الأحد 6 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

دموع على رصيف الغربة

بشعره الأجعد الأشعث وملابسه التى علقت بها رائحة مدفأة الحطب وشحار فانوس الزيت المعلق فوق الباب الخشبى العتيق، وبتوقه الطفولى إلى الفرجة وأحلام العيش فى المدينة، صعد الصبى إلى الحافلة القديمة التى ستأخذه إلى العالم المشتهى فى جغرافيا مجهولة المعالم، لكنها بعيدة، بعيدة جدًا عن القرية المسكونة بالفقر والبرد وأحلام الرحيل.



كانت تلك لحظة الوداع، وكانت سريعة كرمشة، لم يلتفت الصبى إلى الخلف، ولم يلق نظرة أخيرة على الساحة الصغيرة التى كانت ملعبه اليومى، ولم يودع الجامع الذى قضى أيامًا كثيرة وهو يحاول تسلق مأذنته العالية، التى كانت تبدو مستحيلة البلوغ، مثل حلم الرحيل. تحقق الحلم، وبدأ الصبى رحلته إلى المدينة التى ستبدو بعد ساعة أو أقل وكأنها مركز العالم، أو العالم كله.. شوارع مكتظة بالبشر، وضجيج تختلط فيه أصوات الباعة والمتسوقين والمارة، ويبدو كسيمفونية لهجات قروية ومدنية يتسيدها اللسان النابلسى. لكن نابلس ليست نهاية الرحلة، بل محطة أولى فى الطريق إلى الخليج حيث وظيفة الأب والمستقر الجديد البعيد عن عتمة ليل القرية المحرومة من الكهرباء. فى موقف حافلات نابلس يصعد الصبى إلى حافلة أخرى قديمة، تبدو من بعيد كصندوق العجائب وتضج بالألوان التى تزين هيكلها الخشبى، وتنطلق الحافلة إلى محطتها الأولى فى عمان التى يراها الصبى فجرًا فتبهره بأضوائها التى تتلألأ وتختلط مع خيوط شعاع الشمس التى تبرغ بكسل صباحى يبدو جليًا فى هدوء المدينة التى يختم أهلها ساعات نومهم الليلى. فى عمان يمضغ الصبى أول لقمة من خبز المدينة، مغمسة بالزعتر البلدى وزيت الزيتون، وعندما ينهى الأب والأم والمسافرون الآخرون إفطارهم تنطلق الحافلة إلى بغداد المحطة الثانية فى رحلة الصبى إلى المجهول. فى الليل يدخل الصبى إلى عاصمة الرشيد ويرى ناسها، إنهم مثلنا تمامًا بلون بشرتهم وكوفياتهم المرقطة، لكن كلامهم ليس مثل كلامنا، وشوارع وجوامع مدينتهم أكبر كثيرًا من شوارعنا وجوامعنا. فى ليل بغداد يذوق الصبى ثريد العراق، ويحبه كثيرًا، ولا يعرف إن كان الثريد لذيذًا أم أنه جائع حد القبول بما تيسر من طعام. يقضى الصبى ليلته نائمًا على كرسى الحافلة ويفتح عينيه على نهار البصرة ويرى انعكاس الشمس على الماء الراكد فى شط العرب. توقف قصير لإفطار سريع، وتنطلق الحافلة إلى الكويت، التى يصلها بعد ساعات قليلة. هنا ستستقر العائلة حتى يموت الأب، ومن هنا سينطلق الصبى إلى حياته، ومن هنا سيبدأ الفتى باكتشاف الدنيا، والسفر إلى عوالم بعيدة. فى المستقر الخليجى يعرف الفتى قسوة الحر وروعة البحر، وينتظم فى مدارس كبيرة تمنحه آخرها شهادة السفر إلى أوروبا حيث الجامعة وحياة التمرد والانخراط فى النشاط الثورى، وفى بلاد الضباب يبلور الفتى يساريته وينضوى فى الأطر الاشتراكية الشرعية، فيلمع كطليعى قادم من بؤرة الصراع الأشد على وجه الأرض. يكبر الفتى ويهجر مأواه الإنجليزى، ليعود إلى البلاد مسلحًا بشهادة متوسطة ويسارية متجذرة فى الروح ونضج يهذب الغرائز ولغة أخرى تميز من ينطق بها فى البلاد، لكنه يتجرد من تأهيله الأكاديمى فى علم الإدارة ويقتحم الصحافة منحازًا إلى المعرفة ويستبدل شعار تحرير الأرض بمهارة تحرير الخبر، وتنقل بين الجرائد التى يدخلها مدفوعًا بحب التجربة ويغادرها مستقيلا أو مقالا عندما لا يستطيع احتمال الروتين. يتقدم العمر، ويتأخر الصحفى الذى يذهب إلى الكتابة بديلا للتحرير الصحفى، ويحترف كتابة المقالة التى يخبئ فيها شحنات غضبه وانكساراته وبوحه الموجع، ويجتر فيها لحظات خارقة فى الفتوة والشباب لا ينساها ولا تغادر ذاكرته فى الكبر والوقوف على عتبة الشيخوخة. يحمل لحظاته الخارقة فى عقله وفى قلبه، وفى أوراقه القديمه، وفى جيوب معطفه، وفى دموعه التى تسقط على أرصفة الغربة فى البلاد القريبة والبعيدة. وتظل لحظة الخروج من البلد حية فى الذهن وفى الروح، وهى التى توجعه حد البكاء فى عزلته، لأن البلد صارت بعيدة، بل هى تواصل الابتعاد فى كل يوم وفى كل اتفاق سياسى، وتبعد أكثر حتى تكاد تغيب تمامًا فى زمن السلام. سلام على البلد، وسلام على من ظل فيها يصد المخرز بكفه العارى، وسلام على الراحلين إلى المجهول والماكثين وراء البحار وهم يعيشون على حلم العودة.. إلى البلد.