الأربعاء 28 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

«مملكة الجبل الأصفر».. خفايا المؤامرة

«مملكة الجبل الأصفر».. خفايا المؤامرة
«مملكة الجبل الأصفر».. خفايا المؤامرة


فى عيد ميلاد ابنته السابع، سافر المواطن الأمريكى «جيرمى هيتون» آلاف الأميال ليرفع على منطقة «بئر طويل»، علمًا أزرق يحمل أربعة نجوم وتاجًا وتلالًا صخرية، ويتوج نفسه ملكًا على «مملكة شمال السودان»، لتصبح ابنته إيميلى «أميرة»، كما تمنت عليه يومًا!، حدث ذلك فى 16 يونيو الماضى، قبل خروج «نادرة ناصيف» المحامية الأمريكية من أصل لبنانى، على هامش مؤتمر عقد فى أوكرانيا 5 سبتمبر الجارى، لتعلن نفسها رئيسة لحكومة «مملكة الجبل الأصفر»، التى تأسست فى «بئر طويل»، مع تغيير العلم ليصبح أخضر اللون، يحمل رمز النخلة مع عبارة «بسم الله الرحمن الرحيم»، دلالة على إسلاميتها!..
سيناريو مخابراتى ساخر، يعيد مسرحية إنشاء الدولة العبرية، ولكن بثقة أكبر، نتيجة لنجاح التجربة السابقة.
الروايات الساترة للمؤامرات تتشابه عادة، فكما قدمت بريطانيا والبارون اليهودى الألمانى موريس دى هيرش مقترحات بتأسيس وطن قومى لليهود فى الأرجنتين أو أوغندا أو فلسطين، إلى تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية 1886، ليقع اختياره على الأخيرة، التى كانت فى الحقيقة اختيارهم الوحيد، فإن «هيتون» بحث عن أرض لا تتبع أى دولة فى العالم!، وانتهى إلى بديلين؛ الأول فى القطب المتجمد الجنوبى، والثانى فى «بئر طويل»، بامتداد الصحراء النوبية شمال السودان، فاختار الثانية، وكانت فى الواقع اختياره الوحيد أيضًا.. ليدخلها رافعًا علم «مملكته»، ويصدر عملة معدنية خاصة، كتب عليها باللغتين العربية والإنجليزية.
اجتماع أوكرانيا
حاولت سبر أغوار مؤتمر أوكرانيا، الذى نفى وجوده جُل المحللين السياسيين، فوجدته حدث بالفعل.. لكنه اجتماع متواضع عقد فى فندق لوندنسكيا الشهير بمدينة «أوديسا» الساحلية جنوب أوكرانيا، تحت عنوان «تفاقم أوضاع اللاجئين والمهاجرين وعديمى الجنسية فى العالم، وسبل حل المشكلة»، شارك فيه ممثلون عن الحكومة الأوكرانية ومكتب الأمم المتحدة، وسفارتى الاتحاد الأوروبى والفاتيكان ومنظمة الأمن والتعاون، وعدد من ممثلى السفارات المعتمدة فى العاصمة كييف، نظمه كيان مجهول يحمل اسم «منظمة الدرع العالمية لحماية حقوق وحرية المواطن».. يرأسها صالح محمد ظاهر.. بحثت عنه وتأكدت من عضويته بالاتحاد العام للصحفيين والكتاب الفلسطينيين فرع سوريا، ما يؤكد أصله الفلسطينى.. يحمل مؤهلًا قانونيًا.. يشغل عدة مناصب استشارية بالداخلية والنيابة العامة الأوكرانية، ما يؤكد حصوله على الجنسية، إضافة للإقامة الدائمة.. وهو مؤسس للعديد من الكيانات الدولية الوهمية مثل: اتحاد الصحفيين والكتاب الدولى «jujw» جمعية وجريدة السلام، وكالة أنباء صوت العالم.. كما أنه ممثل للجالية العربية فى أوكرانيا، وحاصل على عدد من الأوسمة وجوائز التقدير من الحكومة.
الغريب أن صالح زار مصر فى نوفمبر 2018، وكان فى استقباله أحمد الفضالى رئيس الاتحاد العام لجمعيات الشبان المسلمين، بصفته حاملًا للقب «سفير الأمم المتحدة لمواجهة الجوع»، وقد صحبه فى زيارة مجاملة لفضيلة الدكتور شوقى علام مفتى الديار المصرية.
فى كلمته خلال اجتماع أوديسا دعى صالح مجلس الأمن لتطبيق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لسنة 1948 الخاص بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى «ديارهم»، وأبدى اهتمامًا باللاجئين من سوريا والعراق، ولم يذكر شيئًا عن «المملكة المزعومة»، ولا عن توطين اللاجئين بأماكن بديلة لديارهم، والحقيقة أننى شعرت للوهلة الأولى أننا بصدد نشاط غامض، لشخصيات كرتونية، تتستر خلفها أنشطة مخابراتية تعرف كيف توزع الأدوار، وتدير المؤامرات، وأن ما يحدث أمامنا فى الظاهر مجرد بالون اختبار، لعمل أعد له جيدًا، وفى انتظار الحصول على إشارة البدء لتتحرك المنظومة فى الموعد الذى حددته رئيسة الحكومة بداية 2020.
من وراء تأسيس «المملكة»؟!
بعض التحليلات جنحت إلى وجود علاقة بين نشأة «المملكة» والسعودية، مستندين إلى عاملين:
الأول أن الدكتور عبد الإله اليحيا مستشار الشئون الجيوسياسية لحكومة «المملكة المزعومة» سعودى الجنسية، شارك فى وضع خطة تجنيس اللاجئين والمهاجرين العرب والمسلمين، والتى تستهدف الوصول بعدد السكان إلى 21 مليون نسمة بنهاية 2040، وهو الذى أكد أن «المملكة» تحظى بدعم دولى وعربى وآسيوى كبير، لما تحمله من أهداف تنهى أزمة اللاجئين التى تعانى منها أوروبا وأمريكا وكندا والشرق الأوسط.. والثانى أن «جامعة الشعوب العربية» التى يرأسها رجل الأعمال السعودى يوسف الراجحى، تعتبر أحد مصادر دعم «المملكة»، وأن اللواء عصام الشافعى أمين عام الجامعة -لا تربطها أية علاقة بالجامعة العربية- شارك فى الإعلان عن تأسيسها، والحقيقة أن تلك ليست قرائن يمكن الاعتداد بها، لأنها مواقف وارتباطات شخصية، لاعلاقة لها بجنسية صاحبها الأصلية، خاصة أن علاقات الرياض بالقاهرة والخرطوم على المستوى الاستراتيجى، لا يمكن أن تسمح بمجرد التفكير فى وجود مثل هذا الدور، ونتجاهل أن «ناصيف» رئيسة حكومة «المملكة»، كانت تلقى بيان التأسيس ومن خلفها أعلام الولايات المتحدة وكندا وأوكرانيا، مما يؤكد اضطلاعهم بالدور الرئيسى فى الدعم، وهو ما يؤكد أن سلاح المهندسين الأمريكى بدأ فى وضع خريطة طبوغرافية لمنطقة «بئر طويل» منذ 1960، ما يعكس أهميتها الاستراتيجية.
مقترحات غير مقبولة
بعض الأصدقاء من الكتّاب والمفكرين قللوا من أهمية الحدث، استنادًا إلى أنه ينبغى أن تتوافر اشتراطات رئيسية لإنشاء دولة، أولها وجود شعب دائم يسكن المنطقة، والحصول على اعتراف الدول المجاورة، وترسيم حدودها معها، وتشكيل حكومة تمتلك صلاحية توقيع الاتفاقات والمعاهدات، وإدارة علاقاتها الدولية.. والحقيقة أن ذلك غير صحيح، فعصابات الهاجاناة أسست دولة إسرائيل، ولديها حكومة تمتلك كل الصلاحيات للتعامل الدولى، على أرض يسكنها شعب فلسطين، رغم أنها لم تحصل على اعتراف جيرانها ولم ترسّم حدودها، وفرضت كيانها كحقيقة قائمة، لا يملك الجميع سوى التواؤم مع وجوده.. فكيف لنا أن نستهين بـ«المملكة» المزعومة، والغرب الذى دعم عصابات الهاجاناة، يقف الآن خلفها؟!
البعض الآخر يرى أن خطورة إعلان المملكة يفرض سد الثغرات التى نشأت نتيجة لاستمرار مشكلة حلايب، لذلك اقترحوا المبادرة بقبول الدعوة إلى التحكيم!.. والحقيقة أن هذا الاقتراح جانبه الصواب، فأرضنا ليست موضوعًا للتحكيم الدولى، والقياس على اللجوء للتحكيم فى مشكلة «طابا» يتصف بالفساد، لأن طابا كانت أرضًا محتلة ضمن شبه جزيرة سيناء، حررنا الضفة الشرقية للقناة منها بالحرب، وباقى سيناء بالمفاوضات الدبلوماسية، ولم تبق سوى طابا، التى تمسكت إسرائيل بتسويتها من خلال التحكيم.. راهنوا على رفضنا له، ففوتنا عليهم الفرصة، وقبلنا التحدى، واعتبرناها معركة وطنية تستكمل ما تم إنجازه بالحرب والمفاوضات السياسية، واسترددنا أرضنا.. هذه حالة فريدة، فى ظروفها وملابساتها، غير قابلة للتكرار.
المؤامرة
لست ممن يطرحون الزعم بالمؤامرة على عواهنه، لكن توقيت إثارة موضوع «المملكة» لا يدع مجالًا لنفى الفكرة، فهى تأتى أولًا فى أعقاب التوصل لاتفاق بين المجلس العسكرى الانتقالى وقوى إعلان الحرية والتغيير فى السودان، ما يمكن أن نفسره بمحاولة إعادة تفجير الموقف بالسودان من ناحية، وإثارة أزمة فى علاقته بمصر، الداعمة للنظام الجديد من ناحية أخرى.. وتتم ثانيًا بعد نجاح العملية الشاملة «سيناء 2018» فى إفشال خطة تحويل سيناء إلى وطن لتجميع قرابة 30 ألفًا من إرهابى العالم.. وثالثًا ظهور بشائر انتصار الجيش الوطنى الليبى فى معركته ضد ميليشيات السراج المدعومة من تركيا وقطر فى طرابلس، والتى ستمنع اتخاذ ليبيا كموقع بديل لتموضع الإرهابيين بعد انتهاء الحرب السورية.. ورابعًا إمكانية توظيف «المملكة» لاستقبال من يتم ترحيلهم من المهاجرين غير الشرعيين فى أوروبا حال رفض عودتهم لبلادهم.. ولا يمكن أن نغفل خامسًا أن أحد مرتكزات خطة كوشنر «صفقة القرن» هو إيجاد موضع لاستيعاب اللاجئين الفلسطينيين، حتى يتسنى تصفية القضية، كان التعويل على شمال شرق سيناء، لكنها استُبعدت لتمسك مصر بكل ذرة من ترابها، فلماذا نستبعد «المملكة» المزعومة كموطن بديل للفلسطينيين، وقاعدة لتمركز فلول التنظيمات الإرهابية، استعدادًا لمناكفات جديدة ضد مصر، ودول الشمال الأفريقى؟!
المواجهة
الثغرة التى يمكن النفاذ منها لإنجاح مؤامرة «المملكة» المزعومة هو الخلافات المصرية السودانية، الحدود السياسية لمصر مرسّمة بمقتضى اتفاق 1899، ومطابقة لخط عرض 22° شمالا، مما يضع مثلث حلايب داخلها، وبئر طويل خارجها، اتفاقية الحدود الإدارية 1902 سمحت للسودان بالتواصل مع قبائل حلايب، نظرًا لعلاقات القربى التى تربط بعضهم بالقبائل السودانية.. مسألة بسيطة، شديدة الوضوح، تحولت إلى خلافات بإيعاز من التنظيم الدولى للإخوان.. مصر ينبغى أن تنسق مع السودان لتأمين «بئر طويل» وإحباط المؤامرة التى تهدد أمنهما القومى، مراعاة الظروف السياسية الراهنة للسودان، قد يفرض تحمل مصر عبء التدخل، استنادًا إلى ما ترتبه اتفاقية 1902 من وضع منطقة «بئر الطويل» تحت إدارتها، باعتبارها منطقة رعى لقبيلة العبابدة المصرية، وهو يقابل التسهيلات المصرية الممنوحة للسودان، فى إطار علاقات الجيرة والود، وعلى رأسها السماح بوجود تشكيل رمزى بحلايب.
الأهم من كشف أبعاد المؤامرة، المبادرة بإجهاضها، وألا نتأخر، حتى لا تفرض واقعًا جديدًا، تُرى.. هل وصلت الرسالة؟!.