امير الخطيب فنان تشكيلى.. مائة عام من الإبداع

صباح الخير
يوم نهضت الشمس من مهجعها وقبلت خد أرض الرافدين باسمة.. رآها أبى.. ابتسم وبكى.. هكذا ولد الفن فى بلاد الرافدين.. تميز الفن العراقى عن غيره منذ العصور الأولى لفجر التاريخ بميزات تجعله فريدًا لا يضاهيه أى شكل، فالشكل السومرى مثلًا، يختلف عن أى شكل آخر من نظرائه فى ذات العصر أو بعده، والشكل الفرعونى له ميزاته الخاصة وكذلك الفينيقى وحضارة «تخت جمشيد» الفارسية، فالشكل الرافدينى أخذ يتطور من الرقم الطينى إلى البابلى، ومن ثم الآشورى، وبقيت عجلة الفن الرافدينى لا تشبه غيرها فريدة واستثنائية.
ولو مررنا سريعًا بالحقب التى تلت الآشورية لوجدنا أن هناك فنًا رافدينيًا راقيًا فى مرحلة قبل ظهور الإسلام، ومن ثم ظهور المدرسة البغدادية على يد رائدها فى العصر العباسى الفنان (يحيى الواسطى)، فالواسطى الذى أرشف لنا طرقًا لحياة الإنسان فى بغداد خلال المرحلة العباسية وأثر بشكل كبير على ظهور المدرسة البغدادية.
رسم الواسطى المقامات وترك أهم مخطوطاته فى كتاب ألف ليلة وليلة، وما أعقبه من الرسومات التى تؤرشف للحياة البغداية وكيفية التعامل التجارى فى المدن وفى البادية.
وبعد انحسار الفن بشكل عام فى جميع البلدان الإسلامية نتيجة فهم مغلوط لحديث نبوى مختلف عليه أخرجه الإسلام المتطرف فى العصر العباسى، لم تقم لفن التصوير قائمة، حتى مجىء الدولة العثمانية التى كانت بجوار أوروبا، حيث تأثرت الدولة العثمانية بالفن الأوروبى، وانتشرت رسوم الجداريات التى كان لها حصة فى العراق أيضًا أواخر العصر العثمانى، فقد ظهر فنان يدعى (مولوى نيازى) فى بغداد سنة 1835 رسم المنمنات بأسلوب أوروبى، وجاء بعده الضباط العرب الذين كانوا فى الجيش العثمانى وتدربوا على رسم الخرائط والمناظر الطبيعية أيضًا، فظهر (عبدالقادر الرسام) وكان أشهرهم، و(عثمان بك)، (ناطق بك)، (عزت بك)، (الحاج محمد سليم على الموصلى)، (حسن سامى) والد الفنان (عطا صبرى)، (محمد صالح زكى)، (عاصم حافظ)، (ناصر عونى)، (فتحى صفوة)، (شوكت سليمان الخفاف) وغيرهم، وجاء رسم (عبد القادر الرسام) للمناظر الطبيعية متأثرًا بالأسلوب الأوروبى، فاعتبرت هذه الفترة بداية الفن الحديث فى العراق، وكان هذا أواخر الدولة العثمانية.
ويقول البعض: إن بدايات الفن الحديث فى العراق ، كانت حين زارت «المس بيل» فى زمن الملك فيصل الأول معرضًا للرسوم سنة 1921، وهذا يعنى أنه كان هناك اهتمام بالفن كونه فنًا إذ تقام له معارض كالتى تقام فى أوروبا ، ولو تفحصنا بعض المعروضات فى ذلك المعرض لوجدنا أن هناك حركة فن وإن كانت بدائية، ولكن وبعد أن أعجب الملك (غازى) ثانى ملوك المملكة العراقية بالفنون عند زيارته إلى لندن، أرسل أول بعثة أكاديمية لتعلم فن الرسم، سنة 1933 حيث أرسل الفنان العراقى المعروف (فائق حسن) للدراسة فى أوروبا ومن بعده أعقبته بعثات أخرى كان من بينها الفنان العراقى (جواد سليم)، ولم ينضب معين الفن فى العراق، وكان على الدوام منبعًا لأهم الفنانين المؤثرين فى تاريخ الفن العالمى.
بعد ذلك جاء بيان جماعة بغداد للفن الحديث كتأسيس لقواعد الفن الحديث فى العراق فالبيان الذى نشره وأذاعه الفنان (جواد سليم) لم يكن بيانًا عاديًا على الإطلاق، بل أسس إلى ما سمى فيما بعد بالفن الحديث، بعد ذلك جاءت مجموعة المجددين الذين أكدوا أن الفن فى العراق هو ركيزة أساسية للانطلاق إلى العالمية، فقد شهد الفن العراقى فى عقد السبعينيات من القرن الماضى تسجيل أول تاريخ له فى الفن العالمى من خلال فنانين أثروا الحركة الفنية العالمية مثل الكبير والأهم عالميًا (رافع الناصرى) والفنان المؤثر القدير (ضياء العزاوى) وغيرهم الكثير.
حتى حدث الطوفان، وبعده لم يتوقف الفنان العراقى عن البحث والمشاركة فى حركة الفن العالمى، فقد جاء جيل غنى بكل مفرداته، لكنه هذه المرة استطاع كسر جدار الخوف الذى مارسته السلطات العراقية على الفنان لفترة ثلاثة عقود من الزمن، فانطلق إلى فضاء أوسع وأكثر رحابة، بعد الطوفان انتشر الفنانون العراقيون فى جميع أنحاء العالم، فصاروا يمثلون بلدان الاغتراب فى أكثر التظاهرات التشكيلية فى العالم سعة مثل بينالى فينسيا وغيرها من التظاهرات العالمية ذائعة الصيت.
فنانون شباب غادروا الوطن الأم فى حقب مختلفة، منهم من غادر فى سبعينيات القرن الماضى ومنهم من غادر فى ثمانينياته وتسعينياته وحتى بداية القرن الحالى، وأبسط ما يقال عنهم أنهم أغنوا الحركة الفنية، ومن ثم الفكرية العالمية، رغم تكميم الأفواه الذى كانت تمارسه السلطات السابقة والحاليّة.
فمن غادر فى السبعينيات مثل الفنان الكبير (نعمان هادى)، والفنان المقتدر (صلاح جياد)، وصاحب نظرية واقعية الكم الفنان الكبير (محمود صبرى)، وكذلك الفنان (حميد العطار)، شكلوا علامات بارزة فى سماء الفن فى عموم أوروبا وكان يحسب لهم ألف حساب كما يقال.
أما الجيل الذى غادر الوطن الأم إبان الثمانينيات والتسعينيات نتيجة القهر والتجويع العالمى للشعب العراقى فى الحصار المفروض قسرًا، فغادروا إلى بلدان الجوار العراقى كالفنان والمنظر الفنى الشامل (شاكر حسن آل سعيد)، والفنان القدير (رافع الناصرى)، والفنان (على طالب) وآخرين غيرهم ممن أبهروا الفنانين فى عموم العالم وأضافوا أبعادًا ورؤى جديدة إلى الفن العالمى.