السبت 16 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حكاية

كانت جارتنا الفاتنة «نورا» بنت الناس الأغنياء المُحدَثين، تعيش قصة حب مشتعلة، مع مهندس شاب على باب الله، لا يملك من هِبات الدنيا سوى شهادته، التى لم تنفعه ببصلة، ووسامته التى أصابت بنات الحى بما أصاب زُليخة من فِتنة ابن يعقوب. كان أشقر، فارع الطول، أنيق رغم فقره، له عينان ذهبيتان، كأنهما قرصى شمس ساعة الغروب، وابتسامة هادئة واثقة، تُربك «أصيع» النساء، لكن وسامته وبكالوريوس الهندسة وقلبه المُتيم بحب «نورا»، لم يشفعوا له عند أهلها المُحدثين، فجمال ابنتهم لا يُقدَّر بحُب، وإنما بشقة تشطيب سوبر لوكس، ومهر ومؤخر وشبكة مُعتَبَرين. كانوا يرونها كاملة رغم نقصان عقلها، الفارغ من كل شىء عدا الهوس بالمرايا ومسلسلات التليفزيون. يكفيها من فتنة النساء أن بشرتها الملساء بيضاء وردية، كالحليب المختلط بحب الرمان، وقوامها ممتلئ مائل إلى السمنة إلا أنه متناسق، ثم أنها تُجيد طبخ الحواذق والحلويات، إنها الأسطورة فى المحشى بشهادة كل ربات البيوت بالعمارة، تستطيع أن تلف الآلاف من صوابع محشى ورق العنب، جميعها بحجم الخنصر، كما أنها بارعة فى غزل مفارش التريكو، وصناعة المكرميات. حتى مشوارها التعليمى القصير والطويل فى آن، والذى انتهى فى محطة الابتدائية بعد سنوات طويلة من التعثر، لم يُمثل لأهلها أى نقطة ضعف، أو يشعرها بأدنى حرج، فقد تلقت من التعليم القدر الذى يُرضيها، إذ يُمكنها من مطالعة أعداد مجلة «الموعد» بانتظام، وقراءة أحدث أخبار نجمتها المفضلة ليلى علوى، وتوقعات «الألوسى» للأبراج. ما الذى قد يريده رجل من عطايا الحياة أعظم من زوجة بيضاء بضة، تُجيد الطهى، وتهوى التزيُّن، ومطالعة المجلات؟! إنها الكمال بعينه. لا أظن أن حبيبها «حسن» كان يراها كاملة لما سبق ذكره من ميزات بالمعايير الشعبية، لكنه أبصر فيها الكمال بعيون القلب، التى تعمى عن كل عيب، حتى تفاهتها المفرطة كان يصفها بالطيبة. هذا الهُيام يستعصى فهمه على أهل «نورا» المُحدثين، فلا يُفسر إلا بأنه (طمعان فى البت وميِّل دماغها)، لذلك رفضوه بحسم عندما تقدم لخطبتها.. هددت بالانتحار، فلم يبالوا.. وسَّط من رجال الحى وجهاءه، ومن العائلتين كبارهما، وتقدم مرة ثانية، مستبشراً بشفاعة قريبه نائب الدائرة بالبرلمان.. فرفضوه ثانية! نذرت «نورا» للرحمن صوماً عن الزواج، فاستقبل أهلها المُحدثين قرارها بالرضا.. تعنس أحسن ما تتجوز الجربوع ده.. أما «حسن»، فسافر إلى الكويت للعمل، يسبقه حلمه فى العودة بمهر وشبكة يليقان بست الحسن. عامان مرا عليه فى الغربة، قامت أمى خلالهما بدور رسول الغرام، بعلم «أم نورا» التى تضامنت مع ابنتها. كانت تصلنا رسائل «حسن» بانتظام، فأصعد الدرج قفزاً من الفرحة، أطرق باب طنط «نورا» وأبلغها همساً بالبشارة. تأتى إلينا مهرولة، تسمع الرسالة، ثم تسجل رسالتها. نعم.. قلت (تسمع) وليس (تقرأ)، فقد كان شائعاً فى فترة التسعينيات تسجيل الرسائل على شرائط كاسيت، تنتهى بإهداء الحبيب أغنية. ولم تكن طنط «نورا» تبالى بوجودى معها أثناء سماع أو تسجيل الرسائل، باعتبارى عيلة ومش فاهمة حاجة، فشهِدتُ صلواتهما فى حضرة العشق. آلاف الأمتار من الشرائط البنية الرقيقة، حملت ضحكات «نورا» و «حسن» ودموعهما، وأغانٍ عن الفراق والغربة.. «شنطة سفر» لأنغام، «على بالى» لعايدة الأيوبى، موعدانى وطال الانتظار» لمحمد فؤاد، «سلامات سلامات» لنادية مصطفى، وغيرهم كثير من مطربين التسعينيات، الذين غازلوا بأغانيهم مشاعر شريحة عريضة من سيدات مصر، اللاتى تغرب رجالهن فى الخليج، بحثاً عن لقمة عيش حلال. لسبب غامض لم يفلح «حسن» فى الخليج، وعاد بعد عامين بخُفَّى حنين، ومروحة وجهاز ڤيديو وكاسيت بروحين، وعدة بطاطين. تقدم هذه المرة لخطبة «نورا» بعدما اتفقا أنها ستكون الأخيرة، لأنهما فى حالة رفض أهلها المُحدثين، سوف يهربان معاً إلى أى محافظة من محافظات مصر، ورزقهما على الكريم. رفض المُحدثين «حسن» للمرة الثالثة، انهار، وانهارت «نورا». لم تتوقف عن البكاء وسماع أغنية الست ميادة الحناوى «مهما يحاولوا يطفوا الشمس»! وعقدا العزم على الهروب، الأمر الذى عارضته أمى بشدة.. الناس يقولوا إيه؟! البنت طفشت معاه! ويا ترى إيه اللى حصل بينهم يخليها ترفض كل عرسانها، وتتمسك بيه هو بالذات؟!.. لا يا نورا.. لا يا حبيبتى.. دى كانت ماما تروح فيها.. اعقلى يا حبيبتى.. وبالفعل، عقلت «نورا».. عملت بنصائح الحكيمات من صديقاتها، ورضخت لرغبات أهلها المُحدثين.. لا أتذكر بالضبط ما حدث، لكنى أتذكر جيداً أنى شاهدتها من بلكونة بيتنا، وهى تستقل سيارة مرسيدس «زلموكة» بجانب عريسها الذى تبدو عليه علامات الدمامة والثراء، مُرتدية فستان الزفاف الأبيض، وقد أفسدت دموعها الماكياچ! قالوا أنها دموع الفرحة.. واستمرت الحياة..