السبت 28 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

رمضان..عجلاتى الفرن

حاولت التقاط أيهم فى الشوارع  فى أكثر من يوم، محاولات عفوية لم أكن أخرج بقصد البحث عنه، ولكن لمرورهم بيننا دائمًا حسبت الأمر هينًا لمقابلة تقررها الصدفة، وفي  الحقيقة  كنت أنتبه لهم بعد مرورهم من جانبى قليلًا فلا أعود قادرة على النداء أو اللحاق بهم وسط الزحام وحركتهم الدائمة.. وأكثر من مرة يكون أحدهم قريبًا منى ولا أستطيع تحديد النداء.. ياعم.. ياابنى..  ياأخ.. ياسيد.. يا اسمك إيه! فأرتبك وتضيع الفرصة اللحظية.



وفى مرة كان مواجهًا لى ولكنه لم يلتفت ولم يستمع لمحاولاتى، فقد كان يضع سماعات في أذنيه يستمع لما يستمع إليه وكأنه فى الشارع وحده.. يجرى بالعجلة رافعًا الخبز فوق رأسه، أو يطير كما يسمى فى الفرن « طيار»  إنه عجلاتى الفرن! أما فى صباحى هذا.. فكان لابد من إنجاز المهمة.. استعددت للخروج باكرًا.. ذهبت لأحد المطاعم أسأل عن الذى أتى إليهم بخبز هذا الصباح.. أجابنى بأنه انصرف منذ فترة وسيعود مجددًا ظهرًا، وأعطانى تليفون صاحب الفرن بالسيدة زينب، قائلًا: «اسمه عيد.. سيمدك بما تحتاجين من معلومات وأشخاص، فلديه أكثر من عامل بتلك المهمة».. تمشيت باتجاه السيدة فى شارع المبتديان.. محاولة أن أحظى بمقابلة عفوية.. لم يقابلنى أحد حتى رأيت من يبيع الخبز فى الطريق، لا هو بفرن ولا بمطعم.. فقط يضع أسبتة الخبز على الرصيف ويبيع للمارة، فسألته عمن يأتى إليه بالخبز، أجاب أحد الأفران بالسيدة زينب، وكيف أصل لأحد أولئك الذين يأتون بالعجل؟! : ليه؟.. :  أريد مرافقته فى رحلة..! : اللى واقف هناك دا صاحب الفرن روحى اسأليه. : أريد كذا وكذا.. ممكن؟  : مينفعش حضرتك.. كدا عيب بالنسبة للناس ومش مقبول.  : دا شغل وبعدين عيب ليه. : ليه تضحى بسمعتك وشكلك قدام الناس عشان شغل؟ : فين التضحية.. ثم الناس مش هيعملوا حاجه حضرتك خلينى أجرب وأشوف. : أنتِ حرة بس كدا مش معقول. .. ألو.. ابعتلى رمضان ياابنى..! : شكرًا.. المهم تختار واحد قوى عشان يقدر يسوق بيا وبالعيش ومنقعش كلنا. : محدش فيهم هيوقعك كلهم جامدين بس مش هى دى المشكلة.. المشكلة فى المنظر قدام الناس. : اصبر حضرتك.. هنعرف دلوقتى. .. جاء رمضان  : قوليله بقى! : صباح الخير يارمضان.. أنا عاوزة أشاركك رحلة من رحلاتك لتوصيل العيش من الفرن لأى مكان.. هنجرب رحلة ونشوف ربنا يستر ومنقعش ونوقع العيش عشان الزحمة زى ما انت شايف. وبدون أن يعرف من أنا وماذا أفعل ولماذا أريد منه ذلك.. وافق فى بساطة وسلام.. بعيون مبتسمة ووجه متأمل.. يلا بينا. : نتمشى الأول وإحنا رايحيين للفرن ونرجع راكبين سوا..؟ قلت له.. فوافق أيضًا.. رمضان ذو العشرين عامًا.. الشاب اليافع أزرق العينين.. الصعيدى الآتى من قرية برطباط بمغاغا بالمنيا.. المصرى الذى يعمل بجد ولا يفكر كثيرًا بما لا يعنيه ربما هو الأكثر حظًا فى هذا الصباح! أنا والعيش ورمضان  رمضان ومغامرتنا الصباحية معًا.. على عجلته..  العيش على راسه وأنا أمامه على العجلة.. وانطلقنا فى شوارع القاهرة..!  من فرن فى سوق السمك بالسيدة زينب.. إلى مطعم بشارع قصر العينى..! .. وها أنا أجلس أمامه على العجلة ويقود بى.. علنا نلمس ما يشعر به فى رحلة تتكرر على مدار اليوم.. يقول رمضان ربما أكثر من مائة رحلة فى اليوم لنقل الخبز من الفرن إلى من يحتاجه. .. تحدثنا قليلًا سائرين إلى الفرن.. ثم قال: «يلا تركبى أسوق بيكى ولا إيه..؟ يلا نجرب لغاية الفرن قبل مرحلة العيش. اركبى الأول. بسم الله.. إيه دا.. الله! حلوة ؟ حلوة أوى يارمضان.. أنا ركبتها كتير لوحدى أول مرة حد ياخدنى قدامه..! كان الصباح رائعًا وشمس أكتوبر لطيفة.. رغم الزحام والأتوبيسات والموتوسيكلات والناس.. ورغم كل ذلك الزحام لم أنتبه لغير التجربة.. كنت خائفة من السقوط بالطبع.. خائفة أن أميل بالعجلة فيختل توازنه.. إلا أن الاستمرار فى الحركة كان كافيًا لشعورى بالتوازن.. فى الحقيقة رمضان شاب يافع ويستطيع القيام بمجهود شاق فى رفع أسبتة الخبز الثقيلة فوق رأسه طوال اليوم والتى يحمل بها أكثر من مائة وخمسين رغيفًا كل مرة وأحيانًا ضعف ذلك.. ورغم هلعى الشديد إلا أن وزنى لا يعد ثقيلًا على أية حال! رحلة الـ12 ساعة مررنا على مسجد السيدة وخلفه قليلًا توقفنا للمسير حيث الأزقة ضيقة.. فضلت أن نسيرها إلى الفرن بدلًا من التأرجح فوق المطبات الصغيرة وطبيعة التواءات الحارات.. وصلنا الفرن وانتظرنا إعداد الكمية المرسلة وهذا التجهيز يسمى « تطبيق».. إذ قال أحد العاملين بالفرن: «هطبق لك ١٥٠ رغيف يارمضان.. والرحلة متوجهة لأحد المطاعم بشارع قصر العينى».. جدير بالذكر هنا أنه ليس الفرن المقصود فى البداية فذاك صاحبه عيد، أما هذا فحسن.. كذلك هو ليس المطعم الذى قصدته فى الصباح. .. رمضان  البالغ من العمر عشرون عامًا.. أتى للقاهرة فى عمر السابعة.. ورافق أخوته العاملين جميعهم فى الفرن تاركين الأب والأم والأخوات فى المنيا. يبدأ يومه فى الرابعة فجرًا.. يأخذ قهوته على قهوة قريبة ومن ثم يبدأ العمل إلى الخامسة مساءً.. ويوميًا ينال أجره عن ذلك.. مائة وثلاثون جنيهًا مقابل العمل ليوم.. يعمل هكذا ستة أيام فى الأسبوع ويرتاح يومًا.. رمضان الذى يعيش هنا منذ ثلاثة عشر عامًا ويعمل هذا العمل فى الفرن احترافًا للعجلة.. يُشارك منذ ذلك الحين فى إيجار مسكنه وأخوته.. جميعهم يتشاركون كل شىء.. إلى أن تزوج أحدهم فباتت زوجته تهتم لشؤون طعامهم جميعًا.. ورمضان يحب جارته دنيا، التى تدرس الآن فى صفوف الثانوية العامة.. يقول ذلك متوجسًا غير فرح تمامًا، أو ربما يخاف فقدها، كل ما يتمناه الآن أن ينتقل للعمل مع أقاربه فى ورشة للألوميتال بمدينة أكتوبر بعدما يطمئن لارتباطه بدنيا..!  يقول: إن العمل بالفرن لا يكفى لتأسيس بيت.. أسأله من أصدقاؤك؟.. يقول الكثير.. يعملون فى الفراخ «محلات بيع وتجهيز الدجاج» ولكن عملهم لم يعد مجديًا.. فبعدما كان المحل يحتاج لأربعة على الأقل الآن واحد فقط يكفى.. رغم أن يوميتهم أصلًا قليلة ثمانون جنيهًا..! لهذا كل أحاديثنا عن العمل والمستقبل. .. كان هذا الحديث بينما جهز الآخر الطيارة «الحامل الخشبى الكبير الذى يحمل الأسبته جميعًا» وفور انتهائه وضع على رأس رمضان «الحواية» وهى قطعة قماش ملفوفة لتثبت الطيارة على رأسه.. وبقوله: اركبى الأول.. بدأت الرحلة. كان قلبى يدق أسرع من المرة السابقة.. خفت لجدية الموقف.. نقل لى هذا تركيز رمضان فور ركوبه العجلة.. شعرت بمسئوليته عنى وعن الخبز.. لقد كان ممسكًا بالجادون بيد واحدة والأخرى تمسك بالطيارة فوق رأسه.. يتنفس بسرعة وانتظام ويقود محركا العجلة التى تسير على خط نحيف يمينا ويسارًا متفاديًا الناس.. والمطبات فى الشوارع ومتفاديًا الزحام.. الشارع ملىء بالحركة.. ملئ بكل شىء.. وأنا بعدما تصورت أنى سأستمتع بالنظر للقاهرة من عجلة لا أقودها فهى فرصة للتأمل.. كنت أتابع حركتنا نحن.. هل سنصمد.. أم أن الزحام المرتبك سيوقع بنا.  .. استرجعت ما قلته لرمضان بمجرد لقائى به عما يلاحظه فى الشوارع كل يوم.. ما الثابت وما الذى تغير.. ودهشتى لإجابته لا ألاحظ شيئًا ولا التفت لأحد.. أكون منهمكًا بالعمل ومنتبهًا للطريق فقط وهكذا تنتهى الرحلات والأيام ولا أتابع شيئًا.. فربما معه حق لأنه يسير وسط حركة دائبة وغير منتظمة. ضحكت فى البداية.. ثم حاولت الانتباه للناس لملاحظة غضبهم الذى زعمه حسن فى البداية.. لم أجده.. بل لم أجد من يهتم أصلًا.. كل منهمك فيما يسعى إليه.. الكل يتحرك والكل مشغول.. ورمضان ليس لديه جرس بعجلته!.. فعندما يواجه الناس يقول «بس.. بس..» إلى أن ينتبهوا ويتركوا له مساحته ليمر.. قلت له هذه  الطريقة ليست كافية.. فقال حتى لو معى جرس لا أستطيع استخدامه الآن..! رجليا اللى طايرين فى الهوا وسط الزحام.. خايفة يشبكوا فى عربية فى موتوسيكل أو أى رصيف.. وبين التسمية والصلاة على النبى والصراخات الصغيرة قضيت أول الوقت.. ورمضان منتبه تمامًا لما يفعل.. إذا حدثته لا يجيب بالكثير.. قطعًا أنا أصبته بالهلع ولكنه على العجلة ليس أمامه سوى الاستمرار فى القيادة. نبهنى أكثر من مرة بقوة لا يشوبها شك من ناحيته أننى لن أقع فلا داعى للخوف.. رأينا أكثر من عجلة يحمل راكبها خبزًا.. وقابلنا آخر آتيًا من بعيد يضرب أجراسًا متتالية ولما اقترب ضاحكًا أشرت له فرد التحية وتبادلا هو ورمضان السلام.. إزيك يا رضا.. إزيك يا رمضان..! وأنا أيضًا قلت إزيك يا رضا..! ثم عدت للهلع وسط زحام كثيف وهو يتفادى الجميع ويدخل بين صفوف السيارات.. أصرخ قائلة مش لازم كدا وأنا معاك.. رجليا هتتخبط  فى العربيات.. متخافيش.. فقط ويسكت. اقتربنا من الوصول إلا أنه فى لحظة ولا أعرف كيف حدث ذلك.. فى وسط الطريق وبين السيارات المتوقفة من كثافة المرور فوجئت بنفسى أميل مع الكيان الذى أرتكن إليه.. لقد وقعنا فعلًا.. آه آه  لطفك يارب.. رمضان.. رمضان.. أنا وقعت.. الناس خرجت من السيارات التى حشرنا بينها وتحاول مساعدتى وإقامة العجلة.. رمضان حاول إنقاذ العيش فقام مسرعًا أو أنه ظل واقفًا أما أنا والعجلة.. ورغيفان ناولهما له الذين ساعدونا.. أنا وقعت يارمضان؟ دى حقيقة؟ قال معتذرًا أنا آسف.. يا ابنى أنا اللى آسفة أنا عاملالك قلق.. فقال مكررًا معلش أنا آسف.. طيب أمشى بئه جمبك إحنا اقتربنا خلاص من المجلة.. قال لالالا أركبى هوصلك.. تاني؟.. متخافيش أركبى.. ركبت وخلال هذه الرحلة القصيرة.. قمت أنا بدور الجرس.. ياأخ.. وسع.. ياآنسة.. لو سمحت.. ياستى.. لو سمحتوا وسعوا.  ثم توقف أمام بوابة القصر.. أشرت له هذه هى.. فقال: هتكتبى يعنى عنى فى الصحافة؟!.. قلت له: آه وعن عجلتك والوقعة دى اللى وقعناها.. يوم جميل يا رمضان. وصعدت باكرًا جدًا للمجلة لأجد فقط عدلى وإبراهيم يستعدان لبداية يوم جديد.. لا زال الجو هادئًا هنا فلا أحد يجىء الآن.. الحقنى ياعدلى.. أنا وقعت فى الشارع.. هدومى إيه كويسة؟ آه يا أستاذة مفيش حاجة.. انتى كويسة كمان طالما قادرة تتحركى.. ويضحك إبراهيم.. وأتأوه أنا مسترجعة شكل رمضان وعيناه الزرقاوتان وذرات الدقيق المتناثرة على شعره ورموشه مع خيوط العرق المتحركة على جبهته وعنقه.. إنه أجمل ما رأيت فى ذاك الصباح المصرى.. طيب  بسيط، متحضر بالجينات بالوراثة أو كمال قال يحيى حقى بالقسمة والنصيب!•