الزرع ..حب وحكمة وحياة

ايمان عثمان
المعرض الزراعى الدولى فى دورته الـ٣٢.. تتنافس فيه هذا العام ٢٥٠ شركة زراعية كبرى من ٣٦ دولة.. فى عرض منتجاتها المتخصصة فى مجال الزراعة والإنتاج الحيوانى وإنتاج الأحياء المائية.. أقيم فى قاعة المؤتمرات بأطراف المدينة.. وبينما كان الزوار والمستثمرون والعارضون مئات وربما آلاف من البشر مقبلين فى ذاك الصباح.. يبدو على ملامح الجميع الاهتمام والجدية.. أبدو تائهة هنا وسط الزحام.. يجد الجميع ما يقولونه لبعضهم البعض دائماً.. وأنا أفكر من هم زوار هذا المعرض وما الذى أتوا من أجله!
فى الجناح الصينى.. رأيت سيدتين.. شيرين عادل ووالدتها السيدة هدى قالت: «فى طريق مصر اسكندرية»، بنينا بيتًا صغيرًا ونزرع حديقته، والأرض المحيطة به.. الحديقة الصغيرة نزرعها أشجارًا وفاكهة وخضراوات.. أما باقى المساحة ستكون فقط أفوكادو..!» من ثلاث سنوات وفى معرض آخر تعرفتا على شركة لشتلات الأفوكادو ومنذ ذلك الوقت تدرسان تفاصيل الزراعة والعناية بجودة الأرض.. تقرأن وتتعلمان أصول الزراعة والاهتمام بمحصولهن الصغير.. «منذ شهرين ونصف فقط انتقلنا للبيت وحولنا مجتمع صغير تعرفنا على بعض منهم ونحاول معاً خلق طبيعة للمكان وسلوكيات صديقة للبيئة قدر الاستطاعة وشيئاً فشيئاً حتى تكون كل ممارساتنا اليومية صديقة للبيئة».. تتبادلان وجيرانهما أنواع المزروعات فكل من الجيران يزرع شيئاً يمنح الآخرين مما لديه والآخرون يهدونه من منتجهم كذلك.. هذا المجتمع النواة.. عشرون بيتًا تقريباً.. لكن البذرة الواحدة قد تصبح شجرة كبيرة عن قريب وتمنح من الثمار والبذور أعداداً كريمة!.
من البحيرة: للبحث عن حل لتقليل الكهرباء والرى
كنت أتصور أن كل القادمين من كبار المستثمرين فى مجال الزراعة.. من ذوى المساحات الشاسعة لأراضى مستصلحة لذا يحتاجون تطوير زراعاتهم ومنتجاتهم كل عام.. إلا أنى أثناء تجولى رأيت فلاحين كثر.. بجلابيبهم الرائعة.. جلست بجوار مجموعة تناقش أحد المهندسين فى منتجاتهم لآلات الرى واستهلاكها للكهرباء وبدائل معينة حسب متغيرات خاصة.. يعرفون الكثير اندهشت لخبرتهم وتجربتهم الغنية بتفاصيل ربما لايعرفها المهندس فذهب لنداء زميل آخر ليتمكن من الرد على أسئلتهم!.
وآخرون تحدثت معهم..
مزارعو البحيرة.. وليد الغندور .. صلاح محمد محمود.. وعلى عبد الجليل.. ثلاثة رجال بجلابيبهم المتقاربة فى اللون البنى وطفل صغير.. المدهش أن اثنين منهم عيونهما زرقاء.. وبابتسامة كاملة خالصة من عيونهم، وجوههم، وضحكة مصرية.. يقابلوننى « منذ خمسة عشر عاماً نأتى المعرض كل دورة.. تأتينا دعوات من الشركات ونحضر لنتعرف على جديد كل شركة من الأسمدة والأدوية لأمراض جديدة»، يقول صلاح : «أبويا مكانش يعرف أمراض التربة.. مكانش فى حاجات كتير زمان.. احنا عرفنا الحاجات دى عملى.. بقعد جمب الزهرة لغاية متطلع الحباية!.. أمشى وسط الزرع أبص له بس أعرف ناقصه إيه أى عنصر»!.
وليد : «جينا نشوف البذور الحديثة والأسمدة وأدوية عضوية.. حاجات أورچانيك يعنى.. احنا بنزرع كل أنواع الخضار اللى تخطر على بالك طول السنة.. زراعات محمية.. للسوق المحلية».
يتحدثون عن كل ذلك بسعادة وثقة بسيطة كأنها الحياة.. رغم تكرارهم والجميع مشكلة الكهرباء.. وارتفاع تكلفة الرى.. فيقول صلاح مرة أخري: «لكى أروى أرضى 15 فدانًا أحتاج 5 أو 6 آلاف جنيه كل شهر.. مين يقدر على كدا؟!.. هى ماشية بستر ربنا».
من المنيا: يبحثن عن مبيدات تصلح للماجستير
ممن رأيت فتيات جميلات شابات فى بداية العشرينيات.. سماح وزهراء وشيماء.. من ملوى وسمالوط وبنى مزار.. أوائل كلية الزراعة جامعة المنيا.. لأول مرة نأتى المعرض.. للتعرف على أحدث المبيدات لنبدأ منها البحث.. « رسائلهن للماجستير فى أمراض النبات» أمراض فطرية عن الطماطم وذبول البطيخ!.
من الفيوم : لتذوق طعم التمر والزيتون
كذلك فتيات من الفيوم فى آخر الجولة.. إسراء وأسماء وأسماء.. بكلية زراعة أيضاً أتين برفقة أستاذهن الجامعى.. ليتعرفن على تفاصيل المعرض ربما يساعدهن فى اختيار أقسام بعينها للتخصص الدقيق.. يتجولن بين العارضين.. «شفنا زراعة أنسجة نبات وذقنا منتجهم من التمر والزيتون.. وحلوة جداً».
فلاح ابن فلاح: أخسر زراعة ..أعوض فى اللى بعديها
والأجمل الذى اكتفيت بهم..
محمد نجيب وزوجته فاطمة..!
سيدة متعلقة بذراعه.. الذى يحتويها ويمضيان معاً.. صديقان لا يكادان يريان غيرهما.. وسط الزحام والتفاصيل يلمع ذاك الطاووس على كتفها وهى صامتة تماماً لا تتحدث إلا قليلاً هامسة.. هو يفهم.. لا يحتاج للمزيد.. ضاحكاً مستبشراً حدثنى عن بشائر محصوله من المانجو الذى انتظره ثلاثة أعوام « الشجر بشّر بس السنة دى!».
محمد نجيب وفاطمة.. مركز دلنجات.. محافظة البحيرة..
« أنا فلاح ابن فلاح.. بزرع بقالى 20 سنة.. أحلى حاجة فى الفلاحة إنك ملك نفسك.. أما الباقى فمشاكلها كتير خالص! مش شرط تكون مربحة عشان أكمل فيها.. لكنها شغلانة الواحد يعرف يعيش فيها.. رغم الخسارة.. أخسر فى زرعة أعوض فى اللى بعدها.. ممكن أعيش بالدين 4 أو 5 سنين وربنا بيفرجها!».
آتى للمعرض منذ عام 1995 «أتعرف على الجديد كل عام.. لكن المعلن أو الشركة بتدينى المعلومة صايمة..! يعنى يعلن عن منتجه فقط وما يريد أن يعرفنى عليه فقط.. لا إقامة لندوات أو تقرير يشرح أمراض تربة معينة وأنواع أدوية معينة ومستقبل ذلك كله.. ولا خبراء يأتون معنا للحقل للتعرف على مشكلات الأرض الحقيقية ومعالجتها.. كان زمان مركز بحوث الصحراء بيبعت لنا خبراء ومهندسين يدرسوا ويعلمونا ويعرفونا إيه المشكلة اللى ممكن تقابلنا بعدين كمان.. دلوقتى كل واحد لوحده.. أنا برش أرضى وجارى مرشش كأنى معملتش حاجه والأرض تبوظ..! عندى شجر معمر.. يعنى الورقة اللى بتقع منها بتزعلنى..! قبل كدا كنت زارع برتقال.. بزرع الزرعة وأفضل مستنيها تطرح 4 أو 5 سنين..! مش شغل الأرض ناكل منين.. المهم هى تاكل.. إحنا اللى شغالين عندها مش هى.. لازم أديها وقت واهتمام ورعاية وأحبها.. كان أبويا وجدى وكل الفلاحين ميبقاش عندهم أى شغل فى الأرض ويروح لها كل يوم يقعد فيها يشرب شاى ويقعد تحت الشجر طول النهار.. بنحبها ونرتاح فيها.
آه فيه مشاكل ياما بس مش معناها إن الدنيا خربت.. إحنا قلعنا شجر البرتقال مبقاش يجيب مصاريفه.. وبعد سنين وبعد ما صرفنا عليه كتير.. لكن أعمل إيه.. كنت حزين وأنا بقلعه.. وشريكى مقدرش ييجى يشوف المنظر دا.. لكن عشان نشوف الرزق اللى بعده، الدنيا متخربش مهما حصل.. مفيش حاجة فى الدنيا سهلة خالص، كل حاجة صعبة إلا الحب.. الحب أسهل حاجة فى الدنيا! بس إزاى نحافظ عليه؟.. حكايتنا دى موّال تانى.
هى أخت صاحبى ومن أول ما شفتها حبيتها واتجوزتها ومكانش فى جيبى 200 جنيه.. لكنها ضحت بزيادة.. بكل حاجة.. ومن يومها احنا مع بعض علطول بتيجى معايا كل حته.. باخدها معايا دايماً الأرض.. القاهرة.. أى مكان هى مبتخرجش فأنا بخرجها لازم تعرف وتشوف الدنيا وتتحرك.. إحنا أكتر من الأصحاب كمان أقولك بنتى.. أقول إيه». وأمسك بتليفونه ليرينى صورهم فى المعرض العام الماضى وصورهم مع البرتقال والمانجة... تركته وأنا أسأل من أين تأتى الحكمة؟ وكانت إجابته بدون تفكير، من كتر معشنا الحياة وقعدنا طول النهار نفكر فى المشكلة بتيجى الحكمة وبنعرف!.
ذلك الرجل الذى يحلم بأرض جديدة فى الفرافرة يعدها مشروع عمره ويبنى بها بيتاً يجمعه وحبيبته وأولادهما الأربعة.. كان أبلغ وأجمل ماشاهدت فى ذلك النهار.. أهدانى أماناً كبيراً وأملاً للمستقبل.. الزراعة والفلاحين .. الحياة.. الحب.. مصر .. وكل شىء.