رسالة الفنان.. المبدع الحق

صباح الخير
كتبت: د. رانيا يحيي
الفن إبداع.. والمبدع الحق ملهم لمن حوله حيث لا تقتصر ملكاته الفردية على ذاتيته فقط بل تتجاوز هذه الأطر جميعها لتتحول إلى حالة من الخلق والإلهام لتنشئ لبنات خالصة من الحس الشعورى الجمالى فى أى عمل.. وحينما يتحول هذا الشعور الذاتى إلى الجمعى يكون هنا تأثير الفن كرسالة سامية للبشر..
ولكن لا يمكن أن نعتبر كل من له علاقة بالفن والإبداع فنانا، بل هو من تتوفر لديه كاريزما ربانية عفوية تؤثر حواسك الساكن منها، والنابض وتقتحم بواطنك ببواعث الإعجاب والتميز لاستغلالها إيجابياً فى أى نشاط اجتماعى.. والموسيقى ساحرة العواطف على مر العصور والمحرك السامى للبشر، ونظراً لأهمية الكلمة وتأثيرها فى النفوس فكانت عروض البرودواى التى ذاع انتشارها فى القرن التاسع عشر فنا متكاملا، وإن كان يرجع ظهورها للحضارات القديمة فى كل من اليونان وروما ومصر، وتطورت عبر العصور المختلفة حتى أصبحت من أهم الاتجاهات الفنية المحببة فى مانهاتن بولاية نيويورك بأمريكا، والتى اشتهرت بمسارحها العريقة وعروضها المميزة، حيث تجتمع الفنون الرفيعة من رقص وأدب وشعر وموسيقى وأداء مسرحى داخل بوتقتها لتنتج عرضا مسرحيا استعراضيا قويا فى كل عناصره.. وكان حفل أوركسترا القاهرة السيمفونى الأخير يجمع بين جنباته أطر النجاح، حيث اختير برنامج الحفل بعناية تامة؛ ليحوى العديد من موسيقات وأغنيات العروض سالفة الذكر والمحببة للجماهير، والتى تتباين موضوعاتها وتلامس وجداننا بما تمتلكه من صدق فى المعنى والأداء بقيادة المايسترو المصرى نادر عباسى كواحد من أبرز القادة المصريين حتى فى الخارج بمشاركاته المتعددة فى محافل الأوركسترات الدولية لتميزه وقدرته فى السيطرة على عازفى الأوركسترا فى حالة من الحب والود مع الحسم، فهى خليط من الانفعالات التى يلحظها المشاهد من خلال نظراته وحركاته الجسدية وإشارات يديه والتفاعل معها ليخرج لنا الحفل فى أفضل صورة ممكنة، وخاصة فى ظل تراجع المستويات الفنية بشكل عام، وعدم وجود القائد المبدع الذى يحسن قبضة الجماهير فى عالمه، فضعف المايسترو يحتم تلاشى أعداد غير قليلة من المتلقين مرة تلو الأخرى فتكون النتيجة هى تهاوى الرسالة الثقافية المرجوة، ولكن عباسى استطاع بحنكته وخبرته أن يمتلك ناصية الأوركسترا والجمهور لينصهرا سوياً فى ختام الحفل بأداء غنائى بمصاحبة الأوركسترا.
وكانت الأغنيات المنفردة للسوليستات السوبرانو أميرة سليم ابنة العائلة الفنية والتى تشع فنا بمجرد اعتلائها خشبة المسرح فتؤثر الجميع بكفاءتها وإمكانات صوتها المميزة ،حيث برعت فى توصيل رسالتها للجمهور بتكنيكها الغنائى الفريد، ونتمنى منها مشاركات أكثر فى مصر للنهوض بمستوى الغناء الأوبرالى على يديها كواحدة من أمهر مغنيات الأوبرا فى العصر الحديث، كما شارك أميرة فى الغناء المنفرد الباريتون إلهامى أمين الذى تقاسم معها فقرات الحفل بأدائه الغنائى المعبر، ولون صوته الأخاذ بقوته وطلاقته وكان أداؤهما غاية فى الجمال والرقة لهذه الأعمال البديعة، والتى رغم انتمائها إلى موسيقى القرن العشرين بكل حداثتها وتطورها من ناحية القالب والأسلوب الذى يعتمد على تغيير الموازين والتحولات المقامية بكثرة، والابتعاد عن الميلودية أو اللحنية المفرطة التى اتبعت خلال العصر الرومانتيكى، واستخدام الإيقاعات بشدة والاعتماد عليها كعنصر أساسى
داخل العمل الفنى؛ إلا أن هذه المؤلفات ارتقت للسامع، وحازت إعجابه واحتفظت بهذه التقنيات الحديثة بجانب ما لها من سمات جمالية تسيطر على مشاعرنا.. والفضل فى هذا يرجع للمايسترو الذى اختار هذا البرنامج بهذه الدقة ليستأثر بمشاعر الحضور ويخرج بنا لما يقرب من ساعتين إلى عالم هائم سابح فى الفضاء لنعود على أرض الواقع مع تصفيق الجمهور فى ختام الحفل.