الخميس 19 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ملك حفنى ناصف وتجديد الفكر الدينى

ملك حفنى ناصف وتجديد الفكر الدينى
ملك حفنى ناصف وتجديد الفكر الدينى


ونحن نحتفل بالمرأة وإسهامها فى تقدم المجتمع، لا بد أن تأتى كتابات باحثة البادية ملك حفنى ناصف فى مقدمة الكتابات التى أسهمت فى تحرير المرأة والمطالبة بحقوقها،                                                                                                                                 فلم تكن ملك حفنى ناصف (1886-1918) أول كاتبة مصرية وعربية تطالب بحقوق المرأة فحسب، بل كانت أول كاتبة دعت إلى تجديد الفكر الدينى فى مقالاتها بصحيفة «الجريدة» والتى كانت لسان حال حزب الأمة، وكان أحمد لطفى السيد من مؤسسيها بل وكان مدير تحريرها. وقد أحدثت ملك حفنى ناصف ثورة فكرية على الصعيد الاجتماعى عندما طالبت بوجوب تعليم المرأة لتحريرعقلها، وتقويم أخلاقها بالعلم الصحيح.


«النسائيات»
ومن ملامح رؤيتها تجديد الفكر الدينى كما أرى ما تناولته فى كتابها «النسائيات» والذى يعده الباحثون ككتاب تحرير المرأة لقاسم أمين. فكانت المنطلقات الفكرية لباحثة البادية غاية فى التعبير عن الحرية الفكرية وتوخى النفع العام، فهى تقول فى مقدمة كتابها إنها تعتمد على التجربة لا على التنظير، وعلى الخبرة والمشاهدة وليس الاعتماد على ما يجود به الخيال، وهو أول المتكآت العلمية التى استندت إليها أفكارها، فهى لا تُصدر أحكاما مسبقة على القضايا المجتمعية المطروحة، لكنها تصدر عن فهم عميق لدور المثقف فى تجديد حركة الفكر بعامة بالتفاعل مع قضايا مجتمعية، فتقول عن كتابها: «لا أدعى فيه ابتداعا ولا إبداعا فما هو إلا سلسلة مشاهدات وتجارب أثرت فىَّ فدونتها ليتعظ بها غيرى ممن لم تحركه الحوادث، ولم تتيسر له التجارب، وما قصدت إلا النفع العام، والدفاع عن المرأة المصرية المهيضة الجناح، ولعل الله يحقق هذا القصد، ويشد أزرنا لما فيه إعلاء شأننا، وتقوية الفضائل فى أخلاق هذه الأمة بحسن القيام على تربية أبنائها».
 تعدد الزوجات
وقد انتقدت باحثة البادية انتشار «تعدد الزوجات» فى ذلك الوقت، وحملت عليه حملة عنيفة، فقالت: «إن بنات العصر الحالى حتى الجاهلات منهن يفهمن الحياة أكثر من أمثالهن الغابرات فأصبحن لا ترضيهن الكسوة والطعام فقط كأحد خدم المنزل».
وقالت: «إن تعدد الزوجات مفسدة للرجل، مفسدة للصحة، مفسدة للمال، مفسدة للأخلاق، مفسدة للأولاد، مفسدة لقلوب النساء، والعاقل من تمكن من اكتساب قلوب الغير فكيف بقلوب الأهل والعشراء، لأن الرجل فضلا عن تحمله أعباء أسرتين وقيامه بلوازمهما يرى كل زوجة من الاثنتين تجتهد فى التبذير لتعجزه عن الإنفاق على الأخرى أو لتمنعه من الزواج بأخرى، مفسدة للأخلاق لأن زوج الضرائر فى ذاته طمع، طمع وشره، مفسدة للأولاد لأننى رأيت بنفسى أن كل ضُرة تطبع كراهتها لضرتها فى نفوس أولادها، مفسدة لقلوب النساء لأن الأولى تكرهه بلا شك لإغضابه إياها وجرحه لعواطفها، والثانية لا تصافيه مطلقا ما دام متعلقاً بغيرها فهو كالمُنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى». وقد حركت باحثة البادية بدعوتها لتقييد التعدد كل المهتمين بحقوق المرأة حينذاك، فنجد لدعوتها صدى فى كلمات هدى شعراوى (فى الاحتفال بذكرى ملك حفنى ناصف) – بعد وفاتها بسبع سنوات – إذ تقول شعراوى مطالبة بإصلاح القوانين العملية للعلاقة الزوجية وجعلها منطبقة تمام الانطباق على روح التشريع الدينى من إقامة العدل، ونشر السلام بين الأسر، وإحكام روابط المصاهرة وذلك بأن:
(1) يسن قانون لمنع تعدد الزوجات إلا لضرورة كعقم الزوجة أو مرض عضال يمنعها من أداء وظيفتها الزوجية، وفى هذه الحالة يجب أن يثبت ذلك الطبيب المختص.
(2) يسن قانون يحرم على الرجل أن يطلق زوجته إلا أمام القاضى الشرعى وعلى القاضى معالجة التوفيق بين الزوجين بحضور حكم من أهلها، وحكم من أهله قبل الحكم بالطلاق طبقا لنص الدين الحنيف.
بل إن كتابات باحثة البادية كانت محرضا لكاتبات عصرها، ومن أشهرهن مى زيادة، للاهتمام بقضايا المرأة، والمنظور الاجتماعى، والدينى لها، فتقول مى زيادة فى خطاب لباحثة البادية: «الباحثة أول كاتبة عربية خاطبتنى فى موضوعات غريبة عن معرفتى وإدراكى واهتمامى، موضوعات الزواج والطلاق، وتعدد الزوجات والنقد الاجتماعى والإصلاح فسيطرت على انتباهى وتغلغلت غير متعثرة فى مشاعرى، ولفتتنى إلى علل ما زالت ضاربة إلى يومنا هذا فى مختلف المراتب، وما زال الدواء الحكيم الذى وصفته الباحثة فى مقدمن أن تعالج به الأدواء».
بل دخل إلى معترك القضية نفسها (تعدد الزوجات) أقلام رجال مثل عبد الله حسين الذى كتب عن «النسائيات» لباحثة البادية، قائلاً إنه فى كثير من بلدان العالم المتمدين لا يسمح للرجل بالاقتران بأكثر من واحدة، فتقول باحثة البادية: «نعم إن الشرع نص على أنه لا يجوز الجمع بين أختين فى آن واحد، ولكن ألم يضع الدين كل ما يكفل راحة البشر وسعادتهم، وإن فى طلاق أخت لأجل زواج أختها من زوج الأولى نفسه لشقاء لا يعادله شقاء وقطيعة بين ذوى القُربى، وعصيانا لأمر الله تعالى فإنه نص على البر بهم نصا صريحا لا يحتاج إلى تأويل الإرادة، والقضاء والقدر».
ومن المسائل المهمة التى تنبهت إليها باحثة البادية إرادة الإنسان الحرة، وحرية الاختيار فتقول، فى موقف اختيار لشريك حياتها، إن المخاطرة بالارتباط بشريك لا تعرف عنه الفتاة شيئا إلا بعد المعاشرة ليس إلا نتيجة الاعتقاد المقلوب فى القضاء والقدر، فتقول: «إن القضاء والقدر لا تجدى مغالبتهما، ولكن لا يصح اتخاذهما وسيلة للإهمال فى جلب المنفعة أو درء الضرر فإن هذه المسألة مسألة اختيار محض، للعقل أن يحكم فيها وحده. وتطرح رؤية اجتماعية مهمةمستقاة من منظور دينى فتقول حول الطريقة الشرعية للخطبة: «فلا يتزوج اثنان قبل أن يجتَمعا بحضور مِحرم، كما نادت بتعليم المرأة وتثقيفها فى خِطبة فى نادى حزب الأمة فطالبت بتعليم البنات الدين الصحيح أى تعاليم القرآن، والسُنة الصحيحة. وتعليم البنات التعليم الابتدائى والثانوى، وجعل التعليم الأول إجباريا فى كل الطبقات، وتعليمهن التدبير المنزلى علما وعملا، وقانون الصحة، وتربية الأطفال، والإسعافات الأولية فى الطب.
وتخصيص عدد من البنات لتعليم الطب بأكمله، وفن التعليم حتى يقمن بكفاية النساء فى مصر... وطالبت بإطلاق الحرية فى تعلم غير ذلك من العلوم الراقية لمن تريد.
 الانفتاح على الآخر
وكان من الأفكار التى آمنت بها باحثة البادية هى حرية تداول الأفكار، والتعبير عن الاختلاف فهى تعتقد فيما قاله الفيلسوف الإنجليزى (هربرت سبنسر): «إن الآراء التى يظهر لنا أنها خطأ، لا يمكن أن تكون خطأ محضا بل لا بد أن يكون فيها نصيب من الصحة والصواب».
ومن هذا المنطلق الحُر، واحترام الاختلاف تحدثت باحثة البادية عن رأيها فى قضية السفور والحجاب، وردت على كثير من الكتاب من مجايليها على صفحات صحيفة «الجريدة» فهى بين أخذ، ورد، ومناقشة، واختلاف، واحترام الرأى الآخر، فهى تقول فى هذه القضية، رداً على الأديب عبد الحميد أفندى حمدى، على صفحات صحيفة «الجريدة»: «تتبعت خطبة الأديب عبد الحميد أفندى عددًا عددًا فى «الجريدة» فشكرت له اهتمامه بترقية المرأة، وأثنيت على اجتهاده وشجاعته الأدبية وقد وجدت خطبته صحيحة المقدمات متينة المبنى إلا أن رأيا أبديه فيها، وقد يمر بخلد أحد القارئين أننا ننتقد الخطيب حُبا فى النقد أو تمسكا بحب القديم وجمودا منا عليه لكن الحقيقة لا هذا ولا ذاك، وكل امرئ حر فى فكره، حر فى قبول فكرة غيره أو رفضها حسبما يشاء بشرط أن لا يُضر ذلك الرفض أو القبول بالغير».
 السفور والحجاب
وخلاصة رأيها فى هذه القضية أن الخروج بغير حجاب لا يضر فى نفسه إذا كانت أخلاقنا وأخلاق رجالنا على غاية الكمال، وأظن هذا مستحيلا أو بعيد الحصول فإذا حصل التمازج، وكان على هذا الشرط فلا اعتراض لى عليه.
وتقول فى موضوع آخر فى مقالة لها بعنوان: «خطبة فى المقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الغربية»: «إن إسفار النساء عن وجوههن لم تُجمع الأئمة على تحريمه فضلا عن أنهم كلهم يجيزونه عند الخطبة تحاشيا من وقوع الاختلاف ودعوى الغش فيما بعد».
وتقول أيضا: «هناك قوم يتشددون فى تقدير الحجاب فيحبسون المرأة مؤبداً، ويمنعونها من زيارة جاراتها ويضيقون عليها بحيث لا تستنشق إلا هواء بيتها الضيق الدائرة فتفسد صحتها، وتكسل عن الحركة، ومنهم من يفتخر بأن امرأته لم تبرح بيتها طوال عمرها وهؤلاء أيضا متطرفون لأن المرأة لها رجلان يجب أن تتحركا، وعينان يجب أن تبصرا فإذا صاحبها أبوها أو أخوها أو زوجها مثلا فى نزهة وأراها محاسن الطبيعة، ودقائق الموجودات، وجدد قواها بالحركة واستنشاق الهواء الجيد وهى بمئزرها محتشمة فلا يخرج ذلك عن معنى الحجاب». وأضافت: «وهنا أستسمح عبد الحميد أفندى حمدى فى استعمال لفظة حجاب على غير ما مر لأننا لو رددنا كل المجازات إلى الحقيقة لصارت اللغة أضيق من سُم الخياط».
وناشدت الكاتب الذى يأمر بالسفور قائلة: «مجموع نساء كنسائنا الآن لا يفهمن إلا ما يفهمه الرضيع فيصبح سفورهن واختلاطهن بالرجل بدعة لا انتهاء لشرها فماذا تقول امرأة جاهلة أو متعلمة تعلما ناقصا لشاب تجتمع به؟، أتباحثه فى العلوم وهى لا تدرك أهميتها أو تعلم منها قشورا لا يُعتد بها أم تناضله فى السياسة وهى لا تعلم أين إنكلترا من جزائر الأرخبيل؟».
ثم تقول: «على أن هذه المسألة (السفور والحجاب) مسألة فيها اختلاف آراء، وقاضيها العادل الزمن والمستقبل فكم مسألة أبى قوم إلا اتباعها وآخرون نبذوها نبذ النواة فاختلفوا وجاء الزمن مؤيدا فيها لفريق دون فريق فصارت له القوة، ورجع له الحول فاتحدوا فيها، ورأيى أن الوقت لم يأن لرفع الحجاب فعلموا المرأة تعليما حقا وربوها تربية صحيحة، وهذبوا النشء واصلحوا أخلاقكم بحيث يصير مجموع الأمة مهذبا ثم اتركوا لها شأنها تختار ما يوافق مصلحتها ومصلحة الأمة».
كانت باحثة البادية تصدر عن رؤية معتدلة فى بحثها عن تحرير المرأة كما يقول أحمد لطفى السيد، فقد اعتمدت رؤيتها المعتدلة على المطالبة بالمساواة رائدها الشرع الإسلامى، والبعد عن الإطلاق الذى يخالف الدين من ناحية، ويخالف الحيطة من ناحية أخرى – حسب لطفى السيد – الذى رأى أن بحثها فى النسائيات بحث جادله نتائج كبرى لصالح المرأة بل لصالح الجمعية الإنسانية فأخذت تكتب فى الدفاع عن حقوق المرأة وتخطب فيما يجب لإصلاح شئونها.
 المساواة بين الرجل والمرأة
ومن اللافت أن هذه القضية قد نالت عناية رواد النهضة المصرية، وكان لها مكانها فى نسائيات باحثة البادية فيقول أحمد لطفى السيد فى مقدمة كتابها: «ومهما يكن من وحدة الخلاف فى المساواة بين الرجل والمرأة فى درجات المسئولية وفى الحقوق والواجبات العامة فإن من المحقق أن المرأة لم تسترد إلى اليوم شيئا كبيرا من المساواة المنشودة على أقل أقدارها فى نظر القائلين بها بل هى عندنا على الخصوص لا تزال مظلومة فى حقوقها فى العائلة، وفى حقوقها فى الجمعية المصرية، مظلومة فى تقدير واجباتها الخاصة والعامة»، ورأى أن حقوق المرأة الطبيعية وحقوقها الشرعية يغمطها الرجال فلا يراعون فيها تقاليد الأسلاف ولا يتبعون فيها أوامر الدين فإن النتيجة اللازمة عن ذلك هى تعطيل نصف الإنسانية عن كثير من المطلوب منه. وقد انطلقت باحثة البادية فى معالجة هذه القضية المنطلق نفسه فأفردت مقالات عدة لتفاصيل العلاقة بين الرجل والمرأة قبل الخِطبة وفى الزواج، بل وفى المعاملات، وفى آداب الطريق وغيرها.
فأكدت على معانى مهمة منها قولها: ضرورة معاملة الزوج لزوجته الند للند أو على الأقل معاملة الوصى لليتيم لا معاملة السيد للعبد لأن الاستبداد بالمرأة يأتى بعكس المراد، وتتساءل كيف يحدث هذا ورجالنا على هذا الاستبداد يأملون صلاح الأمة، وتربية أبنائها على حب الاستقلال والدستور.
وكانت جريئة فى التعبير عن رأيها فى هذا الشأن فقالت معتزة بمهام المرأة ودورها: «إن لنا من شئوننا البيتية ما يكفى لشغلنا ولنا من عاداتنا القديمة المستهجنة ما يُبيح فى طلب إصلاحه حيواتنا، فجدير بالرجال ألا يشغلوا وقتنا، وفكرنا بالشكوى من أعمالهم وأظنهم يقع عليهم ظلم الحكومة مرة وضيق العيش أخرى فلا يجدون من ينتقمون منه لأنفسهم سوانا».
كما اهتمت باحثة البادية بموضوع فشل الزواج وعدم الوفاق بين الزوجين، وانتبهت فى ذلك الوقت المبكر إلى فكرة تأويل الدين الحنيف على غير ما أريد منه فى أحكام الزواج والطلاق، كما نددت بالزواج القسرى كما طالبت بضرورة ملاءمة سن الزوجين حتى لا تتزوج الفتاة إلا متى صارت أهلا للزواج كفؤا لتحمل مصاعبه، ورأت أن ذلك لا يكون قبل سن السادسة عشرة، محاولة رفع سن الزواج للفتاة ونبهت إلى أن تزويج الصغار يؤدى إلى شقاء الأمة من عدة وجوه ومنها العناء فى الزوجية والذى تكون نتيجته الشقاق أو الانفصال، وكثرة وفيات الأطفال، وضعف النسل، وإصابة النساء بأمراض عصبية، وأمراض نسائية أخرى.
لقد استطاعت ملك حفنى ناصف بمقالاتها والتى جمعتها فيما بعد بعنوان «النسائيات» فى وقت مبكر من تاريخ نهضتنا الوطنية المعاصرة أن تدعو لتجديد الفكر الدينى وخاصة فى مجال الأحوال الشخصية، لتحقيق العدالة بين الرجل والمرأة، ودعت إلى إعمال العقل، وأكدت على حرية الإرادة أو كما كانت تقول: «الإرادة هى المقدرة.
فاستحق كتابها «النسائيات» أن يكون الجناح الآخر والمهم لكتاب قاسم أمين فى تحرير المرأة.•