عروس الشمال مدينة السحر والخيال

د. عزة بدر
دمياط الشاعرة.. هكذا يسميها أبناؤها من الأدباء، كما سماها طاهر أبوفاشا أحد شعرائها الرواد. وهى عروس الشمال كما نعرفها، تزدان بفنون الثقافة كلها، فهى مدينة مثقفة، عمائرها وآثارها القديمة تحمل عبق التاريخ، عالمها عالم البحر الواسع المفتوح على مختلف الثقافات، فهى ابنة البحر التى عاشت دائمًا فى قلب الأحداث وفى مصيفها رأس البر التقى النهر والبحر اللقاء التاريخى بين السكون والثورة، لكنهما لا يبغيان. هذا التوسط والاعتدال هو سمة أهل المكان، وهنا تتجلى عبقرية الإنسان والمكان، فأبناؤها يبدعون فنونهم فى كل مجال، وإن أعمالهم المبدعة لتعد أنشودة فى محبة الحياة.
فى دمياط ألف دربٍ للجمال، فإذا بدأت جولتك فى نواحيها فاتئد كى لا يفوتك بريق النهر، تأتلق عيناه عند المصب، يسير وئيدًا وإذا سرت على كورنيش النيل فمتع ناظريك بالمدينة التى تنام على ذراع البحر، فهى بموقعها الفريد على النيل والبحر المتوسط سحرت الشعراء من أبنائها فوصفها الشاعر على الغاياتى «1885 - 1956» بقوله: «لازال هذا الثغر يمضى للعُلا بذكاء موهوب وحذق حكيم»
أما طاهر أبو فاشا «1908 - 1989»، فقد وصفها بعروس الزمان، وأصدر كتابا عنها بعنوان «دمياط الشاعرة»، ويصفها فيقول: «يا عروس الزمان يا واحة الأشواق/ يا سلوة الغريب الشاكى/ كلما هاجنى الحنين إلى لقياك/ أغمضت مقلتى لأراكِ» من أين تبدأ رحلة الجمال والسحر فى دمياط.. من أسواقها الشهيرة، أم من أمكنتها ومقاهيها المطلة على البحر، أم من مغانيها ونواديها، أم من قصر ثقافتها، ومسرحها القومى.. أم من آثارها القديمة التى تحمل عبق التاريخ فيها؟ فى قلب الأحداث فى كل درب تمشى ستمتد أمامك المدينة وتفتح ذراعيها لتحتضنك، ستقول لك: أنا «تامحيت»، أنا «تم آتى» باللغة المصرية القديمة، ومعنى اسمها الفرعونى أنها بلد الشمال أو بلد المياه. وسمًّاها الإغريق «تامياتس»، وهى دمياط، ندللها نحن بناؤها فنسميها عروس الشمال. عاشت دائمًا فى قلب الأحداث، فهى بموقعها المميز على النيل والبحر المتوسط كانت ولا تزال ثغرًا بالغ الأهمية لتجارة مصر مع بلاد شرقى البحر المتوسط خاصة، وحوض البحر المتوسط عامة، ويقول د.راضى محمد جودة الذى حصل على الدكتوراه فى تاريخ دمياط عن رسالة بعنوان: «دمياط فى التاريخ الحديث «1810م - 1906». أنها كانت أهم مدينة تجارية وصناعية فى مصر بعد العاصمة «القاهرة» فى نهاية العصر العثمانى حتى بداية عشرينيات القرن التاسع عشر، وكانت دمياط أحد مصادر الثروة فى مصر، فقد حفلت بأنواع مختلفة من النشاط الاقتصادى والتجارى والصناعى والحرفى والزراعى، بل اتخذها الشوام مكانًا للاستقرار والنجاح التجارى طوال العصر العثمانى وكانت الحبوب والغلات الزراعية وخاصة الأرز من أبرز صادراتها فقد كانت مركزًا ترد إليه الحبوب من سائر نواحى الدلتا والصعيد، فقد أتاح النيل كمجرى ملاحى دائم لدمياط وسيلة سهلت اتصالها بجميع المدن والقرى الواقعة على ضفتى النهر فى مصر حتى أسوان جنوبا. ينابيع الإبداع وعلى مقربة منها فى رأس البر، يلتقى النهر والبحر عند اللسان فى معجزة تفجر ينابيع الإبداع فالنهر والبحر يلتقيان، هذا عذب وذاك ملح أجاج ثم يفترقان. لقد سحرت معجزة لقاء النهر بالبحر الشعراء فوصفه أحد شعراء دمياط وصفًا عجيبًا، وهو الشاعر محمد حمدى النشار من مواليد 1873 فقال: «وما أحسن البحرين عذبا ومالحا قد انتظم بالماء منها النواحيا إذ التقيا وجها لوجه تصافحا وعادا إلى عهد التفرق ثانيا كأن الليالى سطرت لكليهما على صفحات الماء أن لا تلاقيا». من معالم دمياط فإذا سرت فى سوق «التجارى» مررت بأشهر محال الحلوى والملابس والمصاغ وتمتعت عيناك بألوان المعروضات المبهجة، فإذا وصلت للسوق المسقوفة فاعلم أنك بالقرب من جامع البحر أشهر وأكبر مساجد دمياط، ذلك المسجد الذى يقع على ضفة النيل الشرقية والذى تم تجديده فى عهد الحكم العثمانى، وخطب فيه الشيخ محمد عبده، وطلب منه أهالى دمياط أن يلقى عليهم دروسًا فى التفسير فهم طلاب علم، وليس أدل على ذلك من أن مسجد «المعينى» قد شيًّده التاجر الدمياطى محمد معين الدين عام 710هـ/ 1310م فى زمن الناصر قلاوون، بل إن أبناءها هم أول من شيًّدوا المدارس الأهلية فأول مدرسة افتتحت كانت عام 1867، وفى سنة 1871 م افتتحت مدرسة أولية أخرى مماثلة، وأنشأ على الحِزًّاوى مدرسة «الفتوح الربانى» عام 1873م وهى من أقدم المدارس الأهلية فى دمياط. وكما يقول د.راضى محمد جودة: «إن هذه المدرسة تولاها محمد الحِزًّاوى وأصبحت أولى مدارس دمياط الأهلية، وظلت حتى بعد قيام ثورة يوليو 1952، وتلقى بها عدد كبير من أبنائها تعليمهم الأولى من بينهم الشاعران على الغاياتى،ومحمد مصطفى الماحى». البعد الثقافى بل إن بعض أهالى دمياط قاموا بتأليف جمعية «المعارف» بالقاهرة، وكان من ضمن أهدافها طبع الكتب العربية واقتنائها وبلغ عدد أعضائها سبعمائة عضو من بينهم تسعة من دمياط ومنهم محافظ دمياط - حينذاك- محمد صادق باشا وكان وكيل الجمعية، والشيخ على العلايلى من علماء دمياط، والسيد نعمان البكرى،والسيد أحمد مشرفة، والشيخ محب الدين البهائى،والسيد حسن المرقبى،ومصطفى صبرى وغيرهم وقد أفادت هذه الجمعية فى تثقيف المواطنين مما يدل على أن البعد الثقافى كان حاضرا طوال الوقت فى هذه المدينة المثقفة التى وصفت بالشاعرة. مدينة المعارف والعلوم هنا فى دمياط أقدم مدارس البنات، مدرسة اللوزى الابتدائية التى تأسست عام 1926، ثم ألحقت بها فصول ثانوية، وقد التحقتُ بها فى المرحلة الثانوية لكن اسمها كان قد تغير إلى «مدرسة الثانوية بنات»، ومنذ أول القرن الماضى تأسست مدارس عدة اهتمت بالشأن التعليمى مثل مدرسة أحمد الكتبى 1900، ومدرسة «شمس الفتوح الأولية» التى أنشأها على العزبى 1906، ومدرسة الراهبات، والمدرسة القبطية للبنات، وتولت إدارتها تفيدة موسى،وقد ألحقت مدارس بالمساجد أيضا فهناك المدرسة المدبولية وتتبع جامع «المتبولى» لكنها اندثرت وأقيم مكانها مسجد حديث. وكانت المدرسة المدبولية قد أنشأها السلطان قايتباى،والمدرسة المعينية وتتبع مسجد المعينى،وكان لها أوقاف عديدة. وهناك المدرسة العوليانية وتتبع مسجد البحر والمدرسة الناصرية التى تأسست عام 1840، والمدرسة الشبطانية وتتبع جامع العارف وجميع هذه المدارس ألحقت بالجامع الأزهر. (راضى محمد جودة: دمياط فى التاريخ الحديث 1810 - 1906، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2016). فإذا أسرتك المدينة بثقافتها فلا تنس قراها ومنها : شط الخياطة، وشط الشعرا، وشط الشيخ درغام، وشط جريبة، وشط عزبة البرج، وشط عزبة اللحم، وشط غيط النصارى،وشط مُحب والسيالة، والعادلية، والبصارطة، وأولاد حمام، والنجارين، والخليفة، والسالمية، والضهرة، وميت الشيوخ، والحورانى،والعبيدية، والبستان، وكفر طبيخة، والطرحة، والعطوى،والغوابين، وعزب القش، وأكبر مراكزها قاطبة فارسكور. وتذكر قول شاعرها على الغاياتى «1885 - 1956» وهو يقول: «دمياط راحة ونعيم/ وسنى يلذ لزائر ومقيم دمياط وحى عوارف ومعارف/ لأولى النُهى من نابه وعليم دمياط نجوى ناسك متبتل/ يحيا بقلب طاهر وسليم». عطر التاريخ وإذا أغرمت مثلى بأحيائها، وتريد أن تعرف وترى التفاصيل فاعلم أن لأحيائها عمقا تاريخيا وأن أهلها يعشقونها، ويحفظون خارطة أحيائها عن ظهر قلب، وهذه الأحياء فى معظمها تحمل عبق التاريخ فقد تأسست منذ عام 1887 ولا تزال بمعالمها وسماتها مزدهرة حتى الآن، ومن أشهر أحيائها: «الشرباصى،والشبطانى،والقنطرة، والبِركة، والنصارى،والمحاريق، والحطاب، والمرقب، والشهابية، والحدادين، والكتاتنية، والعيد، والمنشية، والفنار. فى حضرة النيل فإذا عدت إلى كورنيش النيل بعد جولتك فى أحيائها الشهيرة، واجتذبتك عربات الترمس، تزينها صحبة ورد، وفصوص الليمون، وتُقت إلى لمسة من عصير الليمون، ورغبت فى التلذذ بقليل من الشطة فتوقف، واصطبر حتى يُعد لك البائع نصيبك منها، ثم عَرِّج على بائع غزل البنات، ولا تنس قطوفك منه، وهو يزغرد بزمارته لافتا انتباهك إلى ألوان غزل بناته المتدرج من الأبيض الناصع كالقطن المُسكًّر، إلى الفوشيا البهيج، فإذا ذاب فى فمك، وتذوقت ذوبه فتمهل فى حضرة النيل.. وتذكر أجمل ما كتبه فيه شاعر دمياط فهيم القللى «1896 - 1959» حين قال: «حى لنا النيل فى دمياط موطننا رفت أصائله رقت غواديه كالنون رسما وكالأجفان منظره والروض كالهدب ملتفا حواليه هلاًّ وقفت به والشمس جانحة نحو الأصيل فما أبهى حواشيه». وقد جمع الشاعر طاهر أبوفاشا كل هذه الأشعار فى محبة دمياط فى كتابه «دمياط الشاعرة» حكايا الموالد فإذا نظرت إلى الجانب الآخر على الشاطئ المقابل فلا تأس لأنك لم تجد مقام سيدى على الصياد الذى كنا نوقد له فى النهار شمعة وفى الليل شمعة ونوفى النذور إليه عندما ننجح فلقد زال بفعل أعمال توسعة الشارع المجاور لكن بقيت ذكراه فى القلوب، حيث كان يحتفل الكثيرون من الأهالى بمولد الشيخ على الصياد، ومولد أبى المعاطى، والشيخ سديد بالسنانية، والشيخ شطا، والشيخة خديجة. وقد شكلت حكايا الموالد خيال الأدباء والشعراء فذكر طاهر أبو فاشا مقام أبى المعاطى، ومقام الشيخ على الصياد فى قصيدة من قصائده كجزء من التراث الشعبى وحكايات المكان. يصمد الخيال دائما للحقيقة، ويستطيع أن يتشكل من جديد، وتظل فى عبيره رائحة الذكرى. تواريخ وأمكنة تَذَّكر تاريخ الأمكنة، وبطولات أبنائها. لا تنس حسن طوبار الذى حرك الثورة فى «المنزلة» ضد الحملة الفرنسية، وحاول الحاكم الفرنسى أن يستميله بكل الوسائل فلم يستطع فقامت ثورة دمياط ضد الحملة الفرنسية فى أوائل سبتمبر 1798 واشترك فيها حسن طوبار ورجاله لكن الحاكم الفرنسى «فيال» استطاع إخماد تلك الثورة بعد أن أرسل نابليون بونابرت حملتين للقضاء عليها، حملة برية وأخرى بحرية لإعادة ضباط الحملة من غزة، وأخذوا ابنه رهينة فى القاهرة حتى يضمنوا إخماد ثورته.. .. هنا فى دمياط تكون فى حضرة التاريخ وفى حضرة الجمال بسحر هذه المدينة العروس، والتى ندللها دائما فنسميها «عروس الشمال». والدمايطة كانوا يحيون كل أفعال المقاومة كما يقول الأديب والفنان طاهر السقا: « ففى عيد شم النسيم وإلى وقت قريب كانوا يحرقون «الألمبي» رمز للقضاء على كل محتل وغازي، وكان يصنعه الأهالى من بقايا الملابس القديمة ويحشونه بالقش، بل وارتبط الفن والأدب بفكرة المقاومة . ففى مرحلة حرب الاستنزاف قمنا بعمل معرض ضخم بعنوان «الفن والمعركة، بل وكان المسرح وسيلة لإذكاء الحماس وشحذ الهمم، وأذكر أننا فى عرضنا مسرحية ليسرى الجندى بعنوان : «الشمس وصحراء الجليد»، وعرضناها فى مسرح برأس البر، وطوال فترة الستينيات كانت هناك «الجامعة الشعبية» وفيها مارسنا الفن التشكيلي، والموسيقى والنقد الأدبي، وعرضنا لوحات كبيرة الحجم وعلقناها على كورنيش النيل، وكنا نرسمها بمعهد المعلمين»