الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

طيور المحبة

نسيت أن تصنع حاجزًا مناسبًا بينها وبين من يجاورها فى المقعد مثل كل مرة،  اتخذ الباص سرعته،  كانت دائما تضع حقيبتها سورًا،  أو كيس مشترواتها ينبهها إلى أى حركة بجوارها إذا غفلت أو أخذتها سنة من نعاس على الطريق الطويل إلى بيتها. كانت أيضا تتلمس جوانب مقعدها،  وتتفرس فى وجه من يجلس إلى جانبها،  ومن يجلس خلفها. تراقب ظهر كل مقعد،  وتمد يدها بلطف لتتأكد من وجود حشية الكرسى بدون أى تلف أو فراغات. تجلس دائمًا إلى جانب الشباك،  تحتمى بجدار الباص من العابرين فى ممر الحياة العامرة بالركاب،  الأظافر الطويلة والمخالب القابضة على أسوار مقعدها،  الحقائب الثقيلة التى يمكن أن تتدلى على كتفها،  الدوسيهات البلاستيكية أم كبسونة التى تشبه أطرافها المببة حد الموسى يزدحم الباص،  وتغص الحياة بالركاب،  فمن صاعد ومن مغادر وتلك حال الدنيا.. تقول لنفسها وهى تتأمل الناس والأشياء يعدون بسرعة وبلا هوادة،  تبتسم أهم الذين يعدون أم أن الباص هو الذى يطير بسرعة البرق؟. تتشبث بمقعدها والباص يمرق فوق الكوبرى،  باص عابر للقارات!. يصعد إلى الباص فى إحدى المحطات،  بعد عبور القارات،  بعد الكوبرى،  وكانت الراكبة بجوارها قد تهيأت للنزول،  التقط هو اللحظة،  وفى لحظة خاطفة جلس لم تستطع أن تضع أسوارها،  نسيت أن تضع الحقيبة،  ولم تشتر بعد شيئا فتخشخش أوراق كيسه إلى جوارها كورقات شجر فاجأتها الريح. ملامحه ريفية دقيقة،  أنفه أقنى،  مرتفع فى وسامة،  وعيناه حادتان،  تدوران فى محيطين ضيقين إلى حد ما،  لكن نظرته متوثبة حادة،  إنسان عينيه يجرى على تفاصيلها. يفاجئها صوته: الخواتم دى عاج؟ تطلعت إليه،  نُذر البدايات إذن!،  للحظة جذبها اهتمامه،  قالت: مصنوعة من نوى البلح،  وبُن القهوة. رفع حاجبيه دهشة: بُن ونوى بلح؟ - ممكن أشوفها خلعت أحد خواتمها،  ومدت به يدها إليه،  قلَّبه بين يديه،  تلمس حوافه،  رفعه مقربا الخاتم من أنفه. - فين ريحة البُن؟ تذوقه بطرف لسانه - وفين طعم البلح؟ارتبكت،  عاجلها - بالمناسبة ممكن أعزمك على فنجان قهوة؟ وابتسم... «على الريحة» تطلعت إليه،  غمغمت - عندى شُغل - نصف ساعة إجازة من الشُغل،  مسافة شرب القهوة تطلعت إلى شباك الباص،  همست لنفسها.. هاهو مقتحم يقفز الحواجز،  ويتخطى الأسوار فماذا أنت بفاعلة،  لقد اخترت وحدتك،  نفسك قلعتك،  عدلت قول القائل «بيتى قلعتى» مد إليها يده بالخاتم - الخاتم جميل لكن فى يدك أجمل لابسة نضارة غامقة وكبيرة ليه؟ممكن لو سمحت أشوف عينيك؟ طلب صغير.. أمنية ممكن تتحقق؟ حدجته بنظرة سريعة،  «أنا كالحصان السائر فى طريقه،  شفت مرة حصانا يخلع نظارتيه،  شفته مرة يلتفت يمينًا أو شمالًا،  شفته هجر طريقه أو غيَّره؟- طبعا ممكن الحصان يغَّير طريقه،  وممكن يفلت من العربة،  وممكن يطير فى السما راقت لها كلماته،  ترى هل يمس معنى ما فى داخلها،  تأملت حصانا مجنحا يطير لكنه لا يلبث أن يهوى هامدًا. كان يشعر أنه أحرز تقدما ما فى علاقته العابرة،  ابتسم - دقيقة أرد على الموبايل آلو... جهزت لك شحنة ثانية «بانيه»،  ولحم «الشاورمة»،  على وصول إن شاء الله .. أتراه جزارا؟عاد يبتسم وكأنه يقرأ أفكارها - محسوبك فرارجى،  ثم أشار رافعا يده إلى رقبته مفرودة،  مررها من جهة اليمين إلى جهة اليسار - أذبح الفراخ والحمام والديوك الرومى،  الدندى ! جفلت،  لقد حرمت على نفسها اللحم والدجاج والحمام،  قاطعت كل ما يُذبح وله روح عندما رأت أرنبا أبيض يرتعش بين يدىّ صاحبه،  عيناه كانتا مذعورتين وتلمعان بالدمع،  وهو يجره من قفصه،  كان سيذبحه على مرأى من صاحبته،  ينهى قصة حب وألفة وجوار،  عادت تغمغم «نفسى قلعتى». كيف أدرك الأرنب ساعتها لمعة السكين،  وارتقب سن شفرته ؟،  كيف أدرك طعم الفراق الصعب وهو ينظر فى عينىّ صاحبته؟- عندى محل،  أبرز كارتا باسمه وباسم المحل «طيور المحبة» ابتسمت فى أسى «طيور المحبة التى سيذبحها»! - أتحبين الفراخ؟ أراهن على أنك تأكلينها بعظمها ولحمها وريشها بعد أن تذبحيها بعينيك ضحكت رغما عنها - أنا ما أقدرش أذبح فرخة كان يقول لنفسه: عِز الطلب،  تبدو رقيقة وهشة،  ملابسها راقية،  مُزة على حق نظر من شباك الباص،  اقتنص لبصره قطعة من السماء،  زاوية ضيقة سمحت بها جلسته إلى جانبها. غنى بصوت هامس: «طول عمرى أحب البلح  لكن النخل فى العالى يابا نادانى البلح لكن الحيَّا راس مالى تعبت والله وطعم البلح غالى» كانت لديه دائما أغنياته الخاصة،  يناجى بها نفسه فى المزرعة التى كان يعمل بها فى إحدى القرى بضواحى المدينة،  حصل على دبلوم المدرسة الصناعية،  وكان الأجدر به أن يدرس الزراعة فقريته كلها مزارع،  اضطر للعمل فى المدينة،  رزقها واسع،  ناس القرية يشترون بالأجل،  لا يسعفه هذا أبدا،  يهمس «أريد المية جارية». ابتدرته هى هذه المرة - وأنت إيه شعورك وأنت تذبح فرخة؟ضحك طويلا حتى أن ركاب الباص انتبهوا - من أسهل ما يكون ذبح الفرخة،  أنا ممكن أعلمك تأملت يديه الصغيرتين،  أظافره الدقيقة التى تستدير على أصابعه كالمخالب،  اقترب منها،  استشعرت أنفاسه لاهبة كموقد اشتعلت ناره،  فخذاها يتناسلان أفخاذ دجاجات بيضاء وحمراء متراصة، مهيأة فى أطباق من الفوم الأبيض،  ويداه تغلفانها، العجيب أنه رأت فمها مقوسًا مكونًا من مئات المناقير المحنطة - «بانيه».. «شاورمة».. رقائق من اللحم يقترب لاهثا،  تحاول أن تبتعد، حقيبتها لا تصلح حاجزًا،  لم تمد يدها حتى لتضعها بينهما،  فات أوان ذلك،  احتبسصوتها فلم تستطع أن تقول له.. ابتعد ضاعت حروفها فجأة، وذهبت إلى قرار بعيد. عاد يُلمح إلى عزومة القهوة على الريحة،  وعادت لتتمترس فى المقعد. - أنت نازلة فى أى محطة؟- فى الميدان،  وأنت؟- قبله بمحطة جففت عرقها بمنديلها،  سينزل إذن،  وستضع أسوارها من جديد،  «نفسى قلعتى» ستقولها إلى يوم الدين. بدا الوقت ثقيلًا وبطيئًا،  عبرت محطته ولم ينزل،  نبهته ابتسم - ومن قال أنى سأنزل منها؟أنا ما صدقت ألاقى واحدة أعرف أتكلم معها - وميعادك؟- ممكن أروح فى أى وقت من النهار،  وردت «البانيه » و«الشاورمة» من الساعة سبعة الصبح،  والمحاسبة والتحصيل أى وقت. أحست بحصاره لها،  نظرت من حولها،  الكل مشغول بنفسه فمن متحدث فى هاتفه أو مشغول بتقليب بوستاته ورسائله،  السائق ينهب الطريق نهبا،  يصعد ركاب،  وينزل آخرون تفكر فى نهاية ما لهذا الجوار،  حفنات الريش تتدفق من حولها بغزارة،  الطيور تملأ السماء المدماة وكأنها لم تعرف سوى دماء الغروب،  أصوات طيور غاضبة بحثت عن هويتها طويلا استمسكت بالرفرفة لكن الدنيا خصاص نافذة ضيقة،  تنفذ منها ماسورة بندقية لصائد ميت قلبه ويده على الزناد،  ترفرف الأجنحة،  تُحلِّق بعيدا ثم تفاجئها طلقة أصغر من حصاة فتسقط هامدة. تتراص أفخذة الدجاجات «بانيه»،  و«شاورمة»،  تلف حول نفسها فى أسطوانة،  هى الأخرى تدور حول نفسها،  ومن تحتها موقد لاهب،  مد يده سريعا إلى نظارتها بحركة خاطفة حققى لى أمنيتى.. أشوف عينيك،  أبعدت يده فلامستها. قالت بحدة: لا تُملى علىّ إرادتك،  ضحك وهو يخبط على فخذه - إرادتك.. فين هى إرادتك؟ أنت حصان مغمى عينيه،  لابس نضارة لا يرى من الدنيا إلا المفروض عليه، لا عمره بص يمين،  ولا عمره بص شمال،  تعالى سأريك الدنيا من فنجان قهوة على الريحة. ارتجفت،  وكأنه اخترق داخلها بمديته،  شق عن قلبها،  وبوسعه الآن أن ينزع حوصلتها من مكمنها يشقها إلى نصفين، سيحصل على خاتمها الذهبى الذى ابتلعته من زمن،  واختزنته فيها سيحصل عليه بجرة مدية،  بل على لؤلؤتها التى مزقت حشاها ستلمع بين يديه. «ربِّى ياخايبة للغايبة»،  هذه المرة تربين للغائب،  وها هو جاء بمديته، انتفض جناحاها،  وارتعش بدنها كله. فى الميدان نزلت وهو خلفها،  تبغته مشتعلة،  وروحه متوثبة،  خطواته رشيقة،  لمحت حصانا يسوطه صاحبه بينما يجر حمولة ثقيلة، نظارته تحجب عنه رؤية المشهد كاملا،  يمضى فى طريقه مُعذبا بالسوط،  وهو يرقب مُهرة تتخطر من بعيد،  يصهل،  ويحاول التوقف فيرده السوط إلى الطريق. تبعها،  تأمل رقصات فستانها على قصبة قدميها،  تصورها معلقة فى «جنش» قلبه،  ابتسم لم تقف فى وجهه واحدة من قبل،  كلهن سواء،  يستطيع أن يقسم أنه يعلق فى ذراعه منهن فى كل نهار حبل حمائم صاحية بريشها،  وأنه يخليهن من عظامهن الرقيقة بنظرة عين، ويُقبل مناقيرهن بشغف،  أعجبته،  رفضها يثيره،  تمردها يستهويه،  ممانعتها تحرضه على أن يترك كل شىء يشغله ليتبعها. تلاحقت أنفاسها،  عبرت الطريق،  أسرعت الخطى وهو يلاحقها،  خطاه لاهثة وأنفاسه تضطرب،  تعبر فيعبر،  تدخل شارعا فيدخل،  تختبئ وسط المارة فيتبعها متوترا،  تتقلص عضلات وجهه،  تختلج ملامحه،  شرايين كفه تنبض سريعا،  يدرك أنها تقاوم فى شراسة،  كل حكمته وحنكته تتجلى الآن وهو يدخلها إلى قفصه ...«بيتك.. بيتك.. بيتك» هى تسرع الخطى بعيدًا عنه،  تردد «نفسى قلعتى». كانت تعدو لاهثة،  توقفت فى مدخل بيت قديم،  نظرت خلفها،  لم تجده،  اطمأنت إلى أن خطاه قد ابتعدت،  وأنه ضل طريقه إليها فى الزحام. صعدت درجات السلم مسرعة،  لكن جذبة عنيفة شدتها إلى الوراء،  تلفتت فلم تجد أحدا،  فوجئت بحضن دافئ من ريش،  وساقين مغروستين فى حذاء بلاستيكى طويل،  وصوته يقهقه - التُزلك ؟.... اعتبريه «بوت»! بوت شتوى طويل ضحكته الساخرة تزلزلها. تشبه تماما ضحكة جدتها،  عندما أعطتها أوراق الخس،  وقشور حبات الكوسة لترطب على قلب طيورها فى عز الصيف،  صعدت إلى السطح وفى يدها الصحن العامر،  تكاثرت عليها الدجاجات صعدت على يديها،  نقرتها بمناقيرها،  وطاردها ديك رومى كبير بريش أسود،  وعُرف أحمر قان،  وصوت زاعق لا يتوقف،  ألقت الصحن لاهثة تعدو فى اتجاه الجدة التى عاجلتها بإلقاء أرنب صغير فى حضنها لتقاوم الخوف،  صرخت،  أمسك بيدها الفرارجى،  يده ويدها تقبضان عى مدية تلمع،  يهتف بها: «اذبحيها وإلا ذبحتك»،  «اتعشى بها قبل أن تتغدى بك»                                           تتطلع إليه بعينين ذاهلتين - من هى التى ستذبحنى؟،  من تلك التى تتغدى بى؟ فيعلو صوته ساخرا: إرادتك! ملأ ريشها مدخل البيت القديم كله،  تحسست عنقها فإذا بقطرات من دمها تسيل، لكن إرادتها فى قلبها،  وفى حوصلتها فى قرار مكين،  ولا تزال فى عرقها تنبض،  وتنتفض  من رأسها إلى كعبيها،  رغم أن مديته لم تزل تلمع فى فضائها البعيد.