الأحد 17 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

البحث عن الفلاح الحقيقى

البحث عن الفلاح الحقيقى
البحث عن الفلاح الحقيقى


كتب: أحمد الخميسي
 ليوسف إدريس قصة جميلة اسمها «أمنية» عن فلاح بسيط تمنّى طوال عمره لو استطاع أن يتحدث فى التليفون الملحق بدوّار العُمدة، لكن التليفون فى حُجرة خاصة وعليه حراسة. لكنه ذات يوم يجد الحُجرة من دون خفر، فيدخلها ويجلس أمام التليفون المثبت فى الحائط، ويضع السماعة على أذنه، ويسمع من الناحية الأخرى صوتًا خشنًا: «أيوه يا ميت غنيم.. فيه إيه؟ ردوا». يندهش ولا يجد ما يقوله سوى: «آلو.. آلو  يامركز». فيجيئه الصوت: «أيوه يا ميت غنيم.. اتكلموا»، فيقول: «أيوه.. آلو يا مركز»! فيهتف الصوت بغيظ: «يا محروقة يا ميت غنيم.. ردوا»، فيقول بفرح: «يلعن.. يلعن أبوك يا مركز»! ويرمى السماعة بقوة ويندفع خارجا هاربا كالريح.


وما بين تلك الأمنية، وأمنيات أخرى «تماثيل رخام على الترعة وأوبرا» كما عبّر عنها صلاح جاهين، ما بين هذا وذاك قطع الأدب المصرى رحلة ليقدم لنا الفلاح المصرى على حقيقته، بهمومه، وأوجاعه، وعلاقته بالأرض عماد حياته.
ظهر الفلاحون بداية فى روايات غير ناضجة فنيّا مثل «الفتى الريفى»، و«الفتاة الريفية» لمحمود خيرت ما بين 1903 و1905م، وفيها قدّم لنا المؤلف شخصية الفلاح فى ثوب ملائكى، وصَوّر حياته الشاقة على أنها نعيم، على طريقة «محلاها عيشة الفلاح».
ثم ظهر د. محمد حسين هيكل وروايته «زينب» 1914م، التى عُدت باكورة الإبداع الروائى المصرى،  وفيها ظهر مجددًا أولئك الفلاحون السعداء، الذين لا يشكون من شىء، والذين اعتادوا العبودّية حتى إن «د.هيكل» يصفهم بقوله: «لقد تعوّدوا ذلك الرّق الدائم.. تعودوه من يوم مولدهم فانتقل إليهم بالوراثة والوسط، ينحنون لسُلطانه من غير شكوى ومن غير أن يدخل إلى نفوسهم قلق»!
يوميات فى الأرياف
أمّا الفلاح الحقيقى،  فأخذ يدخل إلى الأدب على يد توفيق الحكيم عام 1937م مع صدور «يوميات نائب فى الأرياف». وإذا كان هيكل قد تَغنى بـ«الليل المقمر ونسيمه العذب»، فإن سماء الفلاحين تكتسب عند توفيق الحكيم لون الطين وفضلات البهائم، وبينما يتحدث هيكل عن «موسيقى الصيف فى ليله البديع» فإن الحكيم لا يسمع سوى الأصوات الحقيقية للقرى التعسة حينذاك: «خوار الجاموس ونبح الكلاب ونهيق الحمير ونحيب السواقى والشواديف والكباسات وأصوات بعض الأعيرة النارية».
يصبح الفلاحون عند توفيق الحكيم مشهدًا واقعيّا لاذعًا ومريرًا، لكنهم يظلون فى إطار «المشهد» فى الحالتين: رومانسى عند هيكل أو واقعيّا عند الحكيم. ولا يظهرون بصفتهم قوة حية فاعلة قادرة على تغيير الواقع، فهم عند هيكل: «تعوّدوا ذلك الرّق الدائم»، وهم عند الحكيم: «لا يمكن أن يركن إلى مداركهم فى حُكم أو تمييز».
الشرقاوى وإدريس
لكن الفلاح المصرى بكل أبعاده الإنسانية والفكرية وبقدرته على تغيير الواقع يدخل إلى الأدب بقوة على يدى عبدالرحمن الشرقاوى، ويوسف إدريس، وهى مصادفة عجيبة أن تصدر رواية الشرقاوى «الأرض»، ومجموعة إدريس الأولى «أرخص ليالى» فى السنة نفسها، أى 1954م. 
إن القرية الساكنة التى عرَضها لنا هيكل، والحكيم، والفلاحين الذين اعتادوا العبودية أو لا تسعفهم مداركهم للفهم، كل أولئك ينقلب إلى الضد ويختلف تمامًا عند عبدالرحمن الشرقاوى، إذ تكتسب القرية حياة حقيقية، ويدخلها الفلاحون منتفضين بأشواقهم وبقدراتهم على الدفاع عن حقهم، وهم يسترجعون ليس تاريخ الخضوع والعبودية بل تاريخ الثورات والهبات الشعبية، تاريخ مساهمتهم فى ثورة 19، إنهم فلاحون يتعلمون فى خضم الصراع أن كتابة الشكاوَى والعرائض لن تفيد، فنرى من بينهم عبدالهادى ووصيفة عاشقين ثائرين، وينطق الفلاحون المصريون كلهم على لسان «محمد أبو سويلم» حين يقول: «ما كفاية عرايض بقى .. آدى إحنا جربناها..عاوزين نشوف سكة تانية!
قرية تناغى فيها الأمهات الأطفال بأغنية: «فاطمة مراتى.. قاعدة تدادى.. يحيا الأوطان»، فلاحون يندفع من بينهم عبدالهادى: وقد   تفجرت من أعماقه طاقة هائلة ينتفض بها بدنه.. طاقة تمكنه من أن يكسر الحديد على رأس العمدة والحكومة».
وإلى جانب الشرقاوى لمعت عبقرية يوسف إدريس الذى عزف عليه  الفلاحون وفقراء المدن أشجانهم وأحلامهم، فقدّم لنا روائعه «الحرام» و«العيب» وعشرات القصص المدهشة التى حفلت بنماذج حية لا تتكرر وبانوراما من شخصيات الريف المصرى، وعندما انتزع الموت يوسف إدريس جمع الفلاحون حكاياتهم ومواويلهم وغادروا المكان، ولم يعد يلوح منهم بعد ذلك سوى أطياف تهرول شاحبة على جسر الأدب.
أيام الإنسان السبعة
وظهرت بعد ذلك أجيال جديدة من الأدباء تبنت  قضايا الفلاحين فى الأدب، مثل عبدالحكيم قاسم القضية فى روايته «أيام الإنسان السبعة» 1969م، حين تناول القرية والفلاحين لكن من دون تحديات خارجية عاصفة، فكشف لنا من خلال وعى الشخصية الرئيسية عبدالعزيز عن التحولات التى جرت بهدوء من غير هزات قوية.
وظهرت روايات محمد البساطى «الجوع» وغيرها من الأعمال التى تشير إلى أن الفلاح انتقل فى الأدب من حصار النظرة الرومانسية إلى عالم الواقع، وأنه من دون شك سيبلغ ما تمناه له الشعراء بأن يصبح ذات يوم فيرى «تماثيل رخام على الترعة وأوبرا» فى كل قرية مصرية.