجة لتاريخ معين، حيث لا يوجد مصير بيولوﭽـى أو سيكولوﭽـى يُعرف المرأة على هذا النحو. بمعنى أنها أولا.. منتج لتاريخ الحضارة الذى أدى لوضعها الحالى.
ثانيا.. لكل امرأة بشكل منفرد تاريخها الشخصى بدءًا من طفولتها التى تحدد شخصيتها كامرأة. ثم يطلق عليها الأنوثة وهى ليست صفات فطرية أو جوهرية!.
صناعة الفتيات
أشارت سيمون فى حوارها إلى كتاب الكاتبة الإيطالية «إيلينا بيولتى» بعنوان «كيف تصنع الفتيات الصغيرات؟» تعرض فيه إن الطريقة التى نُطعِم بها الطفل ونحمله ونهزه ..إلخ هى التى تشكل وعيه وتنقش فى داخله تكوين الشخصية التى يصبح عليها فيما بعد!
سألها المذيع عن تأثير الاختلافات البيولوﭽية، وهل تلعب دورًا فى إملاء السلوك الذى يتصرف به الإنسان؟
فقالت: من المؤكد أنها تلعب دورًا، ولكن التركيز على الاختلافات البيولوﭽية والأهمية التى تتعلق بها تأتى من السياق الاجتماعى المحيط بنا؛ فالمرأة هى التى تنجب الأطفال، وليس الرجل.. متسائلة: ولكن لماذا يكون هذا مبررًا لاختلا ف وضع المرأة؟ فهكذا تم استغلال وقمع النساء حينما استخدم هذا الدور كذريعة لبناء حالة المؤنث.
الأمهات يشجعن عداونية الصبيان
- طلب منها المذيع أن تعطينا مثالا على مسألة التمييز الذى يبدأ من الطفولة؟ فشرحت كيف أظهر كتاب إيلينا هذه الأمور، باعتبارها طبيبة أطفال، فأشارت مثلا للرضاعة الطبيعية.. وكيف تعامل الأمهات البنات بشكل مختلف؛ حيث يتم تشجيع العدوانية عند الصبيان أكثر من البنات، ليكونوا مستقلين. بينما يفترض أن تبقى البنت فى البيت. وجميعنا نعرف كيف جرت العادة عبر التاريخ - تقول سيمون- أن تلاعب الأم أو المربية عضو الصبى الصغير لمنحه الهدوء والمتعة، فيتم تشجيع الصبى على إظهار جسده والتباهى بعضوه، بينما يتم تشجيع الفتاة على إخفاء جسدها.. وهذا فى الواقع من أنواع بناء السلوك الذى نكبر به لنصبح الشخصيات التى نحن عليها!!
المذيع: الأمهات إذن، هن اللواتى يقمن بهذا التمييز؟ سيمون: غالبا! فكل منهن ابنة لامرأة وقع عليها هذا السلوك، فستحافظ بدورها على التقاليد. وكما قلت: النموذج الأنثوى متأصل فيهن بعمق، ولذلك هؤلاء النساء أنفسهن يتهمن النساء اللواتى لا يسايرهن فى هذه السلوكيات! والقلق الأكبر هو أن تصبح بناتهن أنثويات/نسويات، ولذلك يتم التمييز بواسطة النساء ولكن بدافع من ضغط الرجال؛ لأنه بواسطة الرجال يتم تعليم النساء ماههيتهن، وكيف يتصرفن بالاعتماد عليهم، وكيف يتصرفن بسلبية وخضوع وإنكار للذات.. و.إلخ
حالة المؤنث
سألها المذيع: كتبتِ كتاب الجنس الثانى وأنت فى الأربعين من عمرك.. فكيف لم تؤثر عليكِ القيود التى تعانيها النساء؟
فقالت: كنت محظوظة كمثقفة منذ فتح باب التعليم بالتساوى بين الرجال والنساء، فحظيت بزملاء دراسة فى جامعة السوربون وفى كل مكان، وعاملونى بشكل مساو فلم أشعر بتلك القيود. كما أننى قررت عدم الزواج وعدم الإنجاب.. فلم تكن حياتى تسير لأصبح ربة بيت، وهكذا استطعت تجنب الحالة الاستعبادية للنساء.
وحول أسباب عدم الكتابة عن الفرص التى حصلت عليها النساء فى الثقافة والتعليم طوال القرن والنصف الماضى؟ أجابت: لأن المرأة كان لها دائمًا الدور الثانوى. ولم يكن من مصلحة الرجال أن يكتبوا عن هذه الحقيقة. ولم تكن النساء نسويات فلم ينصت أحد إليهن!! رغم إن بعضهن نشرن الفكرة وكتبن حولها مثلما حدث فى بريطانيا.. ولكنها لم تكن من نوع الصرخات الثورية التى يسمعها الآخرون ويلتففن حولها!
لماذا التصق دورالممرضة بالمرأة؟
سألها المذيع: تقصدين الاستغلال والقمع المتعمد بشكل عام ضد النساء؟ فكيف حدث هذا القمع؟ وكيف كان يظهر فى سلوك الرجال؟ أجابت: إنه أمر قديم للغاية، منذ بدأ مع فكرة ندرة الموارد التى كانت لا تكفى الجميع، بينما امتلك الرجال القوة الجسمانية، وكانت مهمة جدا فى عصور ما قبل التاريخ، حيث امتلك الأقوياء الحقوق والسلطة، والسيادة الاقتصادية، فتحكموا فى الجوع، وعانى العنصر الأضعف وهى المرأة!
مستطردة: فى الصين مثلا كانت تقتل الفتيات الرضع أو تترك للموت، مثلما تم منع النساء من العمل الفعال، فاستطاع الرجل -فى كل حقبة- السيطرة على الموارد والحصول على القوة وكل شىء. وفى العصور الوسطى وعصر النهضة.. استطاع الرجال منع النساء من ممارسة دور العلاج باستخدام علم العلاج بالأعشاب العلاجية، وأشاعوا أنهن ساحرات فكان يتم إبعادهن ولو بحرقهن وقتلهن؛ فاستطاع الرجال الحصول على هذه المعرفة! مثلما تمت صياغة القوانين بواسطة الرجال فى القرنين الثامن والتاسع عشر. وكانت تحرم ممارسة النساء للطب ويحكم عليهن بالسجن أو الغرامة! ولذلك هبطت النساء إلى دور الممرضات! ولهذا يعتبر كتاب «إلينا».. مهمًا جدا لأنه يتحدث عن تعمد الرجال لإبعاد النساء عن ممارسة الطب. وأعتقد أننا لو نظرنا لأى مجال آخر غير الطب سنجد نفس الأمر!
مرغوبة فى عيون الرجال
المذيع: أليس أفضل شىء يحدث للمرأة هو أن تكون مرغوبة عند الرجال؟ كذريعة لتوفير الدعم المادى من خلال الزواج أو بطرق أخرى؟
قالت: بالتأكيد تعتبر العوامل الاقتصادية مهمة، ولكنها تنشأ من التكوين المجتمعي- كما قلت-! فالنساء مكبلات اقتصاديًا لإن الرجال يملكون كل الوظائف وخاصة المميزة منها! صحيح إنها تشارك الرجل فى بعض الأعمال الشاقة كالزراعة، ولكن فى الطبقات العليا سعى الرجال لإقناع النساء بعدم الاستقلال المادى.. والاعتماد على الزوج. وتكريس أنفسهن لمهارات العمل المنزلى. فصار هذا الوضع مفروضًا على المرأة كنوع من العمل الإجبارى. عمل غير مدفوع وليس له راتب منتظم، ما يجعل رفاهية وفقر المرأة مرهونين بزوجها. بالإضافة لأنه عمل لا يسمح بتكوين أى مكاسب اقتصادية منه وغير معترف بمساهمته المادية.. وهذا أمر مهم جدا! فمثلا، أظهرت إحصائيات عام 1955 وجود 45 مليار ساعة عمل مدفوعة يقابلها قرابة 46 مليار ساعة عمل غير مدفوع تقوم به ربات المنازل. فماذا لو رفضت المرأة وتمردت على القيام بهذه الأعمال أو جعلت الرجال يقومون بها؟ لأنه من قال أن هذه الأعمال مخصصة فقط للنساء؟
أنتِ تقولين أن هذا عمل غير منتج، وهناك آلاف النساء اللواتى يعتبرن أن نجاح رعاية أطفالهن مهم للغاية، وإنهن يبذلن قصارى جهدهن لتحقيق ذلك النجاح بالإضافة إلى بناء بيت لطيف وخلق بيئة عائلية.. فهل هذا عمل غير منتج؟
سيمون: لا ..لم أقل أنه لا يحتسب.. ولكن بطبيعته عمل غير إنتاجى ولا يصنع قيمة اقتصادية! ويجعل المرأة معتمدة على الرجل بشكل رهيب.. ولا تستطيع المرأة أن تؤدى هذه الأعمال إلا إذا كانت تحت رعاية زوج مسيطر على حياتها. وهو ما تعانيه المرأة إذا ما تزوج الرجل من امرأة أخرى، أو طلقها...
وأنا على دراية بهذا الوضع منذ نشرت كتابى الجنس الثانى منذ 25 سنة، حيث تلقيت رسائل عديدة من بعض النساء، إحداهن كانت فى الثلاثين من عمرها قالت لي– وهى حالة تتكرر كثيرا - أنها تزوجت فى العشرين وكانت ممتنة جدا، مستمتعة بالحفاظ على منزلها، ورعاية أطفالها، ولكن فجأة حدث نزاع بينها وبين زوجها.. فهجرها! وفجأة أصبحت لا تمتلك شيئًا ولا عملًا، فأصبحت مسئولية الأطفال عبئا لا يطاق. لإنها كانت تعولهم وحدها، وحينها أدركت مرارة الواقع التعس لإنها لم تحصل على عمل ولا راتب منتظم، فزواجها إذن لم يوفر لها دعمًا ماديًا ولم تستطع من خلاله توفير فوائد اقتصادية!
ولو كانت المرأة فى الأربعينيات والخمسينيات، فهى لا تمتلك الوقت ولا الجهد لتتعلم مهنة جديدة لتعمل بها، إلا فى الحالات الإعجازية! وهذا يعتبر استثناءً.
أهيمة دور النسوية
لم ينظر إلى كتابك الجنس الثانى كعمل نضالى بل مَثلَ فضيحة فكرية للكثيرين! سألها المذيع كيف وصفت ردود فعل تلقى الناس لكتابها؟
فقالت: فى فرنسا، كان رد فعل بعض المجتمعات الذكروية متطرفا بربريا. حتى الرجال الذين اعتقدت أنهم من اليساريين والليبراليين، ومن دعاة المساواة انزعجوا واعترضو اعلى الكتاب لأنه تحدى سلطاتهم وسيادتهم! بينما كانت ردة الفعل الأمريكية أكثر إيجابية، ربما بسبب المساواة الكبيرة بين الرجل والمرأة هناك! حيث باع مليون نسخة ليومنا هناك! صحيح إنه نجح فى فرنسا فور صدوره. لكنى لا أستطيع إخبارك بالأرقام بالظبط، مستطردة: ما أحبطنى أيضا رد الفعل السلبى من الشيوعيين الذين رفضوا الكتاب بحدة، وقد نشرت صحيفة French Letters أن الكتاب لا يخدم العاملات فى المصانع، وهذا خطأ لأن كل المشاكل التى تحدثت عنها باهتمام.. كانت متعلقة بنساء الطبقة العاملة أكثر حتى من نساء الطبقة العليا!
ولماذا الشيوعيون ضد أفكارك؟
أجابت: يوجد اعتراض أقل الآن.. بينما تاريخ الشيوعية والنساء هو تاريخ معقد! الشيوعية تثبت أن كل مشاكل النساء فى كونهن ثانويات، وإن الصراع بين الجنسين هو صراع ثانوى بالنسبة إلى صراع الطبقات الذى هو أساسى!
المذيع: بناء على ذلك، أنتِ تقولين أن النسوية لديها دور لتلعبه فى مجتمعنا الذى نعيش فيه أنا وأنتِ! ولكن النساء يفكرن فى إطار الصورة التقليدية للمرأة والأم. فكيف نجعل النساء ينظرن لأنفسهن بطريقة مختلفة؟
أجابت: بعضهن ينظرن لأنفسهن بطريقة مختلفة. ولكن من الصعب معرفة إلى أى مدى تؤثر حركة تحرير المرأة عليهن! فقد تدرك بعضهن الظلم الذى يقعن تحته ولكن لأى مدى يصبحن واعيات بالاضطهاد والاستغلال؟ لا أعلم! ولكن الواضح أن خضوعهن سيكون أقل من ذى قبل!
المذيع: هناك الكثير من الجدل حول وضع المرأة هذه الأيام، مثل ازدياد عددهن ولو بشكل رمزى فى الحكومة، وحول إدارتهن لمؤسساتهن وبالوزارت .. أليس هذا دليل تغيير؟ ألا يعنى أن الرجال مضطرون لقبول التغيير؟
تقول: نعم، ولكن هذا خداع. فوجود منظمة مثل Secertarait a la condition feminine ليست إلا خداعا واضحا. مجرد عظمة ألقيت للنساء لجعلهن يصدقن أن نضالهن قد أثمر فى الواقع، حتى فرانسواز جيرود (وهى صحفية وكاتبة وسياسية فرنسية) لا تمتلك قوة حقيقية لفعل شىء .. بل ولا تتدخل فى وضع الميزانية. وكل ما تفعله هو تقديم مقترحات خجولة للرجال. ولا ينظر إليها إلا لو وافقوا عليها! ولذلك هذا الوضع .. هو خدعة كبيرة! تستكمل: من الأفضل أن تتكلم النساء مع بعضهن عن مشاكلهن فيما بينهن بدون رجال، وأن يسعين للحلول، فهذا سيوفر عليهن الكثير من الأذى. وربما يقودهن لفهم وضعهن والتفكير بشأنه، بعد ذلك أنا واثقة أنهن سيتوحدن لصنع التغيير؛ لذلك قلت إن أمر تجمعهن مهم للغاية.. وعلى المدى البعيد سيتغير المجتمع كله.