موائد الرحمن

صباح الخير
هى ظاهرة اجتماعية رمضانية، تؤكد على التكافل الاجتماعى الذى ينادى به الدين الإسلامى لأتباعه أن يسيروا عليه .. حيث يجتمع الناس حول موائد بسيطة لتناول طعام الإفطار معًا، ويحدث التوافق بين المؤمنين، ولا بُدّ لهذه الأفلام أن تدور قصصها فى شهر رمضان. وباعتبارنا قد عشنا الكثير من سنوات القرن العشرين وأيضًا فى عقدين من القرن الحالى؛ فإننا شهدنا على مَرّ السنوات تضخم هذه الظاهرة الاجتماعية بشكل ملحوظ. إلا أن جيلنا فوجئ حسب أحداث فيلم «إضراب الشحاتين» لحسن الإمام 1966، عن أقصوصة لإحسان عبدالقدوس أن موائد الرحمن كانت موجودة فى بيوت الأثرياء الفخمة، وأنها لم تكن تتم فى الشوارع، والسرادقات مثلما كانت منذ ثلاثين عامًا على الأقل.
وفيلم «إضراب الشحاتين» يمثل حالة مقايضة بين الثرى، وبين الشحاذين الذين يمثلون الفقراء، فالثرى. يود الحصول على رضا صاحب الجلالة المَلك، كما أنه يطمع فى الحصول على مكاسب اجتماعية، وأن ينجح فى الانتخابات النيابية، وهو لا يسعى بالطبع للحصول على ثواب دينى، بقدر رضاء أهل الدنيا، أمّا الشحاذون فإن زعيمهم يعرف قدر المكاسب التى سينالها الرجُل، ويبدأ فى مساومته، وتقدير الأمر على أنه حسنات، دينية ودنيوية.
الفيلم كما هو معروف غنائى استعراضى، لذا فإن الخصومة بين الشحاذين والثرى لا تأخذ طابع المواجهة العنيفة قدر ما كان كل طرف يريد الحصول على قدر أكبر من المنافسة.
تدور الأحداث عام 1923، وهو العام الذى تم فيه وضع الدستور المصرى، وهناك بيومى باشا المصرى المتفرنج، وهو وزير فى تلك المرحلة يتوق إلى العودة لمنصبه. ويسعى إلى كسب أصوات وتعاطف الناس وهو يفكر فى إقامة وليمة طعام للشحاذين بمناسبة قدوم شهر رمضان، ويقترح على مساعده سيمون عمل وليمة فى أول الشهر ويوزع فيها الطعام، وأيضًا الكساء، وأشياء أخرى، وتبدأ المساومة بدعوة ألف شحاذ، وأنه سيدفع لكل منهم ريالًا وتبدأ المفاوضات بعد أن يرفض الشحاذون المبلغ فيكون العرض التالى هو خمسين قرشًا، تنتهى بأن يكون جنيهًا لكل شحاذ، أى ألف جنيه، والمهم هنا هو تسمية الأشياء، ففى البداية هى وليمة، يقيمها الثرى للشحاذين، ثم يقولون إنها وليمة للفقراء، ولا نعرف هنا أن المقصود بها هو مائدة الرحمن، بما يعنى أن المصطلح «موائد الرحمن» لم يكن معروفًا بالاسم نفسه، وباعتبار أننى ابن من شباب الستينيات، فإن المصطلح فعلًا لم نكن نعرفه، على الأقل فى سنوات حُكم عبدالناصر، أى أن «موائد الرحمن» لم تزدهر فى مصر إلا بعد الزحف الكبير للمصريين للعمل فى دول الخليج؛ خصوصًا المملكة العربية السعودية؛ حيث صار لدينا مقتدرون يقيمون مثل هذه الولائم وينافسون فى إقامتها.. التفاصيل فى هذا الصدد كثيرة، لكن المهم هو السينما فإنها لم تكن تهتم بهذا النوع من السلوك الشعبى، إلا بعد أن صار ظاهرة جماعية. لكننا لم نرَ أفلامًا عن التحولات الاجتماعية فى المجتمع المصرى إلا مع العقد الأول فى القرن الحالى، ولعل أبرز النماذج هو ما رأيناه فى فيلم «المواطن مصرى»، الذى يدور مثل كل أفلام حرب أكتوبر فى شهر رمضان، أى فى نفس فترة إنتاج الفيلم.
لا شك أن فيلم «عسل اسود» إخراج خالد مرعى 2010هو الفيلم المعاصر، والوحيد فى السينما المصرية الذى تدور أحداث أغلبه فى شهر رمضان ويتحدث عن العادات الشعبية فى بيوت وشوارع مصر، ابتداءً من ساعات الإفطار، وتبادل أطباق الطعام بين الأُسَر فى المسكن نفسه، وعمل كعك العيد قبل نهاية الشهر الكريم، وبالطبع دلائل التراحم بين الناس من خلال إقامة موائد إفطار يقيمها القادرون يوميّا عند الإفطار للفقراء، غير القادرين، وأيضًا الذين تضطرهم أعمالهم للتواجد فى الشوارع فى لحظات الإفطار، ومنهم العاملون بقطاع النقل العام والعاملون بالمرور، وقد صوّر الفيلم تفاصيل ما يدور فى الموائد العامة التى تُعرف باسم موائد الرحمن، بما لم يسبق لكاميرا أن صورت، لذا سوف نتوقف عند المشهد بشىء من التفصيل، لكن أيضًا هناك دلائل أخرى على ما يفعله القادرون تجاه الفقراء، وذلك بتوزيع اللحوم النيئة على الفقراء وعلى العاملين بالشوارع مثل عمال النظافة؛ حيث يفاجأ الشاب «مصرى» بامرأة تركب سيارة فخمة تقف عند إحدى الحدائق، وتوزع لفات اللحم على العواجيز والعاملين، وتشاهد «مصرى» القادم لتوه من مائدة الرحمن، تناديه أن يأخذ اللحم، وعبثا يحاول الشاب إفهام الممثلة دينا هذه أنه مصرى، وليس فى حاجة إلى إحسان، ما أن يخبرها أنه مصرى، علمًا انه أيضًا اسمه تردد فى ثقة « تبقى غلبان» ويدخلان معًا فى حوار.
أمّا مشهد مائدة الرحمن فهو يبدأ بلافتة بارزة تحمل اسم « مائدة الرحمن» عبارة عن صوان منصوب فى ركن من الشارع، وهناك موائد خشبية مصطفة، ويجلس «مصرى» وعلى يمينه امرأة خمسينية وتتأهل للأكل، وعلى يساره رجُل سبعينى، وحين يأتيه عامل يسأله عن قائمة الطعام، ويكتشف أن الأكل كله متشابه، ويدور حوار مقتضب مع العجوز القنوع، فيسأله عن الأكل، ويجيبه الرجل أن كل شىء رضاء، «أنتم كلكم طالبين نفس الأكل، كلكم طالبين نفس البطاطس»، وبعد الانتهاء من الإفطار يدور حوار قصير مع صاحب الوليمة، ويقترح عليه الشاب أن يمنحه 110 من الجنيهات، إلا أن الرجل يقول له: انت عايز تضيّع علىّ الثواب. وسرعان ما يسأله «مصرى» أن هناك حلو، رُغم أن كوب «القمر دين» كان موجودًا على مائدة، مع الأكل.
بالإضافة إلى موائد الرحمن التى صورتها السينما المصرية فإن الموائد العائلية فى الكثير من الأفلام التى تدور أحداثها عن شهر رمضان هى حدث رئيس للبشر؛ خصوصًا أن الموائد هى فرصة لتجميع كل أفراد العائلة من ناحية أو الجيران، والأهل والضيوف، ففى فيلم «فى بيتنا رجُل» لبركات 1960، فإن إبراهيم حمدى يدخل بيت زميله الجامعى هاربًا من المستشفى؛ حيث الشرطة، ليصل إلى هذا البيت ساعة الإفطار، وتكون الأسرة المكونة من خمسة أشخاص جالسة تتناول الإفطار، إنها العائلة بمفردها دون أى ضيوف، أو أى لمّة مثل التى سنراها فى عائلة العمدة في فيلم «المواطن مصرى»، وبما أن الأمر يثير دهشة العائلة التى تبدو كأنها تسكن وحدها فى البيت، وتبدو علامات الدهشة على وجوه الأفراد، وعندما يتم فتح الباب فإن الدهشة تعترى الوجه، ويشعر رب الأسرة بالحرج، فالطارق هارب من العدالة بتهمة اغتيال سياسى، ولا شك أن وجوده سوف يسبب لهم الحرج، ويغلق الباب فى وجه الطارق، ويصير عليه أن يفكر فى مغادرة البيت الذى جاء إليه، بينما تردد ربة الأسرة فى الداخل « ياقلب أمك يابنى» وأنها أم تشعر بالتعاطف مع الطارق، ما يجعل الأب يتراجع فى موقفه، ويطلب من ابنه محيى أن يخرج لإدخال زميله، الذى سيصبح ضيفًا يشكل وجوده الكثير من المتاعب فى البيت، ويجلس حول المائدة كى يشارك فى تناول الإفطار.
يعنى هذا أن المائدة لا بُد من تواجدها فى الأفلام التى تتحدث عن رمضان، ومنها على سبيل المثال فيلم «إكس لارج» اخراج شريف عرفة، فالشاب مجدى يذهب إلى بيت صديقته، من أجل تناول الإفطار مع الأسرة، ثم يقضى ساعات السهر الرمضانى فى البيت، لا يكف عن تناول المكسرات والمشروبات، والتعليق على طهى سيدة البيت. وفى هذا الفيلم يبدو الأرق كبيرًا بالنسبة للشاب البدين مجدى الذى اعتاد الأكل، وهو حين يعلم بقدوم الشهرالكريم. فإنه يطلب كميات كبيرة من الطعام لتناول السحور الأول، وفى هذا الفيلم نتعرف على عادات الناس؛ خصوصًا بالنسبة لشاب بدين، فى موسم الصيف الحار، نهاره طويل، وهو يحتاج إلى الكثير من شرب السوائل لإطفاء الظمأ؛ خصوصًا أنه فى اليوم الرمضانى الأول فإن دينا تطلب منه أن يصحبها فى السيارة مع خالتها لحضور جنازة إحدى القريبات فى الشرقية، وقبل أن ينطلق الشاب فى الطريق فإنه يقوم بشراء الكثير من الأكل الجاهز للإفطار بحجة أنهم على سفر.
وفى الإفطار الرمضانى الأول فإن الشاب يستقبل خاله الذى يأتى معه بإفطار مشترك ليشترك مع أحد المقربين منه فى التهام الطعام، أمّا الأطعمة التى تفترشها الأسرة فى ليلة رمضانية فإنها كثيرة، ومتنوعة، ويعلق الشاب على جودة الطعام، وطريقة طهيه. وأن يقول إن الطاهية لم تقم بفرك الثوم جيدًا، ويلقى بملاحظة على ورق العنب، ويستمع إلى المسلسلات، ويظل فى البيت إلى أن يتناول السحور، ما يثير استياء الخالة، ونعرف أن مجدى لا يتوانى عن تناول المحشى فى السحور، وهكذا فإن المائدة تظل فى أيام رمضان السينمائية هى الشىء الأكثر طلبًا، وأهمية.
وللموائد الشعبية العامة أهمية فى حياة الناس فى الكثير من الأفلام التى تدور أحداثها فى الموالد، مثل فيلم «ليه ياهرم» و«الليلة الكبيرة»، لكن هذه الموائد كلها لا تدخل فى إطار شهر رمضان.