الإثنين 12 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أبى.. فلاح متعلم فى لوحات الخير

أبى.. فلاح متعلم فى لوحات الخير
أبى.. فلاح متعلم فى لوحات الخير



الفلاح والأرض والزراعة.. ثلاثية صنعت الحضارة المصرية من أول التاريخ .. أساسها النيل «حابى» جالب الخير والعطاء.. ونحن أبناء الفلاحين.. نعتز بأن مصر تتحدث عن نفسها بهذا الفيض مما قدمه الفلاح من كد ودأب وكفاح بطول الوادى واتساع الدلتا.

هو معلم  البشرية.. علمته الزراعة الحكمة.. من تأمل مواقيت الليل والنهار والشروق والغروب وتتبع الحبة التى تشق الأرض «تستقبل النور حتى تعطى بسخاء».. ومواعيد السقى والرى والجنى والجمع والحصاد.. والتخزين فى أوعية وأوانٍ وصوامع تتنفس من طين الأرض.
يعيش الفلاح مع إخلاصه فى العمل.. متوكلا مؤمنا بما تحمله الأقدار ومن هنا كان المثل الشعبى بتعبيره دواء ووقاء من  كل حدث.. يجد فيه العزاء وإن اختلف وتناقض مع غيره كما فى «المؤمن منصاب» و«النار ماتحرقشى كف مؤمن».. إنها الخبرة بالحياة والتفاعل مع الواقع الذى يشارك فى صنعه. والفلاح هذا البطل الأسطورى بساعده وفأسه حقق ملحمة طويلة ومتصلة بالعمل والأمل..  فاضت بقيم المودة والحب.. وصور الخير والإيثار وصوانى الطعام فى الفرج والشدة.. فى الأفراح والأحزان.. وهو  الموال «ياليل ياعين»، وجماليات الفن الشعبى التلقائى  وملاحم العشاق «ياسين وبهية» و«حسن ونعيمة».. وبطل أحداث العديد من الأعمال الأدبية.. من الرومانسية فى «زينب» هيكل وعند محمد عبد الحليم عبد الله كما فى  «بعد الغروب» و«غصن الزيتون» و«الجنة العذراء» إلى الواقعية والرمزية وعظمتها فى «نداهة» يوسف إدريس و«الحرام» و«حادثة شرف».. و«فلاح» عبد الرحمن الشرقاوى و«الأرض».
يعد بساعده  النبع الأساسى للغذاء: من سلال الخضر والفاكهة والدجاج والبيض والخبز.. وجرار اللبن والعسل وقدور السمن والزبد والجبن.
وإذا كان قد صنع الحضارة المصرية.. فهو الأساس فى صناعة الأجيال فى العلم والفن والثقافة.. ومن أبناء الفلاحين: علماء وأطباء ومهندسون وأدباء ووزراء.. ممن رفعوا اسم مصر عاليًا وحققوا الأمجاد وشاركوا فى أحداث التاريخ.
حكمة أول فلاح
وإذا كان الواقع من الزرع والضرع والشجر والثمر.. ومعرفة الفلاح  بسر  الأرض قد جعلت منه حكيمًا يمتلك القول والفصل.. فتعد «شكاوى الفلاح الفصيح» قطعة أدبية مفعمة بالمعانى والعبرتشتمل على 9شكاوى «موسوعة مصر القديمة للدكتور سليم حسن».. كتبها فلاح مصرى أصيل، ويرجع تاريخها إلى عام 2000 قبل الميلاد «..يبث فيها شكواه إلى المدير الكبير الذى يرفعها إلى فرعون شكوى تلو أخرى.. لكن لا يستجاب لشكواه فى البداية ليس تجاهلا ولكن إعجابًا بفصاحته حتى يستمر فى شكاويه.. ويحكى خلالها معاناته مع الموظف الفاسد الذى سلب ممتلكاته.. ويُطالب بإقامة العدل ويصف فيها الحاكم الكبير بالميزان والفيضان وحارس العدالة.. وقد أعجب الفرعون بفصاحته وأمر أن ترد له ممتلكاته وأن يصادر بيت الموظف لتجاوزه حدوده معه..  ومن بين ما قال الفلاح : «أقم العدل لرب العدل والذى عدل عدالته موجودة.. وأنت أيها القلم وأنت أيتها البردية وأنت أيتها الدواة وياتحوت (إله الحكمة والكتابة) ابتعدوا عن عمل السوء».
«الفلاحون» للأب هنرى
وفى العصر الحديث يعد الأب هنرى عيروط اليسوعى المصرى «1907 – 1969» أول من نبه إلى الفلاح فى كتابه «الفلاحون» وقد قضى أكثر من 15 عامًا بفرنسا حتى حصل على الدكتوراه فى علم الاجتماع من جامعة ليون الفرنسية وتم نشر رسالته بباريس عام 1938 بهذا العنوان..  عن حياة الفلاح المصرى ومعاناته فى ذلك الوقت، وتُعتبر أول دراسة علمية عن الفلاح والزراعة المصرية.
وقد ترجمت إلى العربية فى طبعتها الأولى عام 1942.. ترجمها الدكتور محمد غلاب أستاذ الفلسفة بجامعة الأزهر والكتاب ترجم إلى الإنجليزية والروسية ولغات أخرى أيضًا.
يقول د.غلاب:«ليس هناك كتاب بين المؤلفات التى عنينا بترجمتها حتى الآن.. من منتجات صفوة المؤلفين بدى لنا عظيم الفائدة جليل النفع.. وجلب إلى أنفسنا كثيرًا من اللذة العقلية على النحو الذى أحسسنا به عند ترجمتنا لكتاب «الفلاحون» هذا السفر القيم الذى خصصه مؤلفه.. لتصوير تلك الناحية التى لا تزال مجهولة من مصرنا العزيزة لتصوير حياة الفلاح ذلك الإنسان..الذى نحن مدينون له بعد النيل بهذه الحقول الخصبة الباسمة التى هى منذ أقدم العصور.. إلهام  افتتان الشعراء واستحسان الكتّاب وإعجاب المؤرخين».
والكتاب يتناول الحياة الاجتماعية للفلاح المصرى بكل تفاصيلها ما يأكل وما يلبس والتقاليد الريفية ومنزل الفلاح وارتباطه بما يملك من ماشية وعمل الفلاح ومزروعاته ويُعتبر رائدًا فى زمنه.. نبه إلى عصب الحياة فى مصر.. وعمودها الفقرى.. وأيضًا ما كان يعانى منه فى الماضى.
فلاح متعلم
أنجبت جدتى لأبى عشرة من الأبناء والبنات رحلوا جميعًا قبل السبوع.. كان هذا قبل اكتشاف الـ«ار- إتش»..  وبعد صبر ومخاض رزق الله جدى «وكان فلاحًا أصيلا» بعمتى.. وأبى سماه جدى «البيومى» تيمنا بشيخ الطريقة البيومية «سيدى على نور الدين البيومى».. ونشأ على الحزم والحب والشدة واللين.. وأشفق عليه من متاعب الفلاحة، فعكف على تعليمه مثلما علم شقيقته «عمتى».
كان أبى مدرس اللغة العربية ومحررًا محليًا «مندوبًا لمحافظة المنوفية» بصحيفة المساء من بداية تأسيسها عام 1956 برئاسة تحرير خالد محيى الدين.. إلا أنه لم يتخل عن الفلاحة، فكان دائم التردد على الأفدنة القليلة التى كان يفلحها ابن عمته بنظام المشاركة.. وكان فلاحًا عبقريًا خبيرًا بالزراعة ربما تتجاوز ثقافته البديهية وحكمته بفعل التجربة الأساتذة الكبار فى كليات الزراعة هذا بشهادة ابنه أستاذ أمراض النبات بكلية زراعة الإسكندرية «رحمهم الله جميعًا» والذى كان يقول: «التجربة..  وخبرة الحياة.. أبى صاحب تجربة كبيرة تعتمد على الملاحظة الجيدة وتأمل الطبيعة ومتغيرات الطقس فى الفصول».
كان جدى يصحبنى معه وأنا دون  الخامسة من عمرى..  إلى الحقل صيفًا وشتاء «يلفنى فى عباءته»..  وأكمل أبى معى تلك الرحلة.. ومن هنا تعلقت بهذا المجتمع.. مجتمع الفلاحين الذى أنتمى إليه.. متأملا كل مفردات القرية والزراعة من الحيوانات والطيور خاصة الحمار الذى كتب أسطورته توفيق الحكيم والشاعر الإسبانى خوان رامون خمينيز صاحب «بلاتيرو وأنا».. تأكيدًا على ذكائه رغم ما يقال حوله.. نشاهده  يطلقه صاحبه من الحقل  محملا..  ليعود وحده إلى المنزل.
فى مواسم الغلال «القمح والذرة» عندما يأتينا نصيبنا منها فى أكوام نعدها للتخزين تفرح جدتى وتقول مع سعادتها بهذا الخير الوفير «ربنا ما يحوج فارنا لجارنا» كنت أندهش من هذا المثل وأقول : ربما يقضى عليها.. فترد بثقة : «يأكل إيه ولا إيه.. الخير كتير يسد عين الشمس !».
الفلاح و فلسفة الوفرة
كان الفنان الفيلسوف حامد سعيد»1908 – 2006«رائد مدرسة الفن والحياة..  يلتقى بالفلاحين بـ «كفر الشرفا من ضاحية المرج  ببيته حيث عاش بينهم» بيت الفن والحياة، وهو أول بيت بناه المهندس حسن فتحى لصديقه حامد عام 1942 قبل قرية «القرنة» بأربع سنوات وكانت علاقة سعيد بالفلاحين جيرانه هناك علاقة مودة.. يأتون إليه فى المساء وينساب الحديث.
ذات مرة قال لهم: أتدرون كيف قضى الصينيون على العصافير.. وجاء رده: بالمقلاع والضجيج عن طريق الطرق على الصفيح.. وكانت دهشتهم وتعليقهم بأسى شديد: وليه يابيه يقضوا على العصافير.. دول بيأكلوا معانا !!.
 وهنا كان تعليق سعيد البليغ: وهذا هو ما يجسد فلسفة مجتمع الوفرة الذى شكل حضارة مصر!.
إنها حضارة مصر والفلاح التى علمت العالم.. تذكرت المثل الذى قالته جدتى من قبل!.
الفلاحة أيقونة الريف
وقد تألق الفن المصرى فى التصوير والنحت وكان سباقًا فى الاعتراف بقيمة الزراعة فى حياة المصريين والاحتفاء بالأرض.. والفلاح البطل الحقيقى فى عشرات الأعمال التى تمتد من التصاوير والرسوم  إلى المجسمات النحتية من مواقيت الرى ومواسم الجنى والحصاد.. كما غنى لتفتح النوار وتوحد السواعد وانتظام الصفوف فى العمل مع الأمل من إشراقة الصبح وتساقط الندى إلى الليالى القمرية التى تتوهج بالذهب الأصفر فى سنابل القمح وتشهق بالأبيض فى لوزات القطن.
وجاءت أعمال مثال مصر مختار أغنية طويلة جسدت «الفلاحة» أيقونة الريف وأول امرأة مصرية عاملة وهى الزوجة والشريك للفلاح كما فى منحوتاته «القيلولة» و«العودة من السوق» و«العودة من النهر» و«كاتمة الأسرار» و«حاملة الجرة» و«الخماسين» التى صور فيها مقاومة الرياح العاتية فى رمزية للجلد والصمود.. وجاء الفلاح فى «حارس الحقول» عملاقًا فارهًا يعكس لقوة الإنسان وارتباطه بالأرض والذى يظل ساهرًا من أجل ماتجود به من غلال وزروع وثمار.
 وربما كانت لوحة «الشادوف - 1934 «لمحمود سعيد» من بين الأعمال التى تشدو خلفيتها بسحر الطبيعة المصرية وتعدد عناصرها من النيل والجبل والنخيل والسهول وحاملات الجرار وهى ملحمة تصور فلاحين يضخون مياه الرى. ولقيمتها التعبيرية وقيمة سعيد بيعت بمبلغ مليونى دولار منتصف عام 2010 وهو أكبر ثمن يدفع فى لوحة لفنان من الشرق الأوسط.
 ويضج «الحقل» بحركة الحياة فى لوحة الرائد راغب عياد بنفس الاسم 1956.. لوحة رأسية تحتشد بالعمل فى صور من الأنشطة العديدة الدائبة وهى زاخرة بالشخوص والحيوانات.. وله أيضًا لوحة المحراث تنتمى لفن الرسم يتوحد فيها الفلاح عاكفا على الحرث مع زوجى الثيران والمحراث يشق الأرض.
وقد اختار الرائد يوسف كامل بأن يقيم مرسمه بضاحية عين شمس وسط أصدقائه من الفلاحين وقت أن كانت منطقة زراعية فصور مع النور والبهاء  الفلاحين والفلاحات ومن بين لوحاته فى هذا الاتجاه صورة شخصية لفلاح..  وفى لوحته «نحو الحقل» تتأكد تلك الصيغة من ارتباط الفلاح بالأرض وهو متجه مع أفراد أسرته وحيوانات الريف إلى دنيا الأمل والعمل.
وتظل أعمال حامد عويس رائد الواقعية الاجتماعية حول مجتمع الفلاحين بمثابة المعنى الحقيقى للروح والصورة والشكل والمعنى للفلاح المصرى كما فى «حوار» لثلاثة فلاحين جالسين، و«القيلولة» لثلاثة آخرين فى إغفاءة فترة الراحة من العمل.
الفلاح الفيلسوف
 وقد توهجت لوحة حسن سليمان «النورج - 1963» بتلك الثنائية الشاعرية من النور والعتمة والشروق والمغيب مع المسطحات اللونية خاصة الحلقة الدائرية والتى تمثل جرن القمح وفى تلخيص واختزال شديد ومن فرط الضوء الأبيض تشع اللوحة بتنوع السطوح الأفقية متمثلة فى انبساط الأرض واتصالها بالأفق وفى تحليله للحيوان المتمثل فى زوج الثيران واللذين يجران النورج.. اتجه إلى الأسلوب التكعيبى حتى يتناغم مع الهندسيات فى الخلفية.
ويشترك معه الفنان عمر النجدى فى لوحة للنورج لكن تختلف فى التكوين والإيقاع مع تنوع وثراء التفاصيل فى غنائية تعبيرية مصورًا الفلاح وزوجته..  وحركة المواشى فى ألوان دافئة يغلب عليها منظومات لونية من الأحمر والبرتقالى والأصفر.
وينقلنا مصطفى أحمد إلى دنيا من السحر الكونى فى لوحته «العمل فى الحقل» والمسكونة بخمسة شخوص نحيلة يرفعون الفئوس وتتكاثف السحب فى الأفق الذى يتصل بالأرض فى وحدة واحدة رغم التباين اللونى من الداكن فى الأرض إلى المضىء فى السماء.. وله أيضا صورة شخصية لفلاح يحمل فأسه بملامح القوة والصلابة وكأنه يتحدى الزمن فى صراعه مع الحياة من أجل الخير.
 وتتألق مواسم الجنى والحصاد كما فى لوحة محمد لبيب الغنية بحركة الفلاحين مع الذهب الأبيض فى إيقاع فنتازى يموج بالأبيض البرىء والبنفسجى والأزرق والأحمر البرتقالى.
أما منحوتة «فلاح بعباءة» لأحمد عبد الوهاب والتى شكلها فى سطوح هندسية فنطالع فيها صورة لعمق الشخصية المصرية المسكونة بالأسرار.. كما يعكس المثال الغول على أحمد صورة للفلاح الفيلسوف فى تشكيلة «الفلاح المفكر» والذى يجلس رافعًا رأسه متأملا فى الفراغ.
ومن جيل الشباب لفت الفنان أحمد صابر الأنظار بأعماله المسكونة بروح سيريالية وله عمل ينتمى للتجهيز فى الفراغ يشغل حيزًا ثلاثى الأبعاد..  وهو عبارة عن ثلاثية من «الفلاحين» والجاموسة والسمكة بالإضافة إلى تلك المنحوتات الصغيرة للحيوانات الأليفة والتى تبرز من السطوح.
وله لوحة «الجاموسة» تؤكد ارتباط الفلاح بحيوانات القرية وهى ساعده مع قوته البدنية.. صورها فى مقدمة اللوحة مع جموع الفلاحين فى الخلفية.
تلك كانت رحلة مع الفلاحين من أهالينا.. وبعض الأعمال الفنية التى غنت للحياة فى الريف من أجل العطاء والنماء وجلب الخير.. وهى من بين صور عديدة تحقيقًا لمعنى مجتمع الوفرة.. مجتمع الفلاح الذى شكل الحضارة المصرية.. والذى نحتفل بعيده هذا الشهر.