موسوعة «غِلِس» للتافهين

صباح الخير
كتب: فؤاد أبو حجلة
اختلف فقهاء اللغة فى تعريف «الغلاسة». منهم من قال: إنها تعنى ثقل الدم، ومنهم من قال: إنها تعنى التسطيح وتتفيه الفكرة العميقة، ومنهم من اعتبر «الغلاسة» إفسادًا للذوق وتشويهًا للذائقة الجمالية، وذهب آخرون إلى اعتبار الغلاسة تخريبًا متعمدًا يتساوى فى بشاعته مع القمع والتعدى على الحريات الشخصية.
لا تعنينى الفروق فى شرح الكلمة، وأرى أن «الغلاسة» تعنى كل ما سبق، وقد عرفت الكثيرين ممن ينطبق عليهم تعريف واحد أو أكثر من هذه التعريفات، ما يجعلهم «غلسين» بامتياز، رغم الاختلاف فى نوع «الغلاسة» بين غلس وآخر. ولكثرة ما رأيت وما عرفت من هؤلاء فكرت جديًَا فى إطلاق موسوعة متخصصة تحمل اسم «موسوعة غِلِس للتافهين».
ستضم الموسوعة أسماء كثيرة، وستقدم نماذج لأشخاص ضليعين فى «الغلاسة»، ويمارسونها بشغف قل نظيره بين الملتزمين بطرق أخرى فى الحياة ويمتلكون صفات مختلفة كالذوق والجدية واحترام الذات.
ولعل أبرز نماذج الغلاسة تتمثل فى «الغلس الغبى» وهو النموذج الأكثر شيوعًا فى أوساط الغلسين المحترفين، ويتميز هذا النوع من الغلسين بأنه يجهل امتلاكه للغلاسة ولا يعرف أنه مصاب بها، يليه نموذج «الغلس الفهلوى» وهو الذى يتغالس بقصد وبقرار لكى يغطى على عجز أو مرض أو سلبية فى شخصيته، ويكون عادة أثقل دمًا من «الغلس الغبى». وهناك أيضا «الغلس المغرور» وهو الذى يعتقد أنه محور الكون وأن كل شىء فى الدنيا مرتبط به شخصيًا، ولذلك فإنه كثير التأفف من ثقل المسئولية بينما أصحابه وزملاؤه فى العمل وأفراد أسرته كثيرو التأفف من ثقل دمه.
من أكثر نماذج الغلاسة انتشارا فى بلادنا نموذج «المستغرب» وهو الشخص الذى قضى سنة أو سنتين فى دولة غربية ذهب إليها بقصد الدراسة وغادرها خائبًا وبلا شهادة لكنه عاد بحصيلة مفردات أجنبية قليلة يجترها دائما من قبيل الاستعراض، ويستخدمها بلا مبرر للدلالة على تميزه عن الآخرين معتبرًا نفسه شكسبير عصره.
هذا الغلس لا يكتفى بذلك، بل يصر على تتفيه كل شىء فى بلده وتعظيم كل شىء فى البلد الذى زاره، وأصبح ينطق باسمه وكأنه سفير له، ويستخدم كلمة «نحن» وهو يتحدث عن الأمريكان أو الإنجليز أو الفرنسيين أو الطليان، وكأنه منهم، ويروى الكثير من القصص الكاذبة عن الحياة فى تلك البلاد، ويطرح الكثير من الأسئلة الغبية حول أشياء مألوفة فى بلاده وكانت جزءًا من حياته.
عرفت الكثيرين من هؤلاء المستغربين الذين أفضل تسميتهم «جماعة آى إز»، وأعتقد أنهم سيحظون بجزء كبير من صفحات موسوعة «غلس»، وذلك لكثرة عددهم ولامتلاكهم منسوبًا عاليًا من التفاهة يفوق ما لدى أقرانهم الغلسين المنتمين إلى مدارس غلاسة مختلفة.
لدينا أيضًا نموذج آخر للغلاسة الشائعة، وهو نموذج مدعى الإبداع والحداثيين الذين يعتقدون أن مجتمعاتهم رجعية ومتخلفة لأنها لم تنتج حالة وعى وذائقة تليق بمنتجهم الإبداعى العبقرى وخصوصا فى قصيدة النثر والنص المفتوح، ويطعنون فى سلامة عقل ناقد لم يستطع أن يفهم قصيدة كان مطلعها «سقطت تينة.. فضحكت سمكة».
ذات مساء بعيد اضطررت للاستماع إلى شاعرة «غلسة» من هذا النوع فى منتدى أدبى، ولما فرغت من إلقاء القصيدة سألتنى عن رأيى فى شِعرها، فما كان منى إلا أن أبديت إعجابى بشَعرها. ولما علت الدهشة وجهها أوضحت لها أننى سمعت الكثيرين من شعراء التفعيلة لكن ما سمعت منها فى تلك الأمسية كان شعر تسريحة.
أذكر أيضا نموذجا آخر للغلاسة، وهو نموذج المثقف التقدمى الذى يعيش فى فيلا فاخرة ويقضى إجازته السنوية فى باريس، ربما لأنها «عاصمة النور» ويتحدث فى سهرة عشاء فى مطعم بفندق خمس نجوم عن هموم جموع الشعب وحق الغلابة فى رغيف الخبز.
وهناك من هو أغلس من مدعى الثقافة التقدمية. أعنى المفكر الثورى الذى يتزوج من أمريكية ويقتنى سيارة أمريكية ويدخن سجائر أمريكية.. ويلقى محاضرات عن كيفية التصدى للمشروع الأمريكى الكونى.
موسوعة «غلس» للتافهين ستضم كل هؤلاء وآخرين كثر نراهم فى مكان العمل وفى المقهى وفى السوق وفى حوارات المنتديات. وبعد إصدار هذه الموسوعة سأبدأ الإعداد لإصدار موسوعة أخرى معنية بالرخامة، وسأطلب أحد أصدقائى الرخمين أن يساعدنى فى اختيار اسم لهذه الموسوعة.