الإثنين 23 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

نصائح فيتو كورليونى الأخيرة

فى أحد مشاهد فيلم ( الأب الروحى أو العراب ) من إخراج فرانسس فورد كوبلا، وعن رواية ماريو بوزو، يجلس الأب دون فيتو كورليونى زعيم عائلة كورليونى إحدى عائلات المافيا الخمس المتحكمة فى عالم الجريمة بنيويورك مع الابن مايكل كورليونى فى حديقة القصر بعد أن استشعر قرب النهاية.



يتأمل الأب كورليونى كرمة العنب حوله ويرتشف بضع رشفات من كأس النبيذ الأحمر ويعطى للابن مايكل نصائحه الأخيرة مستشرفًا بهذه النصائح المستقبل الذى سيواجهه الابن، فى البداية يعطى كورليونى الأب نصائح تكتيكية من تأمين شبكة الهاتف حتى لا يتجسس عليه أحد وزيادة أعداد الحرس، ينصت مايكل فى اهتمام شديد مدركًا أن هذه بداية لما هو أخطر وأهم، فالأب كورليونى سيطلعه لاحقًا على صفة عدوه الرئيسى وأسلوبه فى القضاء عليه. ينطق الأب باسم أميليو بارزينى زعيم إحدى العائلات الخمس المنافسة، تبدو الدهشة على وجه مايكل، فالعدو الدائم والواضح لعائلته هو برونو تاتاليا زعيم عائلة منافسة أخرى، ولا يكتفى الأب بالاسم بل يعطيه الأهم الأسلوب، فيخبره بأن الخيانة ستأتى من العائلة، وأن من سيدعوه إلى عقد اجتماع مع بارزينى لتصفية الأجواء بين عائلات المافيا هو الخائن، وفى هذا الاجتماع ستكون نهايته ويصفى داخله لينتهى بمقتل الابن مايكل نفوذ وسطوة عائلة كورليونى. يرحل الأب كورليونى عن العالم وفى جنازته التى يحضرها كافة زعماء العائلات الخمس للمافيا ورجالهم، تتحقق رؤيته المستقبلية بدقة، يأتى تيسو الرجل المهم فى عائلة كورليونى ويهمس فى أذن مايكل ليخبره بأن بارزينى يطلب عقد اجتماع لتصفية الأجواء بين العائلات، يومئ مايكل برأسه موافقًا على عقد الاجتماع ولكنه يشترط أن يتم عقب حضوره معمودية ابن أخته كونى، فهو عرّابه أو أبوه الروحى. يختتم مشهد الجنازة ومايكل متأملاً الجميع.. الأعداء والأصدقاء وعائلته والخونة منتظرًا لحظة اتخاذ القرار، تتابع أحداث الفيلم الملحمى المصنف الأفضل فى تاريخ السينما الأمريكية، وفى يوم المعمودية اتخذ مايكل قراره بتصفية رءوس العائلات الخمس والخونة زوج شقيقته ومساعده تيسو ليكن مشهد نهاية الفيلم محملاً بكثير من الدلالات، وأعضاء المافيا يقبلون يده فى تقديس واحترام شديدين مؤمنين بقدرته التخطيطية الفذة وقوته على تنفيذ ما خطط له. فى مشهد النهاية عند لحظة تقبيل اليد هل كان أعضاء المافيا هنا يقبلون يد الابن مايكل كورليونى أم يد الأب فيتو كورليونى؟ يحمل ظاهر المشهد الإجابة المنطقية على السؤال وهى أن صاحب الانتصار هو الابن مايكل لكن باطن الإجابة يقول إن الفضل كله فى هذا الانتصار يعود للعقل الاستراتيجى الذى كشف العدو الرئيسي وأسلوبه فى تحقيق أغراضه، أو الأب فيتو كورليونى الذى أعطى مايكل خريطة المواجهة فسار عليها  حتى وصل إلى هدفه.. بالتأكيد لا يمكن إنكار قدرة الابن فى التنفيذ.  بعيدًا عن هذا المثال القادم من السينما الأمريكية وعالم المافيا فإن قلب هذا المثال هو طبيعة هذا العقل الاستراتيجى الذى تمتع به الأب فيتو كورليونى إنه عقل من نوعية خاصة قائم على عدد من الأسس أولها خبرات عميقة مكتسبة من النجاح والفشل وموهبة فريدة فى صناعة وتصميم رؤية مستقبلية تغيب عن الجميع ويراها هو وحده، فتصبح هذه الرؤية بمثابة قارب النجاة لكل من يلتحق بها ويسير على هديها. يصنع هذا العقل رؤيته بطريقة خاصة، فهو لا ينجرف وراء غبار التفاصيل التى يلقيها العدو فى طريقه ليحجب عنه المشهد الكلى أو يستسلم لخداع تحولات العدو عندما يغير العدو المكياج الذى يتخفى وراءه مبدلًا ملامح وجهه كأنه عائد بشكل جديد منهيًا العداء القديم. لا يستسلم هذا العقل لذلك الخداع ويضع صورة العدو الحقيقية على رادار رؤيته دائمًا متتبعًا تحولاته، لأن هذه التحولات تكشف الأسلوب الذى سيتبعه العدو فى مهاجمته. يعتبر هذا العقل المصمم والمصنع للرؤى المستقبلية فى مواجهة العدو أو الأعداء هو لب بناء أى نظام سياسى وحكم، فعن طريق ما يصممه ويصنعه من رؤى يتم على أساسها بناء آلات الدعاية والسياسة لهذا النظام والتى تنتج فى النهاية القرارات المصيرية القائدة للنجاة من مكائد العدو الذى يسعى دائمًا فى التحطيم والتدمير. ترتبط دائمًا كلمة المستقبل بهذا العقل الفريد فهو يعتبر أن الفعل الحاضر ضد العدو نصف هزيمة أما رد الفعل فهو الهزيمة الكاملة التى لا يستطيع أى نظام سياسى وحكم تحملها مهما بلغت درجة قوته وتماسكه، لذلك فالمستقبل بالنسبة له يعتبر هو الماضى الذى مر وتم فيه تصميم وتصنيع رؤية المستقبل القادم. فى بعض الأحيان من شدة غرابة الرؤية المصممة وقبل تصنيعها ثم تطبيقها تندهش العقول المحدودة وقد تصل إلى رفضها متصورة بمحدوديتها أنها محض خيال غير قابل للتحقق. تمتلك الأمم المتطورة حاضنات لهذه النوعية من العقول المستشرفة للمستقبل وتعتبرها كنزها وسلاحها الاستراتيجى فى مواجهة الأعداء وأهم ما تقوم به هذه الحاضنات توفير الحماية لها من العقول المحدودة وإعطاء الفرصة للعقول الفريدة فى حرية كاملة لتصميم رؤيتها ومناقشة هذا التصميم بأريحية كاملة دون عوائق حتى الوصول لمرحلة التطبيق. هذه الحرية غير مرتبطة بطبيعة النظام السياسى المطبق داخل الدولة أو أن يشترط وجود الشكل الغربى فى الحكم حتى تحصل هذه العقول على حريتها وتمارس دورها الاستشرافى، فرغم الاختلاف الجذرى بين أشكال الحكم وطبيعة النظام السياسى فى كل من الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، إلا أن الأمم الثلاث تمتلك هذه الحاضنات بأساليب مختلفة وقبلها آليات الفرز للوصول لهذه العقول الفريدة، وبالتأكيد هذه الحاضنات هى عمل جاد ومصيرى للأمة وليس مجرد لافتات معلقة على بعض الأماكن من أجل إضفاء ديكور الحداثة والعمق على النظام السياسى. ننظر إلى رجل يمتلك هذا العقل فى عملية التصميم والتصنيع الاستراتيجى السياسى مثل الأمريكى ذو الأصول البولندية زبيغنيو بريجينسكي ففى نهاية الأربعينيات تكن أطروحته الأساسية فهم عوامل انهيار الاتحاد السوفيتى وكيفية العمل عليها حتى تحقيقها. لقد صمم بريجينسكى رؤيته فى نهاية الأربعينيات وقت صعود الإمبراطورية السوفيتية وتحقيقها انتصارات عسكرية وسياسية والأخطر أيديولوجية لو كان طرح بريجينسكى رؤيته على أمة غير متقبلة لاستشراف هذه العقول لكان اتهم بالخبل، لكن فى الخمسينات ينضم وقتها الشاب بريجينسكى وزميله الشاب وقتها أيضًا هنرى كيسنجر فى زمن  إدارة الرئيس الأمريكى دوايت أيزنهاور إلى مجموعة من النخبة الأمريكية ليضعوا وثيقة رؤية أمريكا للعالم وهى الوثيقة الأم للاستراتيجية  الأمريكية فى تعاملها مع محيطها الدولى، تعتبر هذه الوثيقة الرؤية سرية وغير معروف تفاصيلها حتى الآن ولكن دائمًا ما تعمل النخب الأمريكية على تجديد محتواها بما يتناسب مع المستقبليات. عمل بريجنسكى على رؤيته طويلًا بعد تصميمها وتصنيعها حتى حانت لحظة الانتصار على العدو حين أعلن ميخائيل جورباتشوف نهاية الإمبراطورية السوفيتية لتتحول الولايات المتحدة وقتها إلى قطب أوحد يهيمن على العالم . بدأت روسيا تستعيد عافيتها عقب السقوط المدوى بوصول القيصر فلاديمير بوتين إلى الحكم والقادم من عالم الاستخبارات، استطاعت الحاضنات الروسية العودة إلى العمل سريعًا لتعطى للقيصر أحدث منتجاتها، فلاديسلاف سوركوف المشهور بالكاردينال الرمادى فى أوساط النخب الروسية، وثانى أقوى رجل فى روسيا، وغير المعروف دوليًا. استطاع الكاردينال الرمادى تصميم وتصنيع رؤية نتج عنها تأسيس البوتينية وإعادة روسيا من خلف العالم إلى الأمام وكانت آخر أعماله الموقعة باسمه السيطرة على القرم، فهو من خطط لها ونفذها. أما الذهاب شرقًا إلى الصين لمعرفة كيف تعمل هذه الحاضنات وما قدمت وصنعت حتى تصل الصين إلى ما هى فيه من تقدم فهو أمر يحتاج لأسبوع آخر.