الأربعاء 21 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ثــورة التعرى

تبدو وسائط السوشيال ميديا متشابهة من حيث تدفق " المعلومات " ويجب هنا التحفظ على كلمة المعلومات تلك لأن من أبجديات المعلومة هو التأكد من صحتها وهو أمر لا تسمح به وسائط السوشيال ميديا.  يبقى بعد التحفظ التشابه لكن هذا التشابه هو الآخر مغلوط، فالوسائط تؤدى أدوارًا متباينة نظرًا لطبيعة الاستخدام وتأثر المستخدمين ومدى الأفق الذى أعطوه للوسيط .



نقارن مثلًا بين الفيس بوك وتويتر ونحمل هذه المقارنة إلى ميزان المصطلح السياسى كوسيلة تفربق فى تعامل المستخدمين معهما سنجد  فيس بوك هو وسيط أصبح رجعيًا أو متحفظًا بشكل عام، أما تويتر فهو وسيط تقدمى تخرج من بين تغريداته أفكار وشطحات تصطدم دائمًا بمثلث الدين والجنس والسياسة, رأى الكثيرون فى الوقت الحالى أن الفيس بوك فقد أهميته كوسيط افتراضى يستطيع الحشد ثم تحريك الحشود إلى الواقع الأرضى الحقيقى وأن المهمة الآن أصبحت فى ملعب الوسيط الأكثر تقدمية وهو تويتر. يمكن ترجمة كلمة الحشد والتحريك والاصطدام بالواقع الأرضى الحقيقى إلى كلمة أكثر شمولًا وهى الفوضى، أى نقل جنون العالم الافتراضى إلى العالم الواقعى عبر جسر الوسيط، وحاليًا يجاهد مستخدمو تويتر لتصنيع هذا الجسر من تغريداته المتتالية والـ 280 حرفًا التى تشكل هذه التغريدات. لا يتوقف تويتر عن إطلاق ترينداته التى يصنعها المستخدمون وتتحول هذه التريندات إلى ساحة معركة سياسية أو اجتماعية تحاول فيها فرق المحتشدين خلفها تحقيق النصر عن طريق الصعود بالتريند إلى مقدمة الوسيط وبعد تحقيق النصر الزائف تتراجع راية الانتصار لتحل مكانها راية وهمية أخرى. يبقى دائمًا الانتصار زائفًا والراية وهمية طالما كان التأثير مقتصرًا على العالم الأفتراضى للوسيط، يبدأ النصر يحقق نوعاً من الوجود والراية تخرج من نطاق الوهم إلى الوضوح عند لحظة الاتصال بالعالم الواقعى.   يمكن مراقبة ذلك فى حملات الضغط التى يقودها مستخدمو تويتر من أجل تغيير واقع سياسى أو اجتماعى محدد، وبالفعل يبدأ نوع من الحلحلة لهذا الواقع لصالح وجهة النظر المطروحة، وهنا يصبح استخدام الوسيط إيجابيًا وآلية تغيير حديثة تنضم إلى مثلها كالإعلام والآليات السياسية والاجتماعية التى توفرها الدولة من أجل التفاعل مع المواطن وملاحقة رؤيته فى التغيير. لكن هذه الإيجابية المنشودة لا تتوفر بكثافة فى وسائط السوشيال ميديا لأسباب متعددة أولها ما ذكرناه فى البداية والمتعلق بالمعلومة المتداولة ومن ناحية أخرى فالقضية التى تطرح ويتم تبنيها لأجل الحشد ثم التحريك قد تصبح وهمية بالكامل من حيث وجودها، فتكن مختلقة من أساسها من أجل فرض أمر غير حقيقى على مناخ العالم الافتراضى وبعده الواقعى. يصل الوهم إلى من يتبنون القضية الوهمية نفسها فأنت لا تدرى فى لحظة حماسك وتفاعلك مع القضية الوهمية أن من يتبناها وهمى هو الآخر وأنهم ليسو أشخاصًا طبيعيين بل منظومة محترفة قادرة على غسل الإفك وتمريره بدهاء إلى أرض الحقيقة. لا يتوقف عمل دائرة الوهم على القضية ومتبنيها بل يصل الى إخفاء الغرض المطلوب تحقيقه من هذه الإثارة، ففى البداية لا يظهر الغرض بل يكن هدفًا نبيلًا أو على الأقل هدفًا ينشد التغيير والتمرد على الواقع، وهذا التغيير والتمرد يبدو مقبولاً فى الحراك الإنسانى حتى لو كان يخالف معتقدك الراسخ ولكن الحقيقة أن القضية وهمية ومتبنيها وهمى وغرضها خبيث. يعطى تويتر مثلاً حى الآن على كيفية إدارة الحشد وراء قضية وهمية ومتبنٍ وهمى والغرض المخالف لتصور المحتشدين وراء قضيتهم التى صدقوها فى سذاجة متناهية  بحثًا عن التغيير والتمرد الزائف . صعد فى تويتر منذ أيام ترند باسم ثورة التعرى، وبالتأكيد لم يولد الترند قويًا من لحظته الأولى بل بدأ بدعوى من سيدة غامضة تدعو إلى تخلص أجسادنا من قيود الملابس وبدأت بنفسها. كان يمكن التعامل مع هذه الدعوى أنها شطحة من شطحات كثيرة تشتعل وتنطفئ فى ساعات على تويتر لكن بعد فترة وجيزة بدأت الدعوى تأخذ إطارًا تنظيريًا خاصًا بها لإعطائها قيمة تخلصها من تفاهة فكرة أن التعرى يؤدى إلى التحرر لأن لو بقت الفكرة هكذا فالقردة سبقت الإنسان بكثير فى سباق التحرر. تم استدعاء رمز من الميثيولجيا البابلية القديمة وهى الربة عشتار إلهة الحب والحرب والخصوبة وطالبت السيدة بالاقتداء بها وبالتخلص من القيود والانطلاق فى مراعى الحرية الجنسية دون أى مانع. لم يتوقف التنظير عند هذا الحد بل بدأت تظهر المقولات التى ترسخ للقضية الوهمية وإعطائها أبعادًا فلسفية واجتماعية تبدو للسذج والمحتشدين عميقة وأنهم بالفعل أصبحوا روادًا فى ثورة اجتماعية جبارة تتشكل أو على الأقل جزء منها. بعد التنظير المكتوب دخلنا إلى الإطار أو الشكل فتم تصميم شعار للثورة العارية التى تقودها عشتار عبارة عن قلب محاط بقبضة يد هنا اكتملت أركان الثورة العارية وبقى فقط استقبال الثائرين لم تمر ساعات على اكتمال الإجراءات الثورية ووصل الثائرون بأجسادهم العارية. وصل الى حساب القائدة عشتار مئات من صور الثائرين المؤمنين بدعوتها وهم عراة وكل ثائر أو ثائرة يرسل صورة جسده العارى ومعها تأكيده أنه أصبح عشتاريًا أو عشتارية ومنضم للثورة الجديدة التى تحولت بعد التفاعل إلى دين عشتارى جديد وغطت خارطة الثائرين أغلب الوطن العربى فالصور العارية تدفقت من المحيط الى الخليج بدأ الترند يظهر مع تدشين مصطلح ثورة التعرى التى اكتملت أركان وجودها بالقائدة وفلسفة الثورة والشعار والأهم الثائرين العراة. بالتأكيد المتابعون من أمثالى المحتفظون بعقولهم وعاداتهم البالية فى ارتداء الملابس من وجهة نظر القائدة عشتار لن ينضموا للثورة العارية ولكن يمكن أن يكون لهم ملاحظات على الحراك الثورى المكشوف تمامًا ففكرة الثورة فى حد ذاتها تسمح بالاختلاف . نلاحظ الجهد الكثيف الذى بذلته صاحبة الدعوى فى نشر دعوتها والذى لا يتناسب مع مجهود شخص طبيعى فى هذا الزمن القياسى والتغريدات المنهالة علينا بلا توقف تحمل التنظيرات والشعارات. ظهرت شخصية غامضة أخرى بجوار القائدة عشتار واعتبرته محركة الثورة المسئول عن الملف الطبى للثائرين العراة وأصدرت توجيهًا فى أكثر من تغريدة باتباع نصائحه والتى تحولت بعد قليل إلى أوامر يجب تنفيذها وكانت نصائح وأوامر طبيب الثورة هى ابتعاد الثائرين عن مشاهدة الأفلام الإباحية فكل تغريدات طبيب الثورة دارت حول هذا الموضوع . تصورت فى لحظة سذاجة شخصية أن رغم دعوى التعرى فهناك خيط أخلاقى ولو رفيع فى الثورة العارية وأن القائدة عشتار تخاف على ثائريها من الانجراف وراء هذا الوباء. تطورت حالة المتابعة لدى لطرح أسئلة حول مغزى إطلاق ثورة التعرى ولم أكتف بالنظرة الضيقة وأعطيت الأمر أبعادًا أخرى فهل تريد القائدة عشتار ومن ورائها خلق حالة من التمرد الاجتماعى تتبعه حالة من الاستخدام السياسى؟ وأن أفضل طريقة لفرز الأشخاص الأكثر تمردًا هى الذهاب إلى أقصى درجات الخروج عن ماهو طبيعى فى مجتمعات محافظة كمجتمعاتنا العربية؟ أم هى عملية تسخين اجتماعى شديد بعدها تقدم قضايا اجتماعية أقل جنونًا من التعرى ولكنها مغايرة بقوة مع النمط الاجتماعى السائد فيمكن تقبلها بسهولة؟ تركت الإجابة عن الأسئلة للوقت ففى الأغلب بعد عملية الفرز سيبدأ الحشد والتوجيه الى أغراض أخرى غير التعرى فقط وقد يصل الأمر إلى الاصطدام بالعالم الواقعى ولا أعلم هل سيذهب الثائرون إلى هذا العالم عراة أم بملابسهم؟ قدم الوقت الإجابة وحررنى من الأسئلة ذات الأبعاد العميقة التى طرحتها على نفسى فغردت القائدة عشتار بالتغريدة الكاشفة الأولى عن أغراض ثورة التعرى فهى أعلنت أن قريبًا فى الأسواق ستباع تيشرتات وأكواب وملصقات وهدايا ولم تنس أغطية الموبيلات كلها تحمل شعارات الثورة وصورة القائدة المطلى وجهها بألوان المكياج الصارخ الذى يحولها الى وهم. التغريدة الكاشفة الثانية كتبت فيها القائدة عشتار " أحتاج الى مسوق إلكترونى من أجل بيع الألعاب الجنسية فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" وهنا علمنا دور طبيب الثورة فهو يحذر الثائرين من الأفلام الإباحية حتى يشتروا الألعاب الجنسية التى ستتولى القائدة ومن ورائها بيعها فى الموقع الإلكترونى. نعم قضية ثورة التعرى وهمية والقائدة عشتار وهمية وتم أستخدام التاريخ والميثيولجى والفلسفة من أجل عمل تسويق لأكواب وتشيرتات وألعاب جنسية بطريقة مختلفة ماهو عجيب هنا هو موقف الثائرين العراة فنسبة ضئيلة منهم كشفت اللعبة وعادوا إلى ملابسهم أما الأغلبية فكانت تسأل بلهفة عن متى ستطرح القائدة عشتار الأكواب والتشيرتات لكى يشتروها ويؤكدون انتماءهم للثورة العارية وتقدم آخرون ليكونوا وكلاء التسويق للألعاب الجنسية لأن الثورة مستمرة !!