سمات الشخصية المصرية.. نظرة نقدية

صباح الخير
د. أنور مغيث مدير المركز القومى للترجمة
ما أسهل الحديث عن الشخصية المصرية.. فيكفى أن يتذكر الإنسان ما يسمعه ليل نهار فى وسائل الإعلام مسبوقًا بتعبير «نحن المصريين». ولكن سرعان ما يلاحظ أن خلف هذا التعبير يقال دائمًا الشىء ونقيضه.
فنحن أحيانًا نستمع إلى موكب كبير من الصفات الإيجابية عن المصريين بناة الحضارة الذين علّموا البشرية، الذين يتسمون بالشهامة والتسامح وغيرهما من الصفات، وأحيانًا ينهمر أمامنا سيل آخر من الصفات السلبية عن المصريين الكسالى المتعصبين الذين يتهربون من المسئوليات باللجوء إلى الفهلوة.
بالطبع لا يمكن لشعب أن يتسم بهذه السمات مجتمعة. يمكننا أن نفسر هذا التضارب بأنه خطاب يستخدم على سبيل التحفيز أو الزجر، بالضبط كما يفعل المدرس مع تلاميذه، فهو تارة يصفهم بأنهم شطار وأذكياء وتارة أخرى يصف نفس التلاميذ بأنهم بلداء ومستهترون، وكذلك أيضًا يفعل مدرب كرة القدم مع فريقه. لكنه على كل حال ليس وصفًا لسمات الشخصية. وهذا يعنى أن البحث عن سمات الشخصية المصرية فيما يتردد فى وسائل الإعلام ليس هو السبيل القويم.
اعرف نفسك
علينا إذن إذا أردنا أن نكون جادين للإجابة عن هذا السؤال أن نتبع منهجًا آخر ولا نكتفى بتجميع ما تلوكه الألسنة حولنا. ربما يكون من الأفضل أن يعتبر الفرد نفسه، بما أنه مصرى، نموذجًا للشعب المصرى بأسره. عليه إذن أن يتأمل ويحاول بجدية أن يسبر أغوار نفسه لكى يكتشف الجوهر الكامن فى شخصيته ليعرف من خلاله سمات الشخصية المصرية. ولكن هذا المنهج لن يفيد كثيرًا، لأن الفرد يتعرف على نفسه من خلال ما يميزه عن الآخرين لا ما يجمعه بهم، فمن خلال ردود أفعال أصدقائه أو حتى أشقائه يكتشف المرء أنه عصبى فى مقابل الآخر الأكثر هدوءًا، أو أنه شجاع أو جبان أو كريم أو حريص من خلال مقارنة نفسه بالآخرين، وبالتالى هذا المنهج قد يفيد الفرد فى التعرف على نفسه لكنه لن يفيد فى التعرف على سمات شعب من الشعوب.
شخصية الشعب فى أمثاله الشعبية
أم فى رأى الشعوب الأخرى عنه؟
هناك مسلك آخر يميل إليه بعض علماء الأنثروبولوجيا يحاول أن يستنتج سمات شعب ما من خلال أمثاله العامية. وهو منهج خادع لأننا لو فحصنا الأمثال الشعبية لوجدناها مليئة بالمتناقضات، فهناك أمثال ترى فى التأنى السلامة وأخرى تبارك الاستعجال، وأمثال تدعو للتمرد وأخرى توصى المرء بأن يحنى الرأس للعاصفة.. أمثال تشيد بفوائد السفر وأخرى تشدد على البقاء فى الوطن.
ولو قارنا أمثال شعب من الشعوب بأمثال شعب آخر، لوجدنا بينهما كثيرًا من التشابه، فالمياه لا تصعد إلى العالى، مثل مشترك بين كثير من الشعوب، ونحن نقول فى أمثالنا «صاحب بالين كداب»، ويقول الفرنسيون «لا يمكن للمرء أن يجرى وراء أرنبين»، الأمثال تنتمى إلى حقبة الثقافة الشفاهية لدى أى شعب، حيث تعبر عن خلاصة الحكمة التى تتناقلها أجيال لا تعرف الكتابة. فهى بمثابة مستودع يستدعى منه المرء حسب الحاجة المبدأ الذى يضفى شرعية على سلوكه، سواء كان مندفعًا أو مترددًا، مسرفًا أو بخيلًا. وهذه هى وظيفتها لدى كل الشعوب، وبالتالى لا يمكن التعرف على شخصية شعب من خلال أمثاله الشائعة.
عرفنا أنه من العبث أن نعرف سمات شعب من خلال ما يقوله هو عن نفسه، فلنحاول إذن أن نعرف سمات هذا الشعب من خلال ما تقوله عنه الشعوب الأخرى. وهو أيضًا سبيل محفوف بالمخاطر لأن ما تقوله الشعوب الأخرى يكون فى العادة سلبيًا، وكان الكاتب المسرحى النرويجى هنريك إبسن لا يعترف بشىء اسمه السمات الشخصية لشعب من الشعوب ولهذا كان يعرفها ساخرًا بقوله «السمات القومية لشعب ما هى مجموع الصفات السلبية التى يطلقها عليه شعب آخر». فلو سألت الفرنسيين عن الألمان لقالوا أنهم شعب قاسٍ و«حمار شغل» ويفتقر إلى الذوق، أما لو سألت الألمان عن الفرنسيين لقالوا إنهم كسالى وتافهون وطفيليون. علينا إذن أن نتفادى استنتاج سمات الشخصية المصرية من أحكام الشعوب الأخرى.
يبدو أن الأمر بالفعل شاق، وربما يحسن بنا أن نتخلى عن وهم اسمه سمات الشخصية المصرية. ولكن يبقى لنا ملجأ أخير نحاول البحث فيه هو التاريخ، فتاريخنا يمتد كشعب يعيش فى مجتمع منظم يعرف الدولة ويعرف القانون إلى حوالى سبعة آلاف سنة وهو ما لا يتوافر لشعوب كثيرة. وبالتأكيد عرف الشعب تطورات كبيرة جعلت الكثير من السمات تتوارى لتحل محلها سمات أخرى. فالتعامل مع الزمن فى مجتمع زراعى يختلف عنه فى مجتمع صناعى، وبالتالى إذا قلت عن المصريين إنهم لا يراعون الزمن فهى صفة تنطبق عليهم فى ظل نظام إنتاجى معين لكنها ستختفى بالضرورة مع تبنى نظام إنتاجى يعتمد على الصناعة والتكنولوجيا، كذلك الحال فى التآلف مع الفوضى أو مراعاة الانضباط هى سمات شخصية لكنها عابرة ومشروطة بالظرف التاريخى الذى يعيشه الشعب.
شعب مسالم.. ومقاوم
مرن.. وساخر..
يبقى إذن أمامنا محاولة البحث عن بعض السمات التى ظلت مشتركة ومستمرة عبر العصور حتى مع تخلى الشعب عن لغته التى يتحدثها ليتبنى لغة جديدة ويترك دينه الذى يؤمن به ويعتنق دينًا جديدًا. وهنا قد نجازف بإطلاق بعض السمات التى تميز الشخصية المصرية وتكون شواهدنا على ذلك أحداث التاريخ وما خلفه لنا المصريون من آداب، بالإضافة إلى أقوال الرحالة عبر العصور المختلفة. وهنا نجد تقريبًا شبه إجماع على سمات ثلاث: السمة الأولى هى النزعة السلمية، الشعب المصرى يضج من الظلم وقد يصبر عليه لكنه لا يتوقف عن المقاومة، إلا أنه ينفر من حمل السلاح وإراقة الدماء فى مواجهة الظلم، وهذا يجعله يتبنى أساليب أخرى أقل عنفًا وأكثر فاعلية. ويكفى فى هذا الصدد ما قاله الزعيم غاندى أنه تعلم أسلوب مقاومة المستعمر عن طريق اللاعنف من خلال ثورة الشعب المصرى ضد الإنجليز عام ١٩١٩.
السمة الثانية هى المرونة، فالشعب المصرى فى أغلب فترات التاريخ يسمح للآخرين بممارسة شعائرهم وارتداء أزيائهم ويتمسك بمعتقداته لكنه يتفهم أن يختار الآخرون سبيلًا آخر. وهناك أكثر من دليل على ذلك يتبدى فى أرشيفات الحكم المصرى، وكيف أن الحكومة كانت دائمًا تدير مدنًا مليئة بطوائف متعددة وأجناس مختلفة. وفى وصف رحلات الأب فابريس الإيطالى إلى مصر فى القرن الرابع عشر، أى فى زمن المماليك، يبدى اندهاشه من التعايش الهادئ بين كل هذه الطوائف واللغات والأعراق داخل مدينة القاهرة. تنوع لا يمكن فى نظره تصوره داخل أى مدينة أوروبية، بل تتميز القاهرة أيضًا بهذا التعايش السلمى والاختلاط بين مدن الشرق نفسه.
السمة الثالثة هى خفة الدم والميل إلى السخرية. وقد عبر ابن بطوطة وابن جبير القادمين من المغرب عن إعجابهما ببشاشة المصريين عند استقبالهم للغرباء وميلهم إلى الضحك حتى عندما يشكون سوء أحوالهم.
فى النهاية هناك سمات فى الشخصية المصرية سوف يجبرنا التاريخ على أن نتخلى عنها، وسنفعل ذلك غير آسفين. وسمات أخرى سوف يجبرنا على اكتسابها، وسنقوم بذلك ونحن مرحبون. كل ما نتمناه أن نحافظ، رغم تقلبات التاريخ، على هذه السمات الثلاث الرئيسية: السلمية والمرونة وخفة الدم. •