الإثنين 9 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

بين الخيال والحقيقة: ماذا تبقى فى الأذهان من الثورة؟

بين الخيال والحقيقة: ماذا تبقى فى الأذهان من الثورة؟
بين الخيال والحقيقة: ماذا تبقى فى الأذهان من الثورة؟


قرن من الزمان مضى على اندلاع ثورة المصريين لتحقيق الاستقلال الوطنى والدستور. والزمن كفيل بأن يسحق كل التفاصيل والأحداث والشخصيات، وقد جرت فى النهر مياه كثيرة وفى أذهان المصريين جرت أيضا تواريخ أخرى مهمة: ثورات وانتفاضات وحركات واحتجاجات ومطالبات غيرت شكل حياتهم بالكامل. فهل تبقى شىء فى أذهان المصريين وخاصة الأجيال الجديدة من ثورة 1919، وإذا كانت الإجابة نعم، فما هو؟، وهل هى حقائق تاريخية أم صور متخيلة من السينما والخيال الشعبى؟

مع بداية عام 2019، كان لدى فضول أن أسال أشخاصًا عاديين وخاصة الشباب حول ماذا يعرفون عن ثورة 1919. والإجابة عند الغالبية كانت تدور حول ثلاث معلومات أساسية: ثورة ضد الاحتلال الإنجليزى، وثورة أنجزت الوحدة الوطنية، وثورة خرجت فيها النساء إلى المظاهرات. أما الصور النمطية المتخيلة عن هذه الثورة، فقد جاء أغلبها ـ فيما أظن- من فيلم حسن الإمام الشهير عن رواية الأديب العظيم نجيب محفوظ  «بين القصرين».
الصورة الأولى: مقاومة الاحتلال
«حركة احتجاج مدنية سلمية»
الصورة الأولى المتعلقة بالثورة ضد الاحتلال الإنجليزى يغلب عليها صور المصريين الذين نزلوا الشوارع فى هياج وعنف فى يوم ما فى عام 1919 وهم يهتفون فى غضب «الاستقلال التام أو الموت الزؤام». أما الحقيقة التاريخية الغائبة فتقول أن شرارة الثورة لم تبدأ يوم 9 مارس 1919، بل قبل ذلك التاريخ بخمسة أشهر فى يوم عيد الجهاد فى 13 نوفمبر 1918 والذى كان المصريون يحتفلون به كل عام، إلى أن توقف ذلك بعد عام 1952. هذا اليوم الذى رفض السفير البريطانى « الحاكم الفعلى لمصر آنذاك» طلب سعد باشا زغلول وعبدالعزيز باشا فهمى وعلى باشا شعراوى السفر إلى باريس لحضور مؤتمر الصلح «بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى» وعرض مطالب المصريين برفع الحماية البريطانية عن مصر.
وحجة السفير فى الرفض كانت أنهم لا يمثلون الأمة المصرية. فى أعقاب هذا الحدث جاءت حملة التوقيعات واسعة النطاق من عموم الشعب المصرى لتوكيل هؤلاء الزعماء فى تمثيل مطالب المصريين فى الحرية والاستقلال، ولم تندلع أعمال العنف والغضب الشعبى إلا بعد ذلك بخمسة شهور فى 9 مارس 1919، عندما عاقبت سلطة الاحتلال سعد زغلول ورفاقه بالنفى إلى مالطة.
الثورة لم تبدأ عنفًا فى الشوارع كما هو متخيل بل مفاوضات وتوكيلات وحركة احتجاج مدنية سلمية استمرت لمدة خمسة شهور، وضعت حجر الأساس لكل أحداث ثورة 1919 لاحقًا. آخذا فى الاعتبار أن مسببات الثورة المجتمعية كانت قائمة منذ مطلع القرن العشرين.
الصورة الثانية: الوحدة الوطنية
الناس.. لا المؤسسات
الصورة الثانية هى الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط لمقاومة سياسات التفرقة التى مارستها سلطة الاحتلال بوعى ودأب منذ قدوم كرومر، وإثبات أن معركة الاستقلال الوطنى لا تفرق بين مسلم ومسيحى. والصورة الثابتة فى الذهنية الشعبية  للوحدة الوطنية صورة «الهلال مع الصليب» و«الشيخ مع القسيس»  اللذان يقفان جنبًا إلى جنب فى المظاهرات، كأن المؤسسات الدينية المسيحية والإسلامية هى التى صنعت هذا المشهد.
 والحقيقة التاريخية أن أمر انخراط المسلمين والأقباط فى الثورة سويًا قد بدأ مشهدا مدنيًا بامتياز. ففى ديسمبر عام 1918 كان أعيان ووجهاء الأقباط يجتمعون فى نادى رمسيس، فروى لهم فخرى عبدالنور ما عرفه عن التوكيلات التى يوقع  المصريون عليها للوفد، ولاحظوا أن أسماء الوفد الموكل عن الأمة لا يحتوى على اسم قبطى واحد. فذهبوا إلى سعد باشا زغلول وطلبوا منه تمثيل الأقباط فى الوفد لأن قضية الاستقلال الوطنى هى قضية الأقباط أيضا وليست حكرًا على المسلمين، فوافق سعد باشا، وتم ضم ثلاثة أقباط إلى القائمة الأساسية للوفد «واصف غالى وسينوت حنا وجورج خياط». ثم لحق هذا التحرك المدنى للأقباط والمسلمين انخراط وتمثيل المؤسسات الدينية «الأزهر الشريف والكنيسة القبطية» فى الثورة.  
الصورة الثالثة: مظاهرات النساء
تغيرات اجتماعية.. لا سياسية
الصورة الثالثة هى خروج المرأة المصرية للحياة السياسية واشتراكها فى مظاهرات الثورة فى 16 مارس 1919، وهو يوم المرأة المصرية الذى نحتفل به كل عام. وما يتصوره البعض أن مشاركة النساء فى  مظاهرات ثورة 1919 قد ساندتها لنيل حقوقها فى المشاركة السياسية. هذا التصور ليس صحيحًا لأن المرأة المصرية لم تحصل على حقوقها السياسية فى الاقتراع والترشح فى الانتخابات العامة فى  دستور 1923 الذى جاء تتويجًا لنجاح ثورة 1919، بل فى دستور 1956 أى بعد ثورة يوليو 1952. إلا أن الملف الاجتماعى وخروج المرأة المصرية للمجال العام قد تقدم بصورة كبيرة بعد ثورة 1919. فتوسع تعليم البنات، كما دخلت المرأة إلى الجامعة لأول مرة عام 1928، ونشطت الجمعيات النسائية،  واشتغلت المرأة فى العديد من المجالات الفنية كممثلة ومخرجة وفنانة تشكيلية. وشهدت تلك الفترة أيضًا المحاولات الأولى لحفظ حقوق المرأة فى الحياة العائلية من خلال قانونى الأحوال الشخصية فى عامى 1920، 1929، وقانون تحديد سن زواج الفتاة بستة عشر عاما 1923.
وأخيرًا، أتمنى لمئوية 1919 أن تكون فرصة للمصريين للتعمق فى إدراك الحقائق التاريخية لما أنجزه المصريون من أجل الاستقلال والوحدة والمساواة من مصادرها الرئيسية وليس عبر الصور المتخيلة مهما بلغ إبداعها.