الثلاثاء 6 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الرومانسيون القدامي

الرومانسيون القدامي
الرومانسيون القدامي



 
«أنا من جيل لا يطلب ولا يلح ولا يشحت، ولكن يبدو أن مسئول هذا الزمن لابد أن تطلب منه بصوت عال ما تريد وتلح عليه وتشحت اهتمامه».. هكذا كتب الكاتب والصحفى والمحاور مفيد فوزى فى صفحة «سماعى» الباب الشهير الذى يكتبه فى مجلة «صباح الخير» منذ سنين طويلة.
 
 
 
كتب هذا أواخر عام 2007 عندما قرر رئيس مجلس إدارة مؤسسة «روزاليوسف» فى ذلك الوقت أن يمنع منحة التقدير المالية السنوية عن الكتاب والصحفيين والفنانين الكبار.. هؤلاء الذين أضاءوا مجلتى صباح الخير وروزاليوسف بالصورة والكلمة والكاريكاتير لسنين طويلة، وكانت مطبعة المؤسسة فى ذلك الوقت تدور بالربح لكتب وزارة التعليم والنتائج السنوية الملونة للشركات، فقد كنا فى نهايات ذلك العام يعنى كان الربح للمؤسسة متوافرا، لم يكن لديه أى عذر سوى أنه يريد مضايقة الكبار.. هؤلاء الذين يمكن أن يضايقوه بنصائح رذلة.. وأفكار ثقافية قديمة لا تصلح لأخلاق مرحلة جديدة! فقرر أن يطلق عليهم الرصاص.. وقد كتبت يومها فى مفكرتى الخاصة.
 
∎ نعم يا زميلى العزيز مفيد
إننا من جيل لا يطلب ولا يلح ولا يشحت اهتماما.. نحن الرومانسيون القدامى، الإخلاص سمتنا فى الحب والعمل، الاحترام لمن يكبرنا والاحتواء لمن يصغرنا، لم نعرف قوانين المراوغة والمؤامرة مثل هذه الكلمات التى انتقلت الآن من عالم السياسة إلى الحياة العامة.. نحن الرومانسيون القدامى ربما نكون عاطفيين أكثر من اللازم، فهل نستحق أن يطلق علينا أحد رصاص اللامبالاة أو الخديعة، أو الخذلان.. أو.. أو.. لقد عشنا زمنا كانت الصداقة حقيقية.. الجزء الأكبر منها للحب والجزء الأصغر للمنفعة.. كان حبنا رومانسيا.
 
الجزء الأكبر للعاطفة والأصغر للواقع، كان الصدق يغلب الكذب، والابتسام يغلب التجهم، كانت سياسة الدول واضحة وكان ذلك يحفظ التوازن للعالم، نحن الرومانسيون القدامى لا نعيش فى الماضى ونقول كان أفضل، إننا نريد السلام بين أفراد المجتمع، ولا نحلم بالمدينة الفاضلة التى صورها «أفلاطون» الفيلسوف لأنها لم ولن تتحقق.. إننا نريد أن تعرف كل دولة حدودها ولا تفرض قوتها على الخلق.. لسنا من البكائين على الماضى، إننا فقط نريد التعامل بالسلام والمحبة والاحترام بين البشر.. نعم كبرنا نحن الرومانسيون القدامى وتغير الزمن ولم تعد سذاجتنا تخفى علينا بواطن الأمور.. ولم تعد الكلمات المعسولة تخفى علينا ما فى الصدور، وفهمنا عذابنا الصامت وهجمات الحزن التى تداهمنا من حين إلى حين، وتأكدنا أن إيماننا بالله وقوتنا النفسية بمبادئنا الرومانسية تحمينا من أى طلقة رصاص!
 
∎ «نصيبى من الحياة»
عنوان كتاب جديد لابن جيلى «مفيد فوزى» ليؤكد أن الرومانسية مرتبطة بالواقع بأفكار وأعمال وتركز على المفاهيم السليمة والثقافة والمعرفة والكفاح.. يأخذنا مفيد بذكرياته إلى طفولته وصباه وكانت لديه حالة من الفضول المبكر، بمعنى أنه كان كثير السؤال، يريد معرفة الإجابات، طفل شديد الحركة والذكاء، ينقلنا إلى صباه فى مدينة بنى سويف، ويحكى عن تلك السنوات ثم إلى القاهرة وجامعتها الكبيرة ليتعرف على أساتذة عظام يكتشفون فيه موهبة ما.. وبدأت تظهر فى عمل جريدة حائط جامعية.. لتظهر موهبته فى الكتابة ومن ذكرياته يقول:
 
«أكاد أكون فى تلك الفترة شبه مهتز بين القيم والأفكار التى تربيت عليها فى بنى سويف وبين قيم القاهرة تلك المدينة المنفتحة والشىء الكبير الذى لا أعرف أوله من آخره هذا الكيان المسمى بالجامعة وبدأت أحاول الاحتفاظ بالتوازن»، ويعترف مفيد أن قسوة والده عليه وهو صغير علمته الصلابة فى الحياة، والاستماع من الإذاعة إلى المفكرين والمثقفين لأن والده كان يمنعه من الاستماع إلى الأغانى!
 
دفعه إلى البحث عن المزيد من المعرفة فى الكتب.. هذه الموهبة التى ظهرت لمفيد فى مجلة حائطية اكتشفها الكاتب والشاعر «كامل الشناوى» وقد عرف مفيد مكان اجتماع الكاتب الكبير مع الكتاب كل مساء وتعرف عليه وكانت سهراته إلى الصباح التى تسببت فى أن يطرده والده من البيت، وأن يلجأ إلى السكن مع عمته ويقرر أن يعمل بتدريس اللغة الإنجليزية لمبتدئين.. ويترك دراسته الجامعية لمدة سنتين ثم يعود إليها بعد عدة سنوات.
 
يحكى فى كتابه عن بدايات عمله فى الصحافة ولقائه مع مكتشف المواهب أستاذنا الفنان حسن فؤاد والذى يقدمه للأستاذ أحمد بهاء الدين ليبدأ عمله الصحفى الجدى فى مجلة «صباح الخير» التى كانت ظهرت وقتها.. وينقلنا إلى بدايات قصص الحب فى حياته إلى بدايات العمل فى الإذاعة.. إلى التليفزيون.. إلى قصة حبه التى توجت بالزواج من الإذاعية الشهيرة فيما بعد آمال العمدة وقد اختار يوم زواجهما الأول من شهر مايو عام 1968 لأنه يوافق عيد العمال رمز الكفاح والعمل.
 
∎ نجاحات وصدمات
يحكى مفيد فوزى عن باب النجاح الذى فتح له على مصراعيه بعمله فى مجلة «صباح الخير».. وقد تميز مفيد بالعناوين الصحفية والأسلوب الخاص به واهتمامه بالمعلومات ويقول: «كنت حريصا على أن أقدم أفضل ما لدى وكنت أستثمر ذكائى الاجتماعى والشخصى»، وطبعا يقود تلك المميزات فضوله فى المعرفة والأسئلة التى نمت منذ صباه، وتتوالى نجاحاته فى الإذاعة بعد الصحافة إلى أن كانت صدمة كبيرة فى حياته عندما منع من الكتابة والإذاعة عام 4691 بسبب تحقيق صحفى نشره فى المجلة واتصل مسئول فى حكم ذلك الوقت لينفى ما كتبه مفيد وأصر مفيد على صحة ما كتب.. لكن رده لم ينشر فى المجلة.. وكان المنع: «منعه رجل الاستعلامات على باب روزاليوسف من الدخول: «يا أستاذ مفيد أنت مرفوت.. أول مرة فى حياتى أسمع هذه الكلمة.. مرفوت ليه»؟!
 
يحكى عن وقفة الإنسان صديقه عبدالحليم حافظ معه ومحاولة الحديث مع رئيس المخابرات.. و.. و.. لم يفهم مفيد شيئا.. ولم يفتح فمه بكلمة.. «لكن وجهى كان ينطق أمام أمى بالأسى وحكيت لها القصة وإنهم مشونى من روزا والإذاعة.. لم أستطع أن أقول رفدونى! ولاحظت دموعها فى مشهد لا أنساه، قامت وأحضرت زيتا من الكنيسة وضعته على جبهتى وقالت لى ربنا مش هيتخلى عنك هى شدة وتزول».
 
وقد زالت تلك الشدة بعد أربعة عشر شهرا، تلك الصدمة النفسية والعملية حفرت فى نفس مفيد.. ويذكرها دائما فى كتاباته.
 
وتعود النجاحات فى حياة مفيد فيكتب فى المجلة، ويعود إلى إذاعة الشرق الأوسط وتلتقطه الإذاعات العربية بداية من الأردن لقيمة ما كان يقدمه..  وارتبط مع إذاعات عربية أخرى، وتتوالى النجاحات ويعد برامج للتليفزيون المصرى، ويتولى رئيس تحرير لمجلة صباح الخير فى أواخر الثمانينيات إلى منتصف التسعينيات تقريبا.. وأعتقد أن سحب مسئولية رئاسة التحرير منه كانت صدمة من صدمات حياته.. لكنها لم تبق طويلا لأنه بدأ رحلة جديدة من النجاح فى التليفزيون بالبرنامج الشهير «حديث المدينة»، يقول مفيد: «ظهر برنامج «حديث المدينة» فى الأسبوع التالى لإنهاء مهمتى فى مجلة صباح الخير كرئيس للتحرير»، وفى هذا البرنامج الشهير استطاع مفيد أن يحول الصحافة إلى عمل تليفزيونى وكيف قدم مجلة تليفزيونية جيدة تظهر نبض الشارع المصرى بكل أجوائه فى المدن والريف، أبناء وبنات مصر فى الوطن وخارج الوطن.. علماء وفنانين وحرفيين وملاحقة الأحداث فى الداخل والخارج فى ظل حديث المدينة أسبوعيا لأكثر من عشرين عاما إلى أن جاء من يوقفه هذا العام! لكن قلم مفيد لم يتوقف عن الكتابة قديما وحديثا إلا بسبب تلك الصدمة القديمة.


∎ بحر من الذكريات
فى كتابه «نصيبى من الحياة» يتحدث مفيد عن معاركه فى الحياة الصحفية والتليفزيونية.. الذين قابلهم من المشاهير.. فى الفن.. وفى الحكم.. يحكى عن الذين أصبحوا أصدقاء وصديقات، يحكى عن آلامه مع إصابته بالمرض وإرادته ومعركته القوية على الشفاء، وآلامه بصدمة رحيل رفيقة عمره زوجته الإذاعية الكبيرة «آمال العمدة»، وذكرياته الحلوة والمرة معها، والابنة الجميلة حنان والحفيد شريف، بحر من الذكريات يبحر فيه القارئ ليشاهد أجواء من العمل والجهد الجاد، ليشاهد رحلات سفر عمل ونزهات وشفاء، بحر من صفحات تصل إلى أربعمائة صفحة منها عدة صفحات للصور، كتاب يظهر أن الرومانسيين القدامى يؤكدون أن الرومانسية ليست مجرد صفة يوصف بها بعض الناس، وليست مجرد خيالات عاطفية، إنها أفكار جيدة للحياة.
 
الرومانسيون القدامى ليسوا هم من الكتاب والشعراء والرسامون فقط، بل نجدهم فى مختلف المهن والأعمال الفنية المتنوعة والطبية وحتى الاقتصادية والسياسية.
ونجد الرومانسى ليس معصوما من الخطأ، له أخطاء مثل كل البشر وينتهز الفرصة التى تحقق له أملا أو حلما لحياته وعمله مثل كل البشر.. وهنا ربما نجد رومانسيا مترددا تضيع منه الفرصة، ورومانسيا عمليا يفكر سريعا لينتهز هذه الفرصة ولا يتخلى عن مبادئ الرومانسية القديمة فى الإخلاص والجدية والمثابرة والحديث مع الغير باحترام وكلمات راقية من القواميس القديمة فى حياتنا.. وهذا وجدته فى كتاب زميلى العزيز مفيد فوزى.. «نصيبى من الحياة».