«مخلوقات خيالية.. تحيا للرقص»

صباح الخير
الآن، وبعد مرور ٦٠ سنة من الباليه فى مصر، و١٥٠ سنة للأوبرا وكل فنونها فى مصر.. أين نحن؟
الزمان صيف ٢٠١٩.. المكان دار الأوبرا المصرية.. صالة التدريبات.. فريق باليه أوبرا القاهرة.. إيقاعات منضبطة متكررة .. والجميع ينظر بجدية.. يستمع وينفذ.. جلست بجوار أحد البارات أتأمل الراقصات والراقصين.. وذهبت معهم فى اندماجهم مع الإيقاع.
يَعُد ساشا مدرب الرقص، ويكرر العد، ويغير الأوضاع.. وهو بردائه الكلاسيكى وحذائه الضخم يشبه المخلوقات الخيالية.
تظن للحظة أن هؤلاء البشر ليسوا عاديين وليست لديهم أى حياة حقيقية خارج إطار الحركات المنتظمة.. الدوران والقفز والتحرك على أطراف الأصابع.. كأنهم أجسام من ورق.. أو من خشب تحركها خيوط لا نراها.. أو كأنهم كائنات من ضوء.. لا يمكن لمسها.. كل هذا تضفيه الروح.. وأحاديثها التى تسكت أصواتهم عمرًا كاملًا.. تجعلهم فقط يستمعون.. ينصتون طويلًا ويعبرون بالجسد.. تمارين متواصلة وبالغة العناء.. ألم وما بعد الألم.. الفناء.. التلاشى وراء الشعور الجسدى لما يكمن وراءه من شعور روحانى.. يتجاهل كل منهم ألمه ويدرب نفسه على ذلك التجاهل حتى يظهر بصورة أثيرية حالمة تكاد تشفى من به ألم.. كيف تعبر الروح عن أحاديثها بالمادة والمادة فقط.. شكلها وتكويناتها توحى بما هو أبعد وأصدق..!
العجيب أن أولئك الراقصين بعدما ينتهى التدريب أو الرقص ربما يفقدون تلك القداسة تمامًا.. فلا تكاد تفرقهم عن غيرهم من الناس.. يتحدثون وينفعلون كالجميع.. وفى أحيان هم أكثر شراسة وعصبية.. فحياتهم بالغة القسوة ليس فقط لطبيعة التدريبات المستمرة والمرهقة، بل لطبيعة العمل والطموح ولعب أدوار البطولة.. فكيف يُكسَب الحظ؟!
.. لا أحد يعرف.. محض مصادفة تجعل من راقص بطلًا أبدًا وآخر فى أدوار مساعدة دائمًا وكما بالحياة ليس الجميع أبطالا.. ليست الكفاءة فقط، بل هناك دور قدرى بالحياة عموما ويتجلى فى مجموعة محددة من الراقصين الذين يمثلون ويلعبون أدوار البشر فى الحياة..!
وبالعودة إلى فرقة الباليه المصرية.. لا أكاد أرى طابعًا مصريّا ما.. الملامح تنبئ عن خليط من بلدان عدة.. ربما فقط «البنين مصريين»..
أين البنات خريجات المعهد؟ أين نتاج كل تلك السنوات منذ أنشئ المعهد بالستينيات..؟ ثلاثة ربما بالفرقة كلها..!
سحر هلالى..
باليرينا أولى وأستاذة بمعهد الباليه.. تقدم برنامج فن الباليه منذ عام ٢٠٠٩.. ولها كتاباتها المتخصصة فى الرقص مثل كتاب عصر ما بعد الحداثة والرقص الشرقى المصرى بين الماضى والمستقبل.. وغيرها.. صممت وأخرجت عرض «رابعة العدوية» وعرض «ترنيمة».. ولعبت أدوار البطولة فى رقصات مثل لوركيانا.. بالرغم من كل شىء.. أوديسيوس.. وتانجو وغيرها.
المدهش أنها سيدة تجاوزت الخمسين ومازالت لها القدرة على الرقص بكفاءة شابة.. وتحمل بداخلها حماسًا كبيرًا.. ومشاعر متدفقة تجاه كل ما تقوم به.
ويتردد داخلى سؤال بعد آخر: أين الفتيات الدارسات بالمعهد؟ ما الذى يقدمه معهد الباليه لمصر من فنانين؟ أين تكمن المشكلة؟ وكيف غفل عنها الجميع طوال هذه السنوات؟!
كيف تعبر فرقتنا عن هوية وطنية فى الرقص إذا كانت الفرقة لا تجمعها أية هوية..؟! وكيف يمكن تراكم البناء المعرفى والجمالى لأسلوب الفرقة لتتحلى بصفات تميزها وتميز راقصيها؟!.. أم أن هذه ليست قضية تهم أحدًا؟ على الأقل تهم أهل هذا الفن!
كانت لدينا فرقة قومية للباليه.. رائجة السمعة وذات مستوى عالمى مدهش بالنسبة لفرقة ناشئة آنذاك.. كتبت لها أعمالًا ولعبت أعمالًا كلاسيكية.. وبعد مرور ستة عقود أين تراث تلك المرحلة؟
أين الخريجات
تقول د. سحر: «كنت طفلة فى عمر ثلاثة أعوام حين احترقت الأوبرا.. بكيت وأندهش الآن لبكائى فما الذى كنت أدركه حينها لأحزن على مكان كهذا!.. رغبتى بالرقص ووعد والدى لى بأن أصبح راقصة ذات يوم بهذا المكان جعلانى أتشبث به.. ولكن رغم هذا الحريق واختفاء دار الأوبرا لسنوات دراستى كلها تقريبًا واظبت على الدراسة وأتممتها انتظارًا للأوبرا الجديدة.. التى افتتحت بدفعتى ومنذ ذلك الحين وأنا عضو بالفرقة وهيئة التدريس بالمعهد أى منذ عام ١٩٩٠».
الدأب ذاته الذى جعلها تنتظر لحلمها مسرحًا جديدًا سبعة عشر عامًا.. جعلها تلتزم التدريبات لأكثر من أربعين عامًا.. ولذلك تحظى بهذا القدر من اللياقة والبقاء على الخشبة وممارسة شغفها الأول «الرقص».
كم من اختبار يتعرض له الفنان الحقيقى ويختار دائمًا الإجابة ذاتها! وما الجزاء الذى يمكن أن يكون فى انتظاره بعد رحلة صعبة بهذا القدر؟!
حياة جادة وصعبة، أقرب للعسكرية.. تدريب بمواعيد.. أكل ونوم بمواعيد.. حياة كاملة فى نظام صارم جدًا لا يقبل التغيير.. ولأعوام.. التمرين لو ترك ليوم واحد يعرف الراقص الفارق فى مستوى أدائه.. ولو ليومين يعرف غيره الفرق.. أكثر من يومين مشكلة كبيرة.
«غيابى لست سنوات عن الرقص فى مصر لسفرى مع زوجى وابنى بباريس كان مؤلمًا، ولكنه باختيارى.. وكنت أتمرن يوميًا لأحافظ على لياقتى.. لهذا أرقص إلى الآن لأنى لم أفارق التمرين يومًا.. ولم أتخل عن حياة منضبطة كراقصة أبدًا.. أختاره دائمًا ورغم أى شىء لأنه الشىء الذى أحب وأعطى من خلاله بكل مشاعرى وجوارحى».
لدى الدكتورة سحر أحلام كثيرة.. تتحدث عنها كلها بذات الحماس والشغف.. إنها حقًا مدهشة لمن يراها..!
وتقول عن خريجى المعهد الذين لا يغطون حاجة الفرقة: «جودة وطبيعة مناهج الدراسة ربما تحتاج للتطوير والتحديث.. تفتقر جدًا للغات.. لا ندرس لغات رُغم أن المادة العلمية ومصطلحاتها كلها أجنبية.. عدم وجود أوتوبيسات لتسمح بتغطية أحياء بعيدة عن الهرم - مقر الأكاديمية - فتتنوع وتزداد فئات الدارسين.. ربما تفسر تلك الأسباب عدم الإقبال على دراسة الرقص فى مصر.. ربما لا يريد الكثير اشتغال أولادهم وبناتهم بالرقص فيما بعد لصعوبة المجال وقصر عمر الحياة المهنية كراقص فيفضلون ممارسة الرقص كرياضة أو هواية بجانب دراسة الأطفال بمدارس عادية .. هذا ما يفسر الإقبال الشديد على مدارس الرقص الخاصة وفى النوادى وفى كل مكان هى للهواة فقط لا تخرّج محترفين.. وهناك للأسف رغم ندرة دارسى ودارسات الرقص من يقضى أعوامه الدراسية كلها، ومن ثم لا يعمل بالفرقة.. يسافر بعض الأولاد بحثًا عن حياة أفضل والفتيات يفضلن الزواج.. وربما يتحجب بعضهن فتعتزل قبل أن تبدأ.. وأخريات لا يستطعن المحافظة على اللياقة والتدرب الدائم بعد التخرج.. وكثيرات تلجأن للتدريس فى المدارس الخاصة كدخل بديل.
تضطر الفرقة لاستقدام راقصات من الخارج .... ولكن لماذا تقبل الأجنبيات رغم قلة موارد الفرقة المالية؟ عقود الأجانب مرتفعة الأجر أكثر من المصريين.. المصريون يبدأون تعاقدهم مع الفرقة بالحد الأدنى للأجور»!
راقصون أجانب وفن مصرى
لا مشكلة حقيقية فى وجود بعض العناصر غير المصرية كاحتراف أى راقص أو موهوب بأى مجال فى مكان خارج بلاده.. بينما التعجب هنا من كون ذلك ضرورة لوجود فراغ لدينا.. رغم مرور سنوات فى الخبرة.. فالحال بهذا الشكل يقترب إلى ما قبل ثورة ٥٢.. حيث كانت الأوبرا موجودة مما يقرب لمائة عام ولا تقدم سوى ما هو غربى وبعناصر غير مصرية.. هل ستلجأ الأوبرا الجديدة لفرق أجنبية زائرة؟ أم كيف ستغطى احتياجاتها إذا كانت الفرق الموجودة تكفى الأوبرا الحالية بالكاد.. قد نحتاج لمدرب أو مخرج أو خبير أجنبى، لكن لتدريب مصريين لإنتاج فن مصرى يقدم لدينا ولدى الآخر.. أما أن يؤتى بخبير أجنبى ليدرب أجانب فهو أمر غير متفق مع كلمة فرقة قومية!. نحن بحاجة لأكثر من أوبرا وأكثر من أكاديمية فنون ومدارس فنية متخصصة فى التأليف الموسيقى والإخراج المسرحى والتصميم الحركى وغيرها من التخصصات المنتجة للفن وللجمال.. لكن نحتاج قبل كل شىء لمشروع وطنى للثقافة.. يعرف قضية الوطن الأساسية.. يدرك هوية الوطن الجمالية والثقافية وينطلق من خلالها.
بطل الفرقة
ربما يلاحظ كون الفتيات أكثر انجذابًا لهذا الفن انجذاب الفراشات للضوء.. ولكن فى فرقة باليه أوبرا القاهرة وفصول المعهد الدراسية ربما نجد الأولاد أكثر.. ليس فقط عددًا وأكثر جدية ومهارتهم أنضج ولذلك يسافر أغلبهم للعمل والاحتراف بالخارج.. ويكفون على الأقل حاجة الفرقة.. فكل أولاد الفرقة مصريون.
حسن التابعى.. راقص أول فى باليه أوبرا القاهرة.. شاب فى الخامسة والعشرين تخرج فى المعهد العالى للباليه عام ٢٠١١.حصل على منحة دراسية فى فيينا وأخرى فى كرواتيا.. ولعب دور البطولة فى باليه كسارة البندق.. وصولو فى تانجو، وكارمن وكارمينا بورانا وغيرها من الأعمال.. أدهشنى حين قال: «إن العامل المادى ليس كل شىء.. الأهم هو مستوى الفرقة..» وضرب مثلًا بفرقة الباليه فى كوبا.. «تفتكرى هناك الراقصين بياخدوا كام!؟ ما يعادل ٣٠ دولارا!.. ومع ذلك أتمنى أحصل على فرصة آخذ حصص هناك لأنهم محترفون وموهوبون حقيقيون.. عندهم مشكلة مادية لكن تدريب صح وتعليم مختلف.. أتمنى فعلًا أتعلم معاهم وأطور نفسى..»
الباليه حياة.. يقول حسن ويشرح إنه ليس فقط عملًا أو موهبة لكنه أسلوب كامل للحياة.. «كل وقتنا للرقص والتمرين.. وحياتنا بتدور حول هذا الفن.. تمرين ومحاولات لتجارب جديدة ومشاهدات وتعلم».. تخرج فى دفعة ربما تقترب للخمسين فتيات وفتيان.. يقول: «الآن الأعداد أقل ربما يحتاج المعهد لكثير من الدعاية.. ويحتاج إعادة إحياء أهميته.. وانضباط أكثر.. ومنذ تخرجى اجتزت اختبارات دخولى للفرقة.. كنا خمسة أولاد وثلاث بنات.. لا أعرف السبب الحقيقى وراء اختفائهم.. وعدم إكمالهن الطريق الذى بدأناه.. يعطين حياتهن لدراسة شىء ثم يتخلين عنه فى أول خطوة.. هو عمل شاق ودراسة صعبة وممارسة تحتاج مزيدًا من العمل والحلم.. لا أعرف حقيقة ما سبب ذلك؟».
ونحن نسأل السؤال نفسه ونطالب بدعم هذا الفن.