الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ملايين القدس وطائرات النضال

دائمًا ما كان هذا المشهد والهتاف المتكرر.. حشد من الفاشيست الإخوان ووراؤهم حشد آخر من الببغاوات يرددون وراءهم «على القدس رايحين شهداء بالملايين» تأخذ الحماسة المفرطة وحفلة الزار التى لا تنتهى الحشدين إلى ذروة النشوة وهم سعداء بالملايين التى تتحرك داخل خيالهم  فى طريقها إلى أسوار القدس.



يبقى الغائب الوحيد عن الحشدين هو العقل الذى تم تغييبه عمدًا عن الحضور، فلو تم السماح له بالحضور فأول ما سيفعله أنه سيوقف هذه الحماسة المفرطة ويبطل سكرات النشوة، لأنه سيطرح أسئلته التى تثير دائمًا غضب الحشود مسلوبة الوعى وتطالبها بالإفاقة.

هل الهدف من الذهاب إلى القدس هو الشهادة وبعدها لا يهم أن يظل المحتل على أرضها أو لا يظل ؟ المهم أن الملايين صعدت جميعها إلى السماء وتركت الأرض للمحتل. كيف ستصل هذه الملايين التى ترجو الشهادة والصعود إلى السماء فى أسرع وقت إلى أسوار القدس المحتلة ؟ ماهى وسائل المواصلات التى سنضع الملايين داخلها ونشحنهم إلى غرضهم فى التفانى أمام أسوارها؟ ستقلع مثلًا.. آلاف رحلات الطيران من الدول الإسلامية والعربية البعيدة عن القدس وعلى متنها بعض من الملايين وتهبط فى مطار بن جوريون متجمعة انتظارًا لإشارة الزحف المظفر إلى القدس المحتل!!

أعتقد أن أصحاب الحشد المغيب وصلوا للحل الناجع الخاص بالدول العربية المحيطة والقريبة من إسرائيل وهو تحرك الملايين سيرًا على الأقدام حاملين الذاد والذواد، فماذا تعنى بضع آلاف الكيلومترات تقطعها الملايين السائرة من أجل غرض الشهادة أمام أسوار القدس وبقاء المحتل داخلها !!

ينصرف الحشد المترهل الجسد ممسوح العقل سعيدًا باستعادة القدس فى خياله المشوه انتظارًا ليحتشد مرة أخرى مرددًا هتافه المخدر لكل فعل عقلانى حقيقى يمكن أن يساهم فى استعادة الحق فى القدس.

 يظل المحتل جالسًا فى سعادة أمام أبواب القدس منتظرًا الملايين التى لن تأتى أبدًا وإن تحققت الاستحالة وأتت فهى ستسرع صاعدة إلى السماء تاركة له الأرض.

 لا يترك الحشد الفاشى ببغاواته بعيدًا عن تأثيره، فهو يحقنهم بمخدر النشوة على مدار الساعة، وبهذه الجرعات قد يوفر عليهم مشقة السير على الأقدام وعناء رحلات الطيران التى تنتظرها الملايين الزاحفة، فعن طريق السوشيال ميديا تذهب جرعة الخرافة إلى كل مسلوب العقل ومخدوع  بانتظام إلى داخل بيته.

تطاردك المواد المصنعة داخل مطابخ الخرافة والمطهية جيدًا على نار التلفيق بوجبة رئيسية وهى زوال إسرائيل، ولا يكتفى الطاهى بطبق بسيط بل هو متقن فى تحضيره مزودًا بالأرقام والتواريخ والدلالات لتأكيد حتمية هذا الزوال، وأنت جالس فى بيتك تشاهد على الشاشات المصنوعة فى كوريا الجنوبية استعدادات الملايين وهى فى طريقها للزحف.

على هذا فإن تعاطيت مخدرات الفاشيست واستمتعت بسكرة النشوة وتناسيت الفكرة بعد الإفاقة سيكون أمامك اختياران أيهما أقرب فى    تحققه المستحيل، إما تزول إسرائيل بفعل تعامد كوكب زحل مع مذنب مجهول قادم من الفضاء المجهول حسب نبوءات السوشيال، وهنا ترقص فرحًا بقدوم الزوال الإسرائيلى وكفتك النبوءات شر مشقة الزحف، أو عليك أن تتعب قليلًا وتتحرك من أمام الشاشة الكورية حاملًا مؤنتك ثم تنضم للملايين الخيالية الزاحفة إلى الشهادة على أسوار القدس. هذا حال الفاشيست وضلالاتهم.. أما إذا ذهبت إلى اليسار فسترتفع حرارة المشهد التاريخى وسيعطيك اليسار وجبة "أكشن" مرتفعة السعرات النضالية لتنتهى بك إلى تخمة من "الكادرات" المثيرة المزخرفة بعلامات النصر الوهمية والكوفية الفلسطينية وشعارات القضية التى لم تحل للآن.

فى العام الأخير من الستينيات أطلق المناضلون "موضة" خطف الطائرات وتفجيرها، وفى العملية الأولى كان الهدف الغريب والطفولى هو أن تحلق الطائرة الأمريكية المخطوفة فوق فلسطين ومن خلال اللاسلكى تقول الخاطفة المناضلة ورفيقها المناضل: فلسطين حرة ثم هبطت بعدها الطائرة المخطوفة فى دمشق ليتم تفجير الطائرة ويسحب بعدها النظام السورى الرفيقة والرفيق إلى وصلة من التحقيق على الطريقة السورية البعثية ثم  تم الإفراج عن الرفيقين فى صفقة معتادة من صفقات النضال.

 طور اليسار من نفسه وأطلق سلسلة من الدكاكين " الفرانشيز " النضالى داخل الوطن العربى أو بمعنى آخر نضــــال عربى / عربى حسب الطلب، وحملت دكاكين " الفرانشيز " النضالى كنية أصحابها فتجد دكان النضال معلقًا عليه لافتة لصاحبه "أبو عادل" أو"أبو سمير" أو "أبو سامية " وتجد قائمة طويلة من الخدمات يقدمها الدكان النضالى حسب رغبة الزبون الإقليمى والدولى، خطف طائرات، اغتيال سياسى ولا مانع من جنائى أيضًا، على استعداد تام للإشراف وحماية تجارة المخدرات، يمكن إضافة رفاق أجانب للعمليات النضالية حسب الطلب.

اختفى الاتحاد السوفيتى فكسدت تجارة النضال وبدأ "الأبوات" أو  "أسطوات" النضال يتساقطون اغتيالًا وموتًا فى ظروف غامضة، واحد وراء الآخر لتصفى حساباتهم القديمة..غير النضالية بالتأكيد.

وجد الرفاق الأيتام بعد رحيل " الأبوات " دكاكين " الفرانشيز " خالية من الزبائن، اشترى وكيل إيرانى منهم أسرار طبخة النضال الساخنة باسم الثورة التى ستحرر العالم من قوى الاستكبار وسيبدأ التحرير بتحرير الوطن العربى من العرب وبعدها ينظر فى أمر فلسطين. أجرى الوكيل الإيرانى بعض التغييرات عند إعادة التجديد والافتتاح لسلسلة دكاكين "الفرانشيز" الخاصة به، فبدلًا من دكان أبو فلان للنضال  أضاف مسحة دينية للافتة المعلقة على الدكان متناغمًا مع أصدقائه الفاشيست الإخوان، فطبع على اللافتات ملصق أحزاب وجماعات والأهم أنها وحدها من تتبع الله.

ذهب أيتام اليسار الصغار إلى زاوية مهملة فى نهاية شارع السياسة حاملين بضاعتهم القديمة من علامات النصر الوهمية والكوفية وكثير من الثرثرة حول حتمية حل القضية، لم يبقوا طويلًا فى حال البطالة، فجاء الفرج مع العولمة وحسابات القوة الأعظم التى وجدت لهم عملًا ضمن الحسابات وخططها فى إدارة العالم فمنحتهم "فرانشيز " جديدًا تريد أن تغزو به السوق السياسية وأعطت "للفرانشيز" الجديد علامة تجارية مسجلة باسم حقوق الإنسان، وبدلًا من دكان النضال لصاحبه أبو فلان تحول الدكان إلى مركز حقوقى صاحبه الناشط علّان.

نسى الرفاق القضية واهترأت الكوفية وتوارت علامة النصر الوهمية فى خجل، ووجد الرفاق أن جيرانهم فى السوق من الإخوة والأخوات الفاشيست يعملون مثلهم عند نفس الوكيل الأعظم فتقاسموا معهم مكاسب التجارة الحرام على حساب القضية وشعب القضية.  

هذا الطريق الطويل من الجهاد الزائف والنضال الخائب ماذا حقق للقضية وشعبها؟

اتفاقية متآكلة باسم أوسلو يقتات على بقاياها المناضلون وعلى الناحية الأخرى أمراء حرب يتاجرون باسم الدين فى دماء أبناء بلدة صغيرة منكوبة بهم اسمها غزة ولا يهم من المشترى المهم من يدفع أكثر ثمنًا للدماء البريئة.

يطرح هذا التاريخ الكارثى سيئ السمعة والذى صنعه بتبجح الأخوة المجاهدون والرفاق المناضلون أسئلة ملحة على من حضر وقائعه ويتابع مصائبه حتى الآن.. متى يتم التخلص من هذا الإرث البغيض؟ وكيف يتم الخلاص؟ ومن هو المقصود بهذا الفعل؟

إجابة السؤال الأول مرتبطة بعامل الزمن والإسراع والإبطاء أمر فى أيدينا وليس فى أيدى أحد آخر، والإجابة الثانية متعلقة بالوسيلة وهى جلية  لمن يريد أن يراها، إنها العقل الناقد الواقعى المتحرر من خرافات الأخوة المجاهدين ومزايدات الرفاق المناضلين، أما الإجابة الأخيرة فالمقصود بها العقل المصرى والعربى الذى وقع أسيرًا وما زال يعانى من أسر أغلال خرافة الإخوة ومزايدة الرفاق.  

يوم يتحرر هذا العقل من الخرافة والمزايدة ستتحرر القضية الفلسطينية، كانت السطور السابقة ما هى إلا تقدمة تبين حقيقة الإرث الكارثى الذى يحاصر عقولنا وتصوره الكثير حقائق ثابتة لا تقبل التغيير، ولكن الحقيقة الوحيدة الثابتة أنه مجرد وهم نحن قادرون على محوه عندما نعمل على ذلك.

سنحاول على قدر المستطاع خلال الأسابيع القادمة أن تحمل هذه السطور بعض الأفكار والرؤى التى قد تكون ذات نفع فى الوصول إلى التحرر من هذا الإرث وتوابعه الحالية حتى يتحرر قرارنا تجاه قضيتنا ويصبح ملكًا خالصًا للعقلانية.