هل نسمع صوتها: الفلاحة المصرية تزغرد الأرض تحت أقدامها

بهيجة حسين
نعم تزغرد الأرض تحت أقدامها، وتشرق الشمس مع طلة عيونها على الدنيا، ربما لا نعرفها جيدا ولكن تعرفها مسام الأرض التى تتفتح بضربة فأس بذراعها، هى التى تعرف أسرار الأرض، وتعرف متى تبوح ومتى تعطى من رحمها اللقمة والهدمة، وتعرف أنها السند للظهر. وهى التى أرضعت مع حليب ثديها أن «الأرض عرض».
هى التى عاشت على ضفاف النهر منذ فجر التاريخ تبذر البذور لتنبت بذورها حضارة أضاءت بنورها الدنيا كلها. هى التى تطعم صغارها وتسقيهم بيديها, صغارها فى العشش أفراخ «تصوصو» وصغارها فى الحجرة الضيقة أولاد بطنها وعمرها أفراخ تخطو على الأرض. وتكبر معهم أحلامها بهم. هى أم محمد وأم مينا. هى سميحة ووردة وإيزيس ودميانة. هى الفلاحة المصرية.
هى كل هؤلاء اللواتى ستحكى عنهن بلغتها البسيطة، تحكى عن وجع الشقاء دون أن تفارق وجهها علامات الرضا هى «نعمات» أو خالتى أم نجيب: «أنا مش عارفة عندى كام سنة يا أختى متعديش، احسبيها كده أنا متجوزة عمك أبو نجيب من ييجى تلاتين سنة وكنت وقتها لسه جاهلة صغيرة يعنى مكملتش اتناشر سنة، قاموا إيه سننونى وجوزونى، وبس عشت زى الناس أهل جوزى عندهم قيراطين أرض كنت بنزل أزرع معاهم، وخلفت من العيال خمسة مات منهم تلاته بالسخونة والحمى ومعايا اتنين. كان نفسى أعلمهم فى المدارس بس مقدرتش أصل بعيد عنك أبو نجيب بين يوم وليلة رقد وبطنه اتنفخت قدامه جاله الكبد وافتكره ربنا، طلعت العيلين من المدرسة واشتغلنا أنا وهمه أنا فى غيطان الناس والواد والبت بيروحوا مع الحاج محمد مقاول أنفار من بلدنا يقطفوا ياسمين من المزارع أو يجمعوا فاكهة وخضار فى مزارع تانية المهم يجيبوا قرش نصرف منه على لقمتنا، وأنا لما ضهرى انحنى من الشغل فى الغيطان قلت أربى فرختين منها نبيع بيضها ولما يقطعوا بيض نبيعهم».
لم تتركها «بسمة» تكمل حكايتها قاطعتها لتحكى هى أو تفضفض كما قالت لأم نجيب: «شوفى يا أبله أنا حأجيب من الآخر المثل بيقول بخت أمى أخدته فى كمى وأنا قدامك أمى اشتغلت فى غيطان الناس من وهيه عيله ولما تعبت وجاها انزلاق غضروفى قعدت فى البيت وبتشتغل برضه فى فرز الملوخية، وسعر الكيلو 10 قروش، الواحدة مهما تعمل متقدرش تفرز أكتر من 30 كيلو فى اليوم، طبعا أنا أخدت مكانها فى الشغل بشتغل فى مزارع الفاكهة اللى على الطريق.
لم تتوقف الحكايات عند خالتى «أم نجيب» ولا «بسمة» التى لها من اسمها نصيب رغم آثار الفقر والشقاء على وجهها فهى حقا جميلة. تداخلت أصواتهن وهن يصفن كيف يحملهن مقاول الأنفار وكأنهن مواشى فى سيارة نصف نقل متهالكة ليست معرضة للسقوط فى الترع أو على الطريق فحسب، بل شهدت الطرق عشرات الحوادث راح فيها عشرات الضحايا من عمال التراحيل. تداخلت الأصوات وهن يحكين عن استغلال مقاول الأنفار لهن، وعن التحرش الذى يتعرضن له «بييجى المهندس ولا الملاحظ يقرب من البنت ويوشوشها فى ودانها بكلام فارغ واللى ترفض ولا تشتكى تطرد من الشغل ده غير الشتيمة وقلة الأدب طول النهار».
تحدثن عن زميلتهن التى لدغها ثعبان ولم يجدوا طبيباً ولا وحدة صحية تسعفها فماتت. تحدثن عن الأنيميا التى امتصت دماء أطفالهن أو هكذا قالوها: «الأنيميا مصت دم العيال والوحدة الصحية بعيدة ومفيهاش لا دكاترة ولا علاج». تحدثن عن أمراضهن وأسبابها «إحنا طول النهار بنشم كيماوى ومبيدات وبنرش للزرع علشان يكبر، وبنشيل فوق دماغنا أقفاص الفاكهة والخضار من المزرعة للطريق وبنمشى بيها ييجى تلاته كيلو على ما نوصل، وحتى بيوتنا مفيهاش ميه حلوة ولا مجارى يعنى المرض محاصرنا من كل ناحية».
هى فى الأرقام
تحدثن عن أحلامهن بمستقبل أكثر إنسانية لأولادهن: «نفسنا العيال تتعلم وتشتغل وتبقى أحسن مننا واحنا بنكافح على قد ما نقدر علشانهم».
هى التى قد تكون رقماً فى السجلات، وجملة تعريف بها فى الكتب والأبحاث العلمية. هى العاملة الريفية أو الزراعية.
هى المصرية العاملة بيديها فى الزراعة سواء كانت منفردة أو مشاركة لزوجها أو أبيها، ضمن عمالة الزراعة أو التراحيل الموسمية أو كمستأجرة أو مالكة لمساحة قزمية من الأرض، تعمل عليها وتعيش منها هى وأسرتها، بالإضافة لعملها المنزلى فى تربية ورعاية الطيور والحيوانات. وبلغة الأرقام الصادرة فى دراسات وبيانات فى عام 2017 عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء أن 42.8 % من النساء فى مصر يعملن فى المجال الزراعى، مع مراعاة أن متوسط ملكية الإناث للأرض الزراعية لا تتجاوز نسبة 3 % من حجم ملكية الأرض الزراعية مما يعنى أن النساء فى بلادنا لا يتملكن الأرض إلا قليلا حتى لو كانت حقهن الشرعى فى الميراث الذى يحرمهن منه العرف والتقاليد وغياب القوانين الرادعة لمن يحرمهن من هذا الحق.
وتظهر الأرقام الرسمية حجم العبء والمسئولية والمعاناة الواقعة على أكتاف المرأة الريفية عموما والعاملات الزراعيات خصوصا أن النساء المعيلات فى الريف تصل نسبتهن إلى 81.6 %، وتشمل الإعالة الأبناء والأب والأم والزوج والإخوة.
وقدرت دراسات سابقة أن المرأة الريفية تنتج نحو 40 % من الحاصلات الزراعية، بالإضافة إلى دورها المنفرد فى الإنتاج الحيوانى، وهوالعمل المنزلى الذى لاتتقاضى عنه أجرا فتقوم منفردة بتربية الطيور ورعاية الحيوانات وتخزين الحبوب وتجفيف بعض أنواع الخضروات والخبيز وهو العمل الذى يعد من أعمدة الدخل فى الإنفاق على الأسرة كما أنها وبقوة الأعراف تعمل بدون أجر فى ارض عائلتها أو عائلة الزوج إن وجدت، أى إنها تعمل «بلقمتها» و«هدمتها» إن أمكن.
ولا بد أو من العدل أن نذكر أن عبء جلب المياه من الحنفيات العمومية للبيوت المحرومة من المياه النقية، هى مهمة تاريخية كسرت ظهور النساء منذ أيام ملء الجرار من الترع. وكأن قدرهن أن يدرن فى حلقة جلب المياه بالوراثة، وربما يغنى عن الاسترسال فى الوصف أن نستعيد القهر المجسد فى رواية وفيلم «الحرام».
هدية لهن فى العيد
ربما لا تعرف الفلاحة المصرية أن مصر تحتفل منذ عام 1952 بعيد الفلاح، منذ 66 عاما، ولا تعرف أيضا أن الأمم المتحدة تحتفل فى 15 أكتوبر من كل عام بيوم المرأة الريفية تقديرا واعترافا بدورها فى التنمية الزراعية وتحسين مستوى الأمن الغذائى، وتقديرا واعترافا بما يقع على كاهلها من أدوار وأعباء ليس فقط فى دعم أسرتها اقتصاديا ولكن فى دعم الاقتصاد القومى. وأيضا قد لا تعرف المرأة الريفية أن الدستور المصرى 2014 نص على مناهضة التمييز ضد النساء وجرم العنف ضد المرأة ونص على الالتزام بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وأقر بحق العمالة الموسمية بكل أشكالها فى الحماية القانونية التى تضمن لها جميع الحقوق الاقتصادية والصحية والتأمينية.
أى حقها فى الرعاية الصحية الجيدة والمتاحة ،حقها فى الكهرباء والمياه النقية والمسكن الانسانى، حقها فى التأمين الصحى والاجتماعى، حقها فى تعليم أولادها ورعايتهم حتى لا يظل المثل القائل «بخت أمى أخدته فى كمى» هو القدر المحتوم الذى يعيد إنتاج القهر فى الأبناء.
ولكن كثير مما نص عليه الدستور لم يشرع حتى الآن فى قوانين من لحم ودم، قوانين تعيش بيننا وتمنحنا حقوقنا الدستورية، لذا هل تحلم المرأة الريفية بهدية فى عيد الفلاح فى قوانين تحميها وتصون حقوقها؟ وهل يتحقق الحلم هدية لحفيدة من وضعوا أول بذرة فى رحم الأرض وفى رحم الحياة وصنعوا الحضارة؟وكل سنة وأنت بهية يا بهية؟.•