رايح القهوة ألقط عيش!

صباح الخير
كتب: فؤاد أبو حجلة
في ما مضى من سنوات الجمر لم تكن المقاهي في العواصم العربية مجرد ملاذات آمنة للكسالى والعاطلين ومدمني الشيشة والشاي الثقيل، بل كانت منتديات ثقافية يؤمها الأدباء المبدعون ويطرحون فيها رؤاهم ويدافعون عن ميولهم الفكرية ومدارسهم الإبداعيّة، ويترجمون حواراتهم في منتج أدبي أو فني يصل المتلقي في كتاب أو مقالة صحفية أو عرض مسرحي أو فيلم سينمائي يحترم الذائقة البصرية للمشاهد مثلما يحترم عقله.
هكذا كان حال مقاهي كثيرة تسترخي على ضفاف الأنهار في القاهرة وبغداد، وعلى شواطيء البحار في تونس وطنجة وأغادير وبيروت، وتلوذ بدفء المدينة في أزقة القدس ودمشق وعمّان.
وقد تحول بعض هذه المقاهي إلى صالونات ثقافية لها روادها الدائمون من الأدباء البارزين في بلادهم، وهم أيضا لهم مريدوهم من المشتغلين في الأدب والفن.
وإذا كانت مقاهي مثل "ريش" في القاهرة، و"هافانا" في دمشق و"الهورس شو" في بيروت مقرات دائمة لكبار الكتاب والشعراء العرب، فإن مقاهي أخرى جذبت أعدادًا كبيرة من هواة الأدب وبعض محترفيه من أبناء الجيل الثاني بعد نجوم الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
كنت واحدًا من هؤلاء، وقد خبرت في المقهى جدوى التفكير الجدلي، وانحزت إلى الحداثة كحالة وعي وليس مجرد شكل للقصيدة.
في المقهى التقيت وحاورت وصادقت الكثيرين من أصحاب أسماء معروفة في الحياة الثقافية العربية، فعرفت في مقهى "الفينيق" في عمان الشاعر العراقي الكبير الراحل عبد الوهاب البياتي، والأستاذ الفلسطيني الجليل الراحل محمد خالد البطراوي صاحب الرؤية النقدية التجديدية للعقل العربي، والصديق الشاعر والكاتب المبدع الراحل خيري منصور الذي كان من أكثر كتاب العربية إدهاشًا وتأثيرًا حسيًا وذهنيًا على القارئ.
كان المقهى أساسيا في حياتنا، ولم يكن مجرد مكان لقتل الوقت الفائض. لكن التجربة لم تخل من النكوص ومن الصدمة، فقد تحوّل المقهى في بداية حرب الخليج الثانية إلى ساحة مواجهة بين أصحاب المواقف السياسية المتصارعة، وصارت الحوارات مناسبات لاستعراض المواقف المحسوبة التي غالبا ما كانت تتحول إلى فواتير مالية.
كنت مع العراق، وفي الصف العربي المعارض للعبث الأمريكي، وكنت أعبّر عن موقفي في مقالاتي المنشورة، وقد شعرت بأنني أنتمي إلى الأغلبية في الشارع وفي الوسطين الإعلامي والثقافي.
وعندما بدأت الصواريخ العراقية تسقط على تل أبيب علت الأصوات في الشارع الأردني تأييدا لبغداد ورفضا لواشنطن، وتزايدت أعداد المتطوعين للقتال دفاعًا عن عاصمة الرشيد التي صدمتنا فيما بعد بسقوطها السريع واستسلامها للغزاة.
كان المزاج حادًا جدًا في المقهى، وبلغ الخلاف بين بعض الرواد حد القطيعة وتجنب تبادل التحية. لم يزعجني الأمر لأنني كنت مقتنعًا بصواب اصطفافي مع العراق ضد الأمريكان.
وكنت أعرف أنّ صفقات تتم في المقهى وخارجه لشراء المواقف، لكنني لم أعرف أنني كنت مستهدفا بهذه الصفقات المشبوهة إلا عندما جاء إلى طاولتي في المقهى صحفي هامشي وفي يده رزمة من الأوراق المطبوعة عرفت لاحقا أنّها مسودة كتاب يمجد زعيمًا تبحث سفارة بلاده عن اسم مؤلف لهذا الحشو من الأكاذيب.
عرض عليّ الصحفي وضع اسمي على الكتاب مقابل مبلغ كبير من الدولارات.. بالطبع رفضت العرض بأدب جم وطردت الصحفي من الطاولة ومن المقهى مودعًا إيّاه بألفاظ لا يمكن كتابتها احتراما للقارئ الكريم.. ثم صدر الكتاب باسم صحفي متقدم في السن ومتأخر في الوعي.
كان المقهى في ذلك الوقت منتدى ومكتبة في آن، وكان يندر أن يدخل أحد من باب المقهى دون أن يكون في يده كتاب أو مجموعة من الكتب. واعترف أنني قرأت عشرات الكتب التي سطوت عليها من الأصدقاء في المقهى، وربما كانت هذه "البلطجة" ضرورية لكاتب لا يملك ما يكفي من المال لشراء الإصدارات الجديدة التي تبالغ دور النشر العربية في أسعارها، باعتبارها سلعة ترفيهية لا يشتريها إلا المقتدرين الذين لا يضطرون للبحث عن لقمة العيش في مجلات وجرائد تتشابه مع مكبات النفايات في ما تحتويه من "زبالة" مكتوبة.
كان المقهى مختلفا، وكانت القهوة تبرد في الفناجين لكنها تُشرب حتى آخر قطرة، ولم يكن هناك من يعتبر المقهى مجرد مكان للقاء عاطفي، يكون الكابوتشينو حاضرا فيه.
تغيرت حياتنا وتغير شكل ومضمون المقهى العربي ليصير مجرد "مصلحة"، وليكون مجرد مكان لتلقيط العيش. •