الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

مستقبل لا يرى بالعين المجردة 4

أمريكا تخون أمريكا

ريشة: أحمد وحيد
ريشة: أحمد وحيد

توقفنا متسائلين فى الأسبوع الماضى مع الفيلسوف الكندى آلان دونو كيف استطاع التافهون بتفاهتهم تحقيق سلطتهم داخل المجتمع الحديث؟



يرى دونو أن التافه هذا ليس فردا كما نتخيل بل هو نظام سرطانى يتمدد ليفرض وجوده المبتذل ويبدأ هذا النظام السرطانى فى التشكل من قدرة التافه الفرد الذى يسعى بدأب من أجل تحقيق هذه السلطة عن طريق الاتصال بالتافهين من أمثاله حتى يكونوا طبقة تستطيع التغلغل إلى كل مفاصل المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية.

  تجعل هذه الطبقة من الابتذال والبهرجة والضجيج والرداءة والدعاية والانحطاط فى الذوق وإزاحة الكفاءات منهاج عمل حتى تصبح هى الأساس فى بنية المجتمع لتفرض إرادتها المشوهة.

أمام هذا الهجوم الكاسح من الانحطاط فى القيمة يرى المجتمع المسيطر بضم الميم عليه من طبقة التافهين أن الجدية والعمل المبنى على القيمة والجودة والفكر البناء مجرد شذوذ وعوائق بالية تقف أمام التقدم المزعوم.

تستخدم هذه الطبقة التافهة العديد من الأسلحة لفرض إرادتها المشوهة فهى تنهى القيمة الإنسانية والكفاءة كميزان يزن موقع الفرد ووضعه فى المجتمع وتصبح القيمة الوحيدة أو البوصلة التى يجب أن يسير خلفها المجتمع هى المال والمصلحة الأنية. 

تسود هذه القيمة المنحطة فتتشكل على الفور «أوليجاركية» أو سلطة متجمعة حول قيمة المال والمصلحة وتعلو هذه السلطة السرطانية بنفوذها الخبيث فوق سلطات المجتمع الطبيعية السياسية، الثقافية، الاجتماعية ولا مانع عند هذه الأوليجاركية من خيانة هذه السلطات الطبيعية والمجتمع والدولة الوطنية من أجل تحقيق مصالحها المالية.

يضرب دونو مثلًا فى قدرة الأوليجاركية بتفضيل مصالحها على مصلحة المجتمع الذى تعيش داخله يرتبط المثل بأمريكا فقد استطاعت هذه الأوليجاركية المتحكمة نقل جميع الصناعات الرئيسية وغير الرئيسية التى تشكل جسم الصناعات الوطنية داخل القارة الأمريكية إلى الصين على مراحل متوالية حتى تم التفريغ الكامل لهذه الصناعات تحت شعارات العولمة والحريات.

بعيدا عن الشعارات فقد كان الهدف الرئيسى تحقيق مزيد من الأرباح والمصلحة على حساب قيمة مهمة وهى قيمة العمل والخبرات التى يكتسبها المجتمع من وجود قاعدة صناعية حقيقية تتيح له التدريب والارتباط المنضبط بهذه القيمة.

 بمرور الوقت يتحول الفرد فى المجتمع إلى مستهلك شره للسلع المنتجة فى الخارج رخيصة الثمن قليلة الجودة وكل هدفه اقتناص المال لإشباع إدمانه الاستهلاكى دون إنتاج حقيقى فى الواقع. يضمحل الإنتاج ويبدأ سعار المضاربة الوحشية بالمال سواء كانت مضاربة على الأراضى أو العملة وغيرها ولا مانع من التبجح بشعارات العولمـــة والسخرية من فكرة الإنتاج الحقيقى والترويج لثورة المعلومات كأن من العيب وجود صناعة وطنية مع ثورة المعلومات لكن كل ذلك مجرد دعاية مبتذلة وضجيج لإخفاء نزعة تدميرية تقودها الأوليجاركية لتحقيق المكاسب على حساب المجتمع.

هذه كانت الدعاية لإخفاء الجريمة، أما الحقيقة التى أصابت الولايات المتحدة تحديدا وبعدها أوروبا بالصدمة والرعب أن أمريكا خانت أمريكا بمعنى آخر سلمت هذه الأوليجاركية الدولة والمجتمع الأمريكى على طبق من فضة إلى الرأسمالية الشرقية الواعدة فى الصين من أجل تحقيق مكاسبها ومصالحها.

ظهرت أثار الخيانة والحقيقة عند مواجهة الوباء وأذ كان دونو لم يتنبأ بوقوع وباء إلا أنه توقع مواجهة آثار هذه الخيانة عند نشوب أزمة قوية تواجه المجتمع الغربى.. وقد نشبت.

يقدم هذا التقرير الذى نشرته سكاى نيوز منذ أيام تأكيد لتحليل آلان دونو الذى توقعه قبل ثلاث سنوات «مما زاد الطين بلة، أنه عندما ضرب وباء كوفيد-19 مختلف دول العالم، وجدت دول كبرى نفسها فى مأزق كبير، عندما اكتشفت أنها غير قادرة على تصنيع معدات وأقنعة طبية محليا، لأنها أسندت تلك العمليات للصين منذ مدة طويلة، وهو ما حدث مع الولايات المتحدة».

 الأكثر خطورة أن الصين بتوطين هذه الصناعات عندها امتلكت خبرات على مستوى العمالة والإدارة لم تعد تمتلكها الولايات المتحدة هذا غير  الهشاشة التى ظهر عليها المجتمع الغربى بعد أن أصبحت الصين هى منقذ العالم والمورد الأول له لأنها الوحيدة التى تمتلك قاعدة صناعية حقيقية.

 يشير التقرير إلى طوق النجاة لهذه المجتمعات الهشة «الحل العقلانى الوحيد فى المستقبل هو تقليص التبعية فى المجالات المهمة حيال الصين أو غيرها». 

تلك نواة الصراع الشرس الدائر داخل الولايات المتحدة بين أمريكا الدولة القومية والمجتمع من ناحية والأوليجاركية المتحكمة والمتخفية تحت شعارات العولمة من ناحية أخرى والتى تجاوزت فى مصالحها المصالح الأمريكية ولم تعد فى حاجة بعد أن توحشت إلى وجود الدولة ذاتها.

ينقلنا هذا المثال وتداعياته إلى لحظة ماضية ولحظة حاضرة، تخص الدولة المصرية، فالأوليجاركية ليست قاصرة على مجتمع دون آخر فهى بلا وطن وتجمعها مصلحتها وشرهها لاقتناص المال فالأوليجاركية داخل مصركفرع من الأوليجاركية العالمية وضعت أمامها خلال ثلاثة عقود ماضية أعداء رئيسيين ألا وهم الصناعة الوطنية ورأسمالية الدولة والدولة نفسها.

عمل هؤلاء السماسرة بدأب تحت شعارات الحرية الاقتصادية والعولمة وقوانين السوق إلى إنهاء وجود صناعة وطنية مصرية وتحجيم دور الدولة فى إدارة المنظومة الاقتصادية من أجل سيادة مفهوم الاستهلاك والمضاربة دون قيمة العمل.

لم تكتف الأوليجاركية بهذا التدمير، بل تحالفت مع ألد أعداء الدولة أو الفاشيست الإخوان لإعطاء عملها التدميرى غطاء من التقوى الزائفة، فالفاشية الدينية الإخوانية كأداة فى يد الخارج تعمل حسب توجهات هذا الخارج فإذ كان المسيطر استعمار قديم أو حديث تعمل فى خدمته وإذا هيمنت أوليجاركية أنتهازية فهى أيضا فى الخدمة.

كان دور الفاشيست الإخوان تهيئة المجتمع باسم الدين والدين منهم براء لحالة من العداء مع قيمة العمل ومفهوم التصنيع وإحلال قيم الاستهلاك والتجارة السريعة أو المضاربة لأنها أفضل الرزق. من ناحية أخرى أغدقت هذه الأوليجاركية من القيمة الوحيدة التى تعرفها وهى المال على شرائح منتقاة من المجتمع باسم الليبرالية والحريات من أجل تتفيه وتسليع العمل السياسى والثقافى والإعلامى لنزعه من مضمونه الجاد المناصر للدولة الوطنية وتحويله إلى فعل مبتذل خادم لقيمة المال وموجه ضد الدولة. 

عندما تنظر للصراع المجتمعى فى مصر من هذه الزاوية وعلى حسابات هذا التحالف الشرير بين الأولجارك والفاشيست والشرائح المنتقاة سنجد مثلا أن أحداث يناير كانت ذروة الفعل فلم يعد يطيق هذا التحالف الشرير حتى وجود نظام سياسى على درجة رهيبة من الاهتراء ويعمل من خلاله ولا يعوقه وجوده بل يستخدمه التحالف بكل أريحية لتحقيق أغراضه لكنها الانتهازية الكاملة والجشع والصيد الثمين الذى خطط من أجل اقتناصه والاستيلاء عليه وهو الدولة الوطنية بكاملها.

 توزعت الأدوار عقب ذروة الفعل فالأوليجاركية تراجعت فى دهاء للخلف ومن خلال أذرعها تمارس سلطتها الانتهازية لتحكم سطوتها على المجتمع.

منحت السلطة السياسية الشكلية للفاشيست أما الشرائح المنتقاة فتمت إعادة تدويرها وتنظيفها من آثار ارتباطها بالنظام المهترئ لتعود من جديد مغلفة بشعارات التغيير وتتحول إلى بوق تدميرى لفكرة الدولة وكما الفاشيست يرتكبون جرائمهم باسم الدين فالشرائح المنتقاة مارست تدميرها ضد الدولة بحجة القضاء على نظام سياسى هو قد انتهى وأسلم الروح قبل يناير بكثير.

هذه كانت لحظة الماضى أما لحظة الحاضر التى تواجه فيها الدولة المصرية هذا الفيروس الوبائى فتقودنا إلى ثورة يونيو لنعيد فهمها من جديد من خلال طبيعة الصراع الذى يحركه هذا التحالف الشرير ضد الوطنية المصرية ممثلة فى الدولة ومؤسساتها وعلى رأسها المؤسسة العسكرية.

رغم خطورة الفاشيست فالحقيقة أن يونيو حاربت الأخطر حاربت من يدير الفاشيست هذه الأوليجاركية التى تريد تحطيم مفهوم الدولة الوطنية ليس فى مصر فقط بل على مستوى العالم باسم العولمة أو حرية السوق أو أى ابتذال لتحقيق مكاسبها.

كان نجاح نموذج الدولة الوطنية فى مصر يعنى هزيمة هذا التوحش الرأسمالى فى موقعة ليست هينة لذلك تعرضت الدولة المصرية المستعادة بعد يونيو لأكبر هجمة فى تاريخها الحديث من أجل إفشالها.

أثبتت لحظة المواجهة مع أزمة الوباء صدق ما طرحته يونيو حــــول استعادة الدولة وقدراتها فى إدارة الاقتصاد وأحياء الصناعة الوطنية وإنشاء بنية تحتية مستدامة فهى الأسلحة التى واجهنا بها الأزمة وحققنا نجاح ملموس. 

لكن هل، أنهكت الأوليجاركية نتيجة انتباه لخيانة وقعت هناك أو نجاح تحقق هنا وستفضل حمل عصاها والرحيل بعد صراعها الشرس داخل المجتمع البشرى مع مفهوم الدولة؟ 

الحقيقة أن الحرب مازالت فى بدايتها والمنتصر فيها سيكتب تاريخ المستقبل للعالم بعد عاصفة الوباء.. ولنحاول فى محطة أخرى استكشاف ملامح هذا المستقبل العنيد.