الأربعاء 25 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الأمبراطورية عندما تقتل

توقفنا فى الجزء الأول من هذا المقال عند عدد من الأسئلة المعلقة... متى قررت الإمبراطورية القتـــل؟ ومن أوصل الصين إلى الميناء الإيرانى؟ وأخيرًا كيف تحولت العوامل المساعدة التى توثق العلاقة بين الإمبراطورية والحليف البلطجى إلى عوامل ضد علاقتهما؟ حتى وصلت فى النهاية إلى صدور أمر قتل قاسم سليمانى قائد الجناح العسكرى فى التنظيم الإيرانى.



قبل الإجابة على هذه الأسئلة يجب الرجوع إلى طهران فى يوم 8 يناير 2017 ففى هذا اليوم أعلن النظام فى إيران وفاة هاشمى رفسنجانى ثعلب السياسىة الإيرانية وسيد البازار وملك تجارة الفستق والبترول، سبب الوفاة المعلن كان معتادًا.. أزمة قلبية مفاجئة أودت بحياة سيد البازار يبدو الأمر منطقيًا لشيخ وصل عمره الثمانين عامًا. خرج مرشد الثورة على خامنئى ليصلى على الراحل وينعيه لكن كلمات المرشد حملت كثيرًا من التأويلات ولم تكن حاسمة فى تعظيم شأن رفسنجانى وهنا بدأت الأوساط السياسية والشعبية فى طهران المحكومة بالحديد والنار تميل إلى تصديق ما يتم من تداوله حول هذه الوفاة المفاجئة. قالت المعلومات المتداولة وقتها إن هاشمى رفسنجانى لم يمت نتيجة أزمة قلبية مفاجئة بل هو قتل، رغم جدران الصمت الحديدية المحيطة بدوائر صنع القرار فى حكم الملالى إلا أن تفاصيل عملية القتل تسرب منها الكثير فقد تم استدعاء رفسنجانى لاجتماع مهم مع قادة الحرس الثورى الإيرانى وعلى رأسهم قائد فيلق القدس قاسم سليمانى وتم عقد الاجتماع فى قصر قديم كانت تمتلكه الشهبانو فرح بهلوى زوجة شاه إيران الراحل واستولت عليه مخابرات الحرس الثورى عقب الثورة. ذهب رفسنجانى بمفرده دون فريقه المساعد وحرسه فقادة الحرس طلبوا من رفسجانى المجيء بمفرده لسرية وأهمية الاجتماع وأيضًا لأن المرشد الأعلى للثورة على خامنئى طلب بأن يكون الاجتماع فى أضيق الحدود وتعرض نتائجه عليه مباشرة عقب الانتهاء منه لم يكن اجتماعًا عاديًا فهو كان أقرب لمحاكمة رفسنجانى وسياسته واتصالاته مع القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وكان قرار قادة الحرس أو حكمهم النهائى واضحًا بأن يتوقف رفسنجانى على الفور من إجراء أى اتصالات مع الأمريكان سياسية أو اقتصادية وأوضح له القادة بأن هذا هو أيضًا رأى مرشد الثورة على خامنئى. اندهش رفسنجانى من أن هؤلاء هم من يحاكموه فهو من صنع إمبراطورية الحرس الاقتصادية وقت توليه رئاسة الجمهورية منذ العام 89 حتى تركه لها بعد ولايتين فى العام 1997. صاغت السياسة البرجماتية وقتها لرفسنجانى توجهات إيران وأراد إنهاء مرحلة الثورة والانتقال لمرحلة الدولة وإعادة علاقات إيران لطبيعتها مع القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة بمعنى آخر يعيد إيران إلى دور شرطى المنطقة ويخرجها من قبح الحليف البلطجى رغم أن الدورين يحققان مصالح الإمبراطورية الأمريكية. كان هناك أمر آخر يحرك التاجر رفسنجانى القادم من البازار فهو يريد إعادة دمج النظام الاقتصادى الإيرانى فى النظام الرأسمالى العالمى من جديد، رأى رفسنجانى أن هناك عقبتين مرشد الثورة نفسه الذى ما زال لم يحدد طريقه بعد عقب وفاة الخمينى فى 1989وهؤلاء المتحمسون لشعارات الثورة البراقة فى كلماتها والفارغة فى مضمونها والذين قدموا من الريف الإيرانى الفقير وأصبح لهم حيثية بعد انضمامهم للحرس الثورى أو الجناح العسكرى للثورة والبديل عن الجيش. . اعتقد رفسنجانى وقتها أن المرشد الجديد خامنئى سيكون فى صفه وسيسيطر عليه بدهائه السياسى أما بالنسبة لمجانين الحرس فما سيشفيهم من الجنون هو المال فأطلق يد الحرس الثورى فى إنشاء شركات والقيام بعمليات تجارة تدر أرباحها فى جيوب قادة الحرس والمرشد الأعلى للثورة وساعدته خبرته التجارية والاقتصادية فى تعليم هؤلاء القادمين من الريف الفقير إدارة الصفقات والشركات وظن تاجر البازار أن المرشد والحرس أصبحوا ملك يديه.. لم يدرك رفسنجانى وقتها أن الذئاب ذاقت اللحم ومليارات الدولارات وأصبحت شرهة لا تريد من يسيطر عليها والأهم أن المرشد الذى ظن رفسنجانى أنه سيكون ملك يمينه أصبح هو وعائلته فى يد الحرس الثورى خاصة ابنه الثانى مجتبى خامنئنى شريك قادة الحرس فى كل الصفقات لتتجاوز ثروة المرشد وابنه الـ 95 مليار دولار.. أعطى ذئاب الحرس القيادة للرجل القادم من أدغال ريف إيران والأكثر شراسة قاسم سليمانى تولى إدارة كل ما يتعلق بشئون التنظيم سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا. شعر وقتها رفسنجانى بالهزيمة ولكنه لم يستسلم وأصر على تنفيذ سياسته البرجماتية والتمسك بالعلاقات الدائمة بواشنطن ولم يكن وحده بل وراؤه مجتمع البازار والتيارات الإصلاحية التى تريد الخروج من عباءة الثورة البالية. حاول أن يعود من جديد إلى منصب الرئاسة لكن تم إسقاطه ليصل أحمدى نجاد التابع للحرس إلى المنصب ثم تم منع رفسنجانى نهائيًا من الترشح فى العام 2013 بقرار من مجلس صيانة الدستور المسيطر عليه من المرشد والحرس. التف رفسنجانى والتيار الذى يسانده على قرار وجوده شخصيًا فى منظومة الحكم ودفع بحسن روحانى رئيسًا لتصل ذروة تنفيذ سياسته بعقد الاتفاق النووى بين إيران والدول الخمس الكبرى بالإضافة إلى ألمانيا فى تلك اللحظة أدرك الحرس أن الإمبراطورية المالية التى تدر عليهم المليارات مهددة وأنها ستصبح تحت أعين الولايات المتحدة بعد الانفتاح الحادث بين إيران والغرب. أصبح الصراع علنيًا وفى كل يوم يدرك الحرس وقادته أن خطة رفسنجانى تسير كما خطط لها وستعود إيران إلى دور الشرطى وأحضان الرأسمالية العالمية خاصة مع ظهور لاعب دهى يمتلك وسائل الاتصال مع الغرب أو وزير الخارجية الجديد جواد ظريف.. جاء العام 2016 ليعطى الأمل للحرس للتخلص من حصار خطة رفسنجانى عندما زار الرئيس الصينى شى جين بينج طهران فتم الاتفاق على خطط اقتصادية تتجاوز الهدف المباشر من التنمية الاقتصادية إلى الشراكة الاستراتيجية فالاتفاق ينص على رفع التجارة البينية بين بكين وطهران إلى 600 مليار دولار خلال 10 سنوات وخطط تعاون واتفاقيات تمتد لربع قرن وهنا ألقى الحرس وعائلة المرشد كل الرهان على الإمبراطورية الصينية الصاعدة وبدأ الحرس فى نقل ملياراته الى شركات صينية تدير هذه الثروة الطائلة مقابل الخدمات التى سيقدمها الحرس ومخابراته للإمبراطورية الشرقية التى تبحث عن وكيل يحمى مصالحها ويتيح لها تحقيق أهدافها فى الصعود. أول الخدمات التى قدمها الحرس هى تقويض وجود الحزب الإسلامى التركستانى الممثل لأقلية الإيجور فى الأراضى السورية الذى يهدد بانفصال إقليم شينجيانج البوابة البرية لمبادرة الحزام والطريق ووصلت أيضًا العمليات الإرهابية للحزب إلى قلب الصين فى العاصمة بكين وهذا الحزب يلقى مساعدة من وكلاء أمريكا فالتدريب يتم على أيدى جبهة النصرة أو هيئة تحرير الشام الإرهابية المدعومة من قطر وعمليات تسهيل دخول الأراضى السورية والدعاية للحركة الانفصالية تتولاها تركيا أما زعيمة الانفصاليين ربيعة قدير فهى تقيم فى واشنطن ولا يمنع هنا أن تضع الولايات المتحدة الحزب على قوائم الإرهاب لتغسل يدها من أفعاله.. انطلق الحرس الثورى وبدأ فى تكوين حائط ميليشيات مضادة عن طريق تجنيد الآلاف من الشيعة المنتمين لطائفة الهزارة الأفغانية تحت مسمى لواء فاطميون ومن باكستان أيضًا شكل لواء زينبيون ولا يهدف الحرس الثورى هنا فقط إلى الاشتباك المباشر مع الحزب الانفصالى بل له أهداف أبعد. فهذه الميليشيات المقدر عددها بالآلاف تنتمى إلى بلاد تحيط حدودها بهذا الإقليم وكأن الحرس الثورى يصنع قوة تستطيع ضرب الإنفصالين فى أماكن تواجدهم أو تشكيل قوة من الحماية قائمة على عداء مذهبى تجاه الانفصاليين وتحمى المصالح الصينية فى المنطقة وعلى رأسها الطريق الاقتصادى الرابط بين الصين وباكستان وبوابته شينجيانج والواصل إلى ميناء جوادر الباكستانى على بحر العرب. بدت الحركة الإيرانية بعد هذا الاتفاق كأنها عربة يقودها جوادان كل منهما يسير فى اتجاه مختلف فكل جواد يراهن على طريق وكان على الطرفين أن يحسما أمرهما وبدأ الحسم من قبل الجنرال سليمانى بالقبض على ابن رفسنجانى وسجنه حتى وصلنا إلى ليلة المسبح فى قصر الشهبانو فرح بهلوى وقتل رفسنجانى ثم التحرر الكامل بإلغاء الاتفاق النووى مع الولايات المتحدة فى مايو 2018.. رأت الولايات المتحدة أن القرار فى إيران أصبح بالكامل فى يد المراهنين على الصين وأن الحرس الثورى وجنراله سليمانى فى كل يوم يقدمون خدماتهم للإمبراطورية الصاعدة حتى أوصلوها لشاطئ المتوسط فى لبنان عن طريق سيطرتهم على حزب الله. كانت العقوبات التى تصدرها الولايات المتحدة ضد إيران هى رسائل تحذيرية تصاعدية إلى سليمانى وحرسه وميليشياته وقبل أيام من اغتيال سليمانى وصلت العقوبات الى الابن المدلل لمرشد الثورة مجتبى خامنئي والشركات الصينية التى تدير أموال الحرس وقبلها الحرس نفسه باعتباره تنظيمًا إرهابيًا وهو ما رفضته الصين وقتها بشدة.   كان رد سليمانى مطاردة وتقويض المصالح الأمريكية فى المنطقة حتى يصل الأمر إلى إخراجها تمامًا منها لصالح الإمبراطورية الصاعدة وكانت ذروة المشهد فى 27 ديسمبر بوصول السفن الصينية إلى ميناء جابهار الإيرانى.. هنا أصدرت الإمبراطورية الأمريكية أمر القتل المؤجل لسلمانى الذى أدخل إيران وحرسه فى اللعبة الإمبراطورية المميتة. يبقى السؤال الأهم بعد اغتيال قاسم سليمانى هل ستعود روح رفسنجانى ومشروعه للظهور من جديد أم سيصر المرشد وعائلته وحرسه على رهانهم؟ فى الحالة الأولى سيتم احتواء إيران تدريجيًا أما فى الحالة الثانية فستستخدم الإمبراطورية الأمريكية المهيمنة قوتها الكاملة وتبدأ الحرب.