الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

قدور الفخار تتغنى بأعذب الألحان!

هل ولٌى زمن الآنية الخزفية؟..هل تمت القطيعة بينها وبين عصور الإرث الثقافى التى ارتبطت بهذا الفن، فانتهت إلى أن يكون مكانها هو المتاحف الأثرية بعيدًا عن قاعات المعارض المعاصرة، وحلت محلها أعمال النحت الفخارى واللوحات الخزفية كالنحت البارز.. باسم الحداثة؟!



هذا ما يبدو كظاهرة باتت تهيمن  على حركة الفنون التشكيلية فى مصر والعالم، مع تحولات الفن عند مفصل القرنين، التى شهدت - ضمن ما شهدت - تداخلا بين فروع الفن المختلفة، من نحت وتصوير وحفر وتركيبات إنشائية فى الفراغ (إنستلليشن)، وأعمال جرافيكية بوسائط الميديا الرقمية، فاجتاحت الحرم الخاص لكل فن، خاصة اللوحة والتمثال  والآنية، ذلك الحرم الذى حافظت عليه مسيرة الفن منذ عصور الحضارات القديمة حتى أواخر القرن العشرين.

وأصبحت النظرة «المغتربة» إلى من يواصلون الإبداع بتلك الأنماط المتوارثة هى أنهم تقليديون غير مبدعين، يستنسخون التراث، ويعطون ظهورهم للحداثة، التى تعد - من جانب تلك النظرة - معيارًا للإبداع والتعايش مع العصر الحديث، وهى نظرة دونية لا تميز بين الحداثة كمفهوم مطلق يرتبط بالعولمة، وبين الحداثة كتطور ذاتى ينبع من جذور حضارية للشعوب ترقى للعالمية وليس العولمة.

وللتدليل على ذلك، لدينا معرضان أقيما مؤخرًا بالقاهرة خلال شهر نوفمبر لفنانين كبيرين راسخين فى فن الآنية ؛ الأول للفنانة الدكتورة سلوى رشدى، أقيم بمركز الجزيرة للفنون ، والثانى للفنان محمد مندور أقيم بقاعة بيكاسو بالزمالك، ورغم الفارق العمرى والأسلوبى بينهما، فإن كلا منهما يعد علامة على هذا الفن الموصول بالتراث.

•مفاجآت اللون والملمس

إنهما من بين قلة معدودة جعلت رسالتها الحفاظ على فن الآنية كمجال للبحث والإبداع والتطور الذاتى، سواء فى السيطرة على الخامة من طين وأكاسيد وأملاح ودخان ونيران، ثم على تقنيات الحريق وما تؤدى إليه من اكتشافات ومفاجآت لونية وملمسية عبر تجارب مستمرة، استدعت تحطيم الكثير من المحاولات التقنية حتى الوصول إلى النتائج الأخيرة، وقد ترى فيها النظرة السطحية العابرة أنها أعمال تقليدية، فيها من مظاهر التراث القديم أضعاف ما فيها من رؤى الحداثة العصرية، لكن النظرة العميقة والمدركة للقيم الجمالية العالية للفورم والتقنية، والحسٌاسة لرؤى الشكل الجمالى النقى، ترى فيها أبعادًا حداثية مبتكرة فى الكتلة أو فى ملامس السطح المتآكلة أو فى الألوان الغريبة المدهشة التى تتماهى مع طين الأرض وألوان الصخور وتفحمات البراكين وتمويهات الدخان ومفارقات الأبيض الناصع والأسود الغطيس على السطح الأملس، فوق ما تستدعيه ذاكرتك -وأنت تشاهدها- من نماذج فنية من تراث الحضارات المتعاقبة بين الفرعونية والرومانية والإسلامية. وهى فى مجملها تأخذك نحو رؤى مفاهيمية تتجاوز رؤى الشكل المعتادة، وتطلق خيالك نحو معانى مطلقة حول الزمن والمجهول والأسرار الدفينة بداخل القدور، وهى تبدو آتية من زمن سحيق، وفى ذلك كله الكثير مما تنادى به بعض اتجاهات ما بعد الحداثة فيما يتعلق بالبيئة والتراث والفطرة البدائية.

•قدور سلوى

فى قدور الفنانة سلوى رشدى(الأستاذة بكلية الفنون التطبيقية) مفارقة مدهشة بين شكل النحلة (لعبة الأطفال الدوارة على الأرض) وبين الضخامة والأبهة معًا، وهى تتباهى ببريقها اللونى الأخٌاذ بحس استعراضى مزهوة بجمالها المعجبانى..فألوانها ساطعة بالأزرق والبنفسجى والأحمر الطوبى والأصفر الكمونى  طبقة فوق طبقة، تطل من بينهما بقايا لونية متآكلة تمنحها غموضًا يخفف من سفورها الاستعراضى برشاقة الخطوط الخارجية وزهوها اللونى.

غير أن إضافتها الجديدة فى المعرض تأتى من توظيفها للدخان الكربونى أثناء الحريق، لتنتج عنه درجات  لونية بين الأسود والرمادى والبنفسجى والرصاصى، تتماهى فوق سطح الآنية وتتأكسد بغير بريق معدنى، موحية بأسرار مكتومة داخل القِدرة، كما تأتى هذه الإضافة من خلال الملمس المشقق فى بعض الأوانى كتفاعلات القشرة الأرضية معتمدة فى ذلك على إضافات طينية ورسوم بالأملاح بعد اكتمال الكتلة فوق دولاب الخزف الدوار، لتتفاعل بدورها عبر درجات الحريق بداخل الحفرة، فتبدو كجزء من تاريخ مندثر، أو كخرائط جيولوجية لقارة مجهولة.

•قدور مندور

 أما قدور ابن الفسطاط محمد مندور(كما يطلق عليه) فهى قدور أسطورية عملاقة، تبطن من أسرار الصنعة أكثر مما تظهر، تزهد فى الألوان الأخاذة والبريق المعدنى اللامع، وتتسم بالوقار والحشمة والسحر الممتد إلى مقابر الملوك والملكات ومعابد الكهنة فى مصر القديمة، وتستدعى التأمل بحثا عن أسرار الحكمة المكتنزة فى جوفها..هى كائنات تتخذ من الأبدية سمةً، ومن الإنسيابية إيقاعًا، ومن النحت المصرى القديم صمتًا ينطق بالعظمة، ويخلق حوله مجالًا مغناطيسيًا يجذب الرائى ولا  يسمح له فى الوقت نفسه بالاقتراب أو اللمس.. وفى تجاربه الأخيرة يحيل مندور أديم القِدر الشاهق إلى أرض محروثة فى خطوط متوازية، فتستدعى بخيالك أرض الوادى الخصيب (كيميت)، وعندما تصعد ببصرك إلى أعلى الآنية حتى عنقها وفوهتها وأذنيها، تشعر بقدر هائل من الرقة والرشاقة والكتمان.

لكنه يشفع قدوره الكتومة المقدسة بمجموعة أخرى تبعث وهجًا من عالم الفن الإسلامى، وهجًا يبزغ من تقابل الأرضية البيضاء الناصعة مع الرسوم السوداء، لوحدات زخرفية تنساب بأشكال الطيور والحيوانات والنباتات، فى رشاقة عذبة الانحناءات ناعمة الإيقاع.

أرأيتم كيف يغنى الطين بأعذب الألحان، بعد أن ظل طويلا يترنم بلغة الصمت؟!