الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

نعيش مشهدًا عربيّا ممزقًا

عاصر أحداثًا وحكومات وأنظمة، وكان على مدار تاريخه قوة فاعلة فى الساحة السياسية بالفكر والرأى والتأثير على مركز صُنع القرار السياسى.. إنه المفكر والسياسى المخضرم الدكتور مصطفى الفقى، الذى بدأ عشقه للسياسة من مسقط  رأسه فى محافظة البحيرة؛ حيث تلقى دراسته فى المرحلة الابتدائية بمدرسة أريمون مركز المحمودية، ثم انتقل إلى مدينة دمنهور لاستكمال دراسته الإعدادية والثانوية، وكانت بداية انطلاقته السياسية منذ أصر على الالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية فى جامعة القاهرة، التى يبدأ من عندها شهادته وحكايته عبر تاريخ ممتد من الأحداث:



 

• لنبدأ من حيث بدأتَ مشوارك السياسى بالتحاقك بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية؟

 

- جاء هذا القرار ليمثل نقلة حقيقية فى حياتى؛ حيث انتقلتُ إلى القاهرة للالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ولم يكن هناك فروع لهذه الكلية خارج القاهرة، وعلى عكس جميع الأصدقاء، الذين قرروا الالتحاق بكليات داخل محافظة الإسكندرية، التى تبعد مسافة ستين كيلو مترًا فقط عن مسقط رأسى، وقد كان قرارى الذى لا رجعة فيه وهو دراسة علم السياسة؛ لأنها الأقرب إلى شخصى، وكان علىَّ الاختيار بين قرب المسافة وحلمى، ولهذا قررتُ اختيار حلمى،  وبالفعل أمضيت أربعة أعوام من النشاط والتفوق فى الكلية، فقد كنتُ رئيسًا لاتحاد الطلاب، والتحقت بمنظمة الشباب بناءً على اختيارهم، وكذلك كانت مشاركتى فى التنظيم الطليعى، إلى أن تم تعيينى فى وزارة الخارجية بقرار جمهورى من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بين مجموعة قليلة جدّا بتاريخ الثامن من ديسمبر عام 1966.

 

• كيف كان أثر شخصية والدك ووالدتك فى فكرك ومستقبلك؟

 

- كان والدى رمزًا للتسامح، وكان رجلًا بسيطا، يعمل بالإشراف الزراعى؛ نظرًا لانتمائه لعائلة المغازى باشا، ولكن مع الإصلاح الزراعى تغيرت العديد من الأمور فى حياتنا، وكان والدى معروفًا بحُسن الخُلق والهدوء، رجل مصرى بسيط لا يهوى المشاكل، أمّا والدتى فقد كانت أكثر حزمًا وشدة من والدى، كانت امرأة مثابرة، ورُغم أنها لم تنل حظا وفيرًا من التعليم؛ فإنها بالفعل كانت على وعى تام بأهميته وضرورة الاهتمام به، وهذا ما نجحتْ أن تغرسه فىّ منذ طفولتى.

 

• ماهى الشخصيات الأخرى التى أثرت فيك؟

 

- الأمر متباين، ولا توجد شخصية بعينها، فعندما كنت تلميذًا فى المدرسة، تأثرت كثيرًا ببعض المعلمين،  وبالمناسبة فقد سعدتُ منذ أيام سعادة غامرة، بحديث دار بينى وبين أحد أساتذتى  فى المرحلة الثانوية، وهو أستاذ الفيزياء «سيد البجاوى»، الذى يبلغ من العمر الآن نحو 93 عامًا، وللعلم فقد تخصصت فى الفيزياء وكان زميلى فى الدراسة فى ذلك الحين العالم الكبير أحمد زويل. 

 

• من دمنهور إلى لندن تلك المرحلة الفارقة فى مسيرة د. مصطفى الفقى؟

 

- كانت دمنهور وستظل منجبة وعطاءة، تخرّج منها الشاعر فاروق جويدة، والعالم أحمد زويل، والوزير محمد العصار والعديد من القامات فى الوطن العربى عقب ذلك، أمّا فيما يخص لندن ففى عام 1971 سافرت إليها وفى عام 1977 حصلت على درجة الدكتوراه فى فلسفة العلوم السياسية،  وللعلم تظل الدكتوراه فى الفلسفة هى درجة علمية، فالعلوم السياسية هى العلم الذى يناقش علاقة الفرد بالدولة  ويبحث فى سلوك الإنسان داخل مجتمعه، وعلاقته بالسُّلطة، وعلم السياسة هو علم السُّلطة بالدرجة الأولى. فالتعريف الحقيقى للدولة هى أرض وشعب وسُلطة، ومن هنا جاءت أهمية العلوم السياسية. 

 

• ما أثر هذا الترحال على مسيرتك؟

 

- يظل الترحال الصانع الدائم لكل ما هو مختلف، فلو أن صدام حسين عاش بالخارج لفترة من الزمن، لتغيرت أساليبه فى الحُكم. ولو أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عاش فى الغرب لفترة من الزمن لأصبحت سياسته أعظم، فهى عظيمة مما لا شك فيه ولكنه لأصبح أعظم بكثير، فالاحتكاك بالخارج يصنع فى الوجدان ما يمكن أن يصنعه العلم والمعرفة ورؤية الآخرين، قد يتصور البعض أن السفر مجرد متعة الترحال، ولكن الأهم المحاكاة والاطلاع على حضارات مختلفة، ولذلك يذهب البعض للحصول على الدرجات العلمية بالخارج رُغم أنه قد تكون الدرجات ذاتها متاحة بالداخل.

 

• ماهى العلة الأساسية التى يعانى منها الفكر القومى العربى فى الوقت الراهن وسُبل التعافى منها؟

 

- الحياة تغيرت كثيرًا، خفت الحماس، وتداخلت المشكلات، وما أسموه بسنوات الربيع العربى أطفأت الكثير من الشموع، فقد كانت كالحق الذى يراد به الباطل، ورُغم أنها جاءت لتعبرعن الشعوب ومعاناتها ومصالحها ورغبتها فى التصدى لأنظمة  انتهى عمرها الافتراضى؛ فإنها على الجانب الآخر أتاحت الفرصة لتدخلات أجنبية، وتنامت ظاهرة الإرهاب، كما أتاحت الفرصة لقفز بعض القوى والجماعات إلى السُّلطة، كما شهدت مصر فى عهد الإخوان الإرهابية، من هذا المنطلق أعتقد أن الزخم القومى والحلم العربى لم يعد كما كان،  فالعالم تحوّل، ومع مرور الزمن سوف تعود الأمور إلى مجراها الطبيعى،  فقط علينا أن نحرص على التعلم الرصين والثقافة الواعية والإعلام المعتدل والجيد. وعلينا أن نبتعد عن المهاترات ونلتزم الصدق مع النفس، فالعلة الرئيسية لهذه الأمّة أنها أمّة تقول ما لا تفعل وتفعل ما لا تقول، لذلك اتهمنا البعضُ أننا ظاهرة صوتية ومجرد مَكلمة، بينما الأصل فى التاريخ العربى حافل بأمجاد لا بُد من استعادتها، مع العلم أن استعادتها لن تتم إلا بالضمير الوطنى الحقيقى.

 

• ما بين حياتك السياسية والأكاديمية استطعتَ عبور مراحل وأجيال وحققت المعادلة الصعبة التى فشل الكثيرون فى تحقيقها.. ما تفسيرك؟

 

- منذ الوهلة الأولى وأنا أسير وفقًا لعدة مستويات فى آن واحد، وربما هذا هو السبب الرئيسى فى حضورى واستمراريتى  سياسيّا وأكاديميّا،  فقد كنت دائمًا أجيد العثور على البديل المناسب، ربما تضييق بى سياسيّا، فلِمَ لا؟!، طالما أننى أستطيع التحرك أكاديميّا، أيضًا ليس هناك مشكلة طالما أننى أستطيع العمل فى السلك الدبلوماسى، الذى أيضًا إذا واجهتنى عوائق من خلاله فلما لا ألجأ للعمل البرلمانى وهكذا، عدد من الأصعدة عملت عليها متوازية فى الوقت ذاته، وربما كان هذا خطأ ولكننى كنت دائمًا مؤمنًا بالشخصية الموسوعية، التى تضرب فى كل اتجاه بسهم، ومن هذا المنطلق كنت دائمًا على مستوى الفكر والحركة متكاملًا إلى حد كبير.

 

•  كنت أحد صناع القرار فى مؤسّسة الرئاسة قبل ثورة يناير عام 2011.. ماذا تبقى لديك من أثر لهذه المرحلة؟

 

- تعاملتُ مع نظام مبارك كخبير، يبدى برأيه ويسمح لنفسه بهامش من الحرية، حتى إنه  كان يقول دائمًا عنى «مصطفى كمراجيح الهوا مرّة معنا ومرّة أخرى ضدنا»، ولعل السبب موضوعيتى والحيادية التى كنت أعتمدها مع الحرص على عدم الانسياق مع اتجاه واحد، وللعلم فأنا لاأزال مؤمنًا بهذه القناعة وسأظل مؤمنًا بها حتى النهاية، وعلى الصعيد الآخر فقد أفادتنى كثيرًا هذه المرحلة، فقد أتاحت لى الفرصة للقاء رموز ورؤساء دول، فقد تجوّلتُ مع الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك حول العالم، دول أوروبية وأخرى إفريقية، فى الوقت ذاته حضرتُ جلسات للعديد من قادة العالم بدءًا من جاك شيراك، نيلسون مانديلا، مارجريت تاتشر، وغيرهم من أسماء شهيرة وبارزة، بالإضافة إلى رؤساء أمريكا جميعًا، رونالد ريجان  وجورج بوش الأب وعدد كبير من القيادات التى ارتبطنا بها جميعًا.

 

• تم ترشيحك لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية خلفًا لعمرو موسى.. لماذا  لم يتم التكليف؟

 

-  بالفعل رُشحت من قِبَل المجلس العسكرى لتولى منصب أمين عام جامعة الدول العربية ولكنْ دولتان وقفتا ضدى، وهما السودان وقطر، أولًا السودان نظرًا لأننى كنت صباحًا ومساءً ألعن البشير وأراه أسوأ من حاكم السودان ذاته، و قد أثبتت الأيام صحة ما أقول، وعلى يده تم تقسيم السودان، أمّا قطر فقد كانت مشكلتها مع مصر، وبالتالى لم أحظ بالحصول على هذا المنصب وإنما حظيت بالتشريف من مجرد الترشيح حتى وإن لم يأتِ التكليف.

 

• ماذا لو توليتَ هذا المنصب ليوم واحد؟!

 

- لن يكون أمرًا هينًا  بالتأكيد، فالجامعة ليست كيانا مستقلا وإنما هى محصلة لإرادات الدول الأعضاء، ولكن كنتُ سأسعى بالضرورة لوضع الجامعة العربية على الطريق الذى يسمح لها من خلال أمانتها العامة أن تصبح جزءًا فاعلا من التطورات الدولية والإقليمية.

 

• ما هو تقييمك للمشهد السياسى العربى الراهن؟

 

- مشهد ممزق للغاية، فالجامعة العربية مظلومة؛ لأنها محصلة لإرادات الدول، والدول ليس لديها إرادة إيجابية تجاه الجامعة، وكل دولة عربية لديها أجندة خاصة، والبعض خاضع لضغوط أجنبية وأيضًا ترتيبات خارجية، والنتيجة عدم القدرة على توجيه الأمور كما يجب، فى الوقت ذاته فالحياة الحزبية ضعيفة، وعندما لا توجد أحزاب قوية لا يجوز أن نتوقع وجود عمل برلمانى.

 

• ماذا عن مكتبة الإسكندرية، وماذا سعيتَ  لتحقيقه منذ توليك منصب مدير المكتبة؟

 

- مكتبة الإسكندرية هى صرح ثقافى ضخم، إن لم تكن الأضخم فى مصر والمنطقة ككل، وهى مؤسّسة عالمية على أرض مصرية، وبالتالى تحتاج إلى فكر واع يدرك الداخل ويفهم الخارج، فكر لديه توازن بين الفن والأدب والتراث والثقافة والعلم، وداخل المكتبة هناك مراكز علمية مثل مركز د.مجدى يعقوب، مركز زاهى حواس فى الآثار، وإسماعيل سراج الدين فى الدراسات العلمية وهكذا..  وبها أيضًا أوركسترا ومركز الفنون، القبة السماوية ومتحف المخطوطات، ومتحف الآثار، ومركز دولى لترميم الكتب والوثائق من جميع أنحاء العالم، وتضم المكتبة أيضًا قاعات تتسع لأكثر من ألف وخمسمائة فرد، لدينا مكتبة ثرية،  تحتاج أن تظل دائمًا منارة،  ففى مصر بيت السنارى وقصر الأميرة خديجة فى حلوان ومركز توثيق التراث ومكتبة الإسكندرية التى تملك الكثير من المقومات،  ويسعدنى أن أزف إليكم خبرًا سارّا وهو قيام أرملة الدكتور بطرس غالى وهى تقترب من عامها المائة بإهدائها شقته بما تحتويه من كتبه لمكتبة الإسكندرية، وذلك تحقيقًا لوصية الدكتور بطرس غالى- رحمه الله- وهى أن تأول شقته عقب وفاة زوجته، العمر المديد لها، إلى مكتبة الإسكندرية، وأيضًا عميد كلية الفنون فى الإسكندرية قام بإهداء أربع شقق على البحر مباشرة لمكتبة الإسكندرية وفدان أرض، و قد تصورتُ لوهلة أنه لا ينجب إلا إننى اكتشفت عقب ذلك أن لديه ولدًا وبنتًا، وهما فى حقيقة الأمر يشجعانه لتقديم هذا العطاء السخى لمكتبة الإسكندرية، بإيجاز شديد هذه هى جاذبية المكتبة التى تتمتع بها، إلى أقصى مدى.

 

• ماذا عن فكرة توثيق تاريخ الرؤساء التى صرحتَ بها من قبل  فى ظل ما نشهده حاليًا من اختلاف وافتقار للغة الحوار؟

 

- نحن نسعى جاهدين لإتمام هذه المهمة الصعبة، فمن جهتها ابنة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر قدمت لأبيها خدمة جليلة، لعله يطرب بها فى قبره. فما تركت شاردة ولا واردة إلا وسجلتها ورقيّا وإلكترونيّا سواء خُطبه أو آراءه، وعلى الجانب الآخر الرئيس الراحل محمد أنور السادات، فقد قامت زوجته بإهداء كل مقتنياته، وبهذا لا يتبقى سوى الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، وأنا بالفعل ناشدت ابنيه بتقديم اللازم للمكتبة من أجل توثيق تاريخ حياته «ما له وما عليه»، فقد أتم نحو سبعة عشر شريطا وحديثًا مطولًا مع رئيس هيئة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة «سمير فرج»، ونحن بالفعل نحتاج هذه الأمور لأنها سوف تضعه فى مكانه اللائق.. وللعلم نحن نوثق حاليًا للرئيس «عبدالفتاح السيسى» منذ طفولته،  فأنا أسعى جاهدًا أن تصبح مكتبة الإسكندرية قبلة الجميع للحصول على أى مرجع، من خلال كتُب موثقة عن حكام مصر كما تفعل الدول الراقية، حتى لا نترك للانطباعات الشخصية والآراء الفردية أن تقيّم الحُكام و لو ظلمًا.

 

• بمناسبة الحديث عن حكام مصر السابقين.. هل ترى أن كل رئيس هو زعيم.. ومَن هو الزعيم من وجهة نظرك؟

 

- لا.. وللعلم عندما يبدأ الآخرون فى تسمية أى رئيس زعيمًا عليه أن يدرك أن نهايته اقتربت؛ لأن هذا يجعله يتصور أنه خارج إطار الزمن، مثلا «مبارك» قبل حرب الخليج كان الرئيس مبارك، و لكن عقب ذلك أصبح الزعيم المصرى، رُغم أن الزعامة شديدة الصلة بالكاريزما وليس كل رئيس لديه حضور، فهى نسبية للغاية، وإنما على سبيل المثال جمال عبدالناصر كان معروفًا بكاريزمته، وقد كان زعيمًا، أمّا مبارك فقد كان رئيسًا يحافظ على الدولة وعلى أرضها وأمنها ويرى هذا كافيًا.

 

• باعتبارك شاهدًا على العصر.. هل ترى أننا لانزال ننعم بالفكر والهوية المصرية صاحبة الريادة على مَرّ العصور؟

 

- الدور المصرى ليس بمنحة من الآخرين. فلم يقل أحد لمصر قودى العالم العربى، وإنما يظل هذا معطاءً تاريخيّا، وتزاوجًا بين نموذجَى التاريخ والجغرافيا،  رأسيّا التاريخ وأفقيّا الجغرافيا، ونقطة الالتقاء بينهما هى التى صنعت السبيكة الحضارية والثقافية لمصر، لدى مصر تراكم ثقافات لا نظير له فى العالم،  بداية من الحضارة المصرية القديمة الملهمة «الفرعونية» إلى الحضارة الإغريقية والرومانية والمصرية القبطية إلى الحضارة الإسلامية العربية، وتحت مظلة العروبة فلنسترجع الدول التى مرّت علينا الأمويين والعباسيين والفاطميين ثم حُكم المماليك والأيوبيين، وسوف نجد دائمًا أن مصر دولة ثرية سبيكة مشتعلة من التداخلات لقوى مختلفة فى العالم. 

• كيف ترى التحديات التى تواجهنا على جميع المستويات؟

 

- المشكلة الرئيسية التى تدفعنا دائمًا للشعور بوجود خلل ما، أن العالم كله يشهد تغييرًا

فى النمط الثقافى نتيجة عصر الإنترنت، وبالتالى تراجع الكتاب بشكل ما، ولكنه لن يموت وسيظل الوثيقة والحليف والأليف للإنسان، ثانيًا هناك دول صغيرة كثيرة شبّت عن الطوق وأصبحت تنظر إلينا بندّية وتحاول لعب دور المنافس. تزاحمنا وتحاول التأثير فى الحياة، هذا كله لم يكن موجودًا من قبل، وعلينا أن نفسح لهم المجال، ثالثًا المال العربى، الذى استطاع أن يضع أرصدة دعم ثقافى ولو شكلية على حساب حضارات متعاقبة فى دول أخرى، مثلما هو الأمر فى مصر. فنحن لدينا شارعان بالقاهرة كل منهما يمثل متحفًا مفتوحًا شارع المعز وشارع الهرم، وعلينا أن نقيس على هذا كل شىء، وندرك أن السلعة الثقافية ستظل فى مصر هى الأغلى ثمنًا. فأنا أتذكر أثناء تواجدى فى فيينا سفيرًا لمصر، عندما اقترحت إقامة معرض مصرى، كيف كان الإصرار على إقامته فى القصر الجمهورى، احترامًا وتقديرًا لمصر و تاريخها ومكانتها،  من هذا المنطلق ينبغى ألّا نفرّط فى هذا الدور أو نغفله على الإطلاق .

 

• ماذا عن دور الإعلام  فى  استعادة هذا الدور والحفاظ عليه؟

 

- دور كبير للغاية بالتأكيد، بشرط أن يكون موضوعيّا وفى متناول الجميع، فلا داعى للتعقيدات ولغة التخويف واعتماد عبارات الإنذار، فالحياة تقوم على أسُس محددة؛ خصوصًا أن الدين الغالب فى مصر هو الإسلام، الذى يقول «أنتم أعلم بشئون دنياكم»، ولم يفرض أبدًا  نمطا معينًا للحياة، كما يدّعى البعض، ولذلك يجب أن نعيش جميعًا فى تعايش مشترك على أسُس من المساواة والعدالة، مع العمل بمبدأ المواطنة بمعنى المساواة رُغم الاختلاف، طالما أن مراكزهم القانونية واحدة فى النهاية، وهذا ما نتطلع إليه دائمًا وينبغى أن نعمل معًا من أجله.

 

• السكون قد يكون تحته نار.. هكذا صرّحتَ وهكذا بدا جليّا السبب وراء ما شهدته المنطقة من ثورات الربيع العربى.. تعقيبك؟

 

- مبدئيّا أنا ضد الإسراف فى استخدام كلمة « ثورة» فى مناسبتها وغير مناسبتها، وأستطيع القول إن ما جرى كان مجرد اضطرابات سياسية وانفعالات وقتية، وليس معنى هذا أن الشباب، الذى خرج إلى ميدان التحرير كان متآمرًا، بل كان شبابًا بريئًا وطاهرًا، يبحث عن الحرية والفرص المتكافئة، ويريد أن يصل صوته للآخرين، ولكن كانت هناك قوى تسللت فى الداخل وغيرت المسار وعطلته فى اتجاه مختلف تمامًا، من هنا أعتبر ثورات الربيع العربى لم تكن بريئة تمامًا ولا خالصة النية تمامًا، ولكن جرى فيها ما يمكن التعبير عنه أنه حق يُراد به باطل.

 

• كيف ترى واقع الشباب المصرى منذ عام 2011 حتى الآن؟

 

- لقد انتاب الشباب بعض العُزلة، ولكن الدولة تحاول التحريض على احتوائه بكل السُّبُل، والدليل مؤتمرات الشباب التى حضرتها شخصيّا مع الرئيس عبدالفتاح السيسى، والتى تعطى دلالة على مدى اهتمام الدولة بالشباب وإدراكها للدور الرئيسى للشباب المصرى فى مجتمعه، و لكن ينبغى أن نعى جيدًا أن لكل بلد ظروفه، لا بُد أن نعترف أننا لانزال فى ظروف استثنائية فى مصر،  وراءنا حزام شديد الضغط لترويع مصر والمصريين،  نحن نحارب على عدة جبهات فى الوقت ذاته،  بداية حربنا ضد الإرهاب وأيضًا الإصلاح الاقتصادى والبنية الأساسية، تطوير التعليم والاهتمام بالصحة وغيرها من الملفات التى نلهث وراءها، ولذلك فى مثل هذه الحالات يجب أن نعترف أنه لا يمكن تحقيق كل شىء دفعة واحدة، بل نحن بحاجة إلى بعض الوقت، وهذا ما شعرنا به مؤخرًا، لا يوجد حل سحرى عاجل ولكن نحن نبنى «عاصمة إدارية» بتكلفة ضخمة ولايزال هناك الكثير من البناء الذى إن دل يدل على رغبة الدولة فى ترك بصمة قوية على المستقبل المصرى فيما هو قادم. • أخيرًا.. متى تقرر التزام الصمت والانسحاب من المشهد؟

 

- عندما أشعر بفكرة الغرض والهوَى،  حين أشعر أنه لن يتم أخذ رأيى بتجرد وموضوعية، فى هذه الحالة لن أتقدم بحماس أبدًا لإبداء رأيى فيما يدور،  فمن يعرف أكثر يتألم أكثر. ومن يدرك أكثر يشعر بالمجهول أكثر، ويقال دائمًا إن التعامُل والتعاطى مع الفكر والفلسفات، أمور ثقيلة على الإنسان، قد تحركه فى اتجاهات أخرى غير إيجابية، ولكن أنا شخصيّا عقب أعوام من العمل والاحتكاك والاستجابة والاعتراض والرفض للضغوط اكتشفتُ أن هذا هو السبيل الأمثل لصُنع السياسى الدولى المحترم.