الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

من دفتر المقاومة الشعبية فى سيناء أبطال الثانوية العامة تحت الاحتلال

من دفتر المقاومة الشعبية فى سيناء أبطال الثانوية العامة تحت الاحتلال
من دفتر المقاومة الشعبية فى سيناء أبطال الثانوية العامة تحت الاحتلال


سنوات الدراسة وامتحانات الثانوية العامة، عند جيل كامل من أبناء سيناء، ذكريات من البطولة والصمود، ومقاومة ضد محاولات اختراق المناهج وأساليب التعليم.
الأجيال التى قررت أسرها عدم ترك سيناء ولا البيوت ولا المدارس، رغم الحياة تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلى خلال السنوات من «1967 وحتى 1982».

تمسك الطلاب بالمناهج المصرية التى تدرس فى كل محافظات مصر، رغم منعها من دخول سيناء، ولجأوا إلى هيئة الصليب الأحمر الدولية، لكى تعقد امتحانات الثانوية العامة على أرض سيناء، لتكون الامتحانات والتصحيح والنتائج مصرية.
لم يكن الأمر سهلا، فلا توجد كتب للمناهج المصرية، وهاجر أغلب المدرسين إلى المحافظات المصرية الأخرى، ووجد الطلاب أنفسهم أمام معركة تحدٍ وصمود، لا زالت تحكيها الأجيال.
هان عليهم ضياع بعض سنوات الدراسة، من أجل المقاومة والصمود، ومن أجل أن تبقى الدراسة مصرية، والامتحانات مصرية، وعلى أرض سيناء، مثلما يشعر طلاب الثانوية العامة فى سيناء الآن نفس الفرحة ومشاعر الصمود، لأن امتحانات الثانوية العامة تعقد على أرض سيناء، رغم أجواء الحرب على الإرهاب واستمرار العملية الشاملة 2018.
كان امتحان الهندسة لطلاب الشهادة الإعدادية بسيناء، التى لم تكن مقسمة إلى شمال وجنوب وقتها - وشاهد الطلاب خلال اللجنة الطائرات الإسرائيلية تحلق فوق المدارس، وسمعوا أصوات الضرب المخيفة، ففروا هاربين.
الدكتور قدرى الكاشف، أستاذ الاقتصاد، بالمعهد العالى للسياحة بالعريش، 66 سنة، كان واحدا من هؤلاء الطلاب، الذين لم يتمكنوا من تكملة باقى امتحاناتهم، فى يونيو 1967 لاستمرار الحرب، وتوقفت الدراسة طوال عام 1968.
ويحكى د. قدرى ابن العريش أبا عن جد: حاولت سلطة الاحتلال توزيع المنهج الدراسى الإسرائيلى على الطلبة، منهج مكتوب باللغة العربية، كان يتم تدرسيه للفلسطينيين «أو عرب 1948» فرفض الطلبة والمدرسون والأهالى استلام الكتب «حافظنا على كتبنا جيلا بعد جيل، لأن سلطة الاحتلال كانت تمنع دخول الكتب المدرسية إلى سيناء، كنا أحيانا نتبادل كتابا فى أحد المناهج، يكتبه كل واحد بخط يده، ويعطيه للآخر، لعدم توافر نسخ أخرى».
«بعد الحرب لم يكن هناك معلمون للغة الإنجليزية أو الرياضيات من أهل سيناء، فبدأ الطلاب المتميزون من السنوات الأعلى فى التدريس للطلاب فى السنوات الأدنى تطوعا، كان أغلب المعلمين حاصلين على ثانوية عامة أو دبلوم، كما تطوع قدامو الأزهريين لإمامة المساجد، وانتقلت فكرة التطوع إلى كل المجالات لسد احتياجات المجتمع، حتى بدأت مديرية التعليم فى الاستعانة بمعلمين من غزة ومن رفح».
يتذكر د. قدرى، كيف كوّن المعلمون والطلاب وأولياء الأمور وضباط مصريون، جبهة لكى تطلب من هيئة الصليب الأحمر الإشراف على امتحانات الثانوية العامة، لتعقد داخل سيناء، بالاتفاق بين الحكومتين المصرية والإسرائيلية.
«كان أعضاء الصليب الأحمر يعبرون قناة السويس يوميا لأخذ ورق الأسئلة من جانب القاهرة، ثم يعودون نفس المسافة بعد انتهاء اللجنة بأوراق الإجابات بعد تشميع الأجولة بالشمع الأحمر، وكنت ضمن أول دفعة ثانوية عامة «يطلع» منها طلاب للالتحاق بالجامعة 1972، ورشحت للالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة».
قامت حرب 1973 وانقطعت الطرق إلى القاهرة، وكاد الطالب قدرى وزملاؤه أن يفقدوا الأمل فى الالتحاق بالجامعة، لكنهم قرروا خوض مغامرة تشبه ما قام به أبطال فيلم «الطريق إلى إيلات»، جمع 30 طالبا وطالبة بعضهم، وودعوا أهلهم، واستقلوا عربات إلى الضفة الغربية، ومنها إلى الأردن، ولجأوا للسفارة المصرية هناك.
«اعتبرناها رحلة وداع، لأننا لم نكن نعرف إلى أين ستسير بنا الأمور، وتركنا الأهل وسط الدموع، وبالصدفة لم يسألنا أحد من النقاط التى عبرناها، إلى أين نحن ذاهبون» يحكى قدرى.
ويتابع: خاطبت السفارة المصرية وزارة الخارجية فى القاهرة، بشأن السماح لنا بالسفر للقاهرة، وبقينا 10 أيام فى انتظار الرد، ولم يكن معنا ثمن تذاكر السفر، ولم نكن نستطيع دخول سيناء مرة أخرى.
الطريق إلى جامعة القاهرة
وجاء الرد، أرسلت القاهرة طائرة لنستقلها فى مساء 31 ديسمبر 1973، ليصل الطلاب الثلاثون إلى مطار القاهرة مع فجر أول أيام عام 1974، وكان العام الدراسى قد بدأ فى الجامعات قبلها بثلاثة أشهر، فكان على هؤلاء الطلاب أن يواصلوا الليل بالنهار لينجحوا «كنا نعانى،  لكنها كانت معاناة لذيذة، لأننا كنا عايزين نكمل تعليمنا».
كان نصيب كل طالب من طلاب مدن بورسعيد والإسماعيلية والسويس وسيناء، 6 جنيهات، ومثلها بدل سكن، لتساعدهم على الحياة فى القاهرة «كنا ندخل سيناء فى عطلة نهاية العام الدراسى فى الجامعة عن طريق الصليب الأحمر، ويستغرق التصريح شهرين، وكان الأهل والجيران يشيرون إلينا بفخر كلما سرنا فى المدينة، وكان المجتمع المصرى كله يرى فى طلاب سيناء ومدن القناة مجموعة من الأبطال».
من بين دفعة الثانوية العامة الصامدين مع د. قدرى، د. مجدى رفاعى - طبيب بيطرى، الطبيب خالد السلامية، المرحومة إحسان محمد رفاعى،  وغيرهم وقد كونوا لأنفسهم صفحة على فيس بوك أسموها «مجموعة 3 ثانوى» ليتذكروا تلك الأيام، وأحيانا يتجمعون عند واحد منهم.
صوت العرب من القاهرة: البرنامج الموجه لأهالى سيناء - نتيجة الثانوية العامة
«اعتمدنا على ذاكرة مدرسينا لنكتب المناهج فى كراساتنا، ثم نهديها إلى زملائنا من بعدنا، ورفضنا كطلاب محاولات تدريس اللغة العبرية فى مدارسنا، وكان إصرارنا على أن تكون الامتحانات من خلال ما يضعه مدرسونا بأنفسهم وفى مدارسنا «تتذكر د.سهام جبريل أستاذ التاريخ والحضارة بجامعة العريش..»..
تحلق د. سهام بناظريها إلى السماء، وهى تتذكر امتحانات الثانوية العامة التى خاضتها تحت إشراف هيئة الصليب الأحمر، وأنها سمعت النتيجة ومجموعها، عبر «البرنامج الموجه لأهل سيناء» بإذاعة صوت العرب.
كانت إجراءات التنسيق للطلبة الناجحين لالتحاقهم بالجامعات المصرية، تتم عن طريق هيئة الصليب الأحمر أيضا، بطريقة الأفواج لطلبة أبناء سيناء، وبدأ عمل هذه الرحلات عام 1972.
تتذكر د. سهام كيف اُمتلئت جامعات القاهرة والإسكندرية والمنصورة والزقازيق وأسيوط بنخبة من شباب وفتيات سيناء الجامعيات المتميزات فى العديد من كليات القمة، وكان للمقر المؤقت لمحافظة سيناء بالقاهرة، دور كبير فى إيواء الطلبة ورعايتهم، وساهمت الجامعات فى صرف مكافآت للطلاب وتسكينهم مجانا بالمدن الجامعية وبيوت الطلبة، على نفقة وزارة الشئون الاجتماعية.
شجع الاهتمام بطلاب سيناء باقى العائلات ليدفعوا أبناءهم وبناتهم للتعليم الجامعى،  واستطاعت طالبات سيناء كسر القيود التى كانت تحظر على الفتاة أن تتزوج من غير ابن عمها، وتزوج بعضهن من زملاء الدراسة.
فى رأى د. سهام أن بنات سيناء فى تلك الفترة، ضربن أروع الأمثلة فى التفوق والمثابرة وقوة الشخصية والقدرة على التعبير والحوار والوعى بقضايا المجتمع واحتياجاته بشفافية وصراحة مطلقة، وما زالت الكثير منهن يشاركن فى تنمية سيناء، ويحكين قصص الصمود للأجيال.
زواج وتعليم برعاية الصليب الأحمر
بينما تتابع مديرة مديرية التربية والتعليم بشمال سيناء، المهندسة ليلى مرتجى،  إجراءات امتحانات الثانوية العامة، تتذكر عندما كانت فى الصف الثانى بمدرسة سعد زغلول الابتدائية، عندما اندلعت حرب 1967، حيث تتجمع كل مجموعة أسر فى بيت واحد، وما زالت تتذكر صوت ضرب النار والصواريخ، بعد أن دخلت الدبابات إلى الشوارع، وكانت شاهد عيان على «مشاهد الشهداء الصعبة» بحسب وصفها.
«بيوتنا كانت بالطين وحوائط عريضة وطابق واحد، فكانت تتحمل أكثر، ناس كتيرة هاجرت، لكن والدى رفض، وقال نموت هنا، لأن الهجرة بهدلة، وتحمل والدى الميكانيكى صعوبة توقف الحياة، وعدم وجود دخل ثابت مثل الموظفين، وسافر أكبر إخوتى الذى كان وقتها بالثالث الإعدادى،  عبر الأردن إلى القاهرة ليكمل تعليمه، ولم أره إلا بعد مرور 14 سنة، كنت فى الجامعة ومخطوبة».
الرحلات المدرسية كانت للأماكن المحتلة فى سوريا ولبنان وفلسطين، وكم صلت الطالبة ليلى فى القدس، وحصلت الطالبة ليلى مرتجى على الثانوية العامة، عام 77 بمجموع 73 أهّلها للالتحاق بالهندسة فلم يكن هناك دروس خصوصية، لأن المدرسين يأتون من غزة ويعودون يوميا إلى بيوتهم بعد اليوم الدراسى،  ولا كتب خارجية لأن الاحتلال يمنع دخولها، كان المراقبون أمريكيين، والامتحانات تحت إشراف الصليب الأحمر.
طبق على دفعة الطالبة ليلى إضافة نسبة 5% من الدرجات للمجموع لطلاب سيناء ومدن القناة التى كانت محتلة وقتها، وكان الوصول للجامعة يستغرق شهرين انتظارا لموعد الفوج، ومثلهما إذا أردنا العودة، لكن انتهت هذه المعاناة، بعد اتفاقية السلام فى 1979.
الأخت الكبيرة للمهندسة ليلى، وافقت على أن تتزوج ابن عمها فى القاهرة، بعدما أرسل صورته للأسرة، وسافرت برعاية الصليب الأحمر أيضا، ولم يكن سهلا عليها الزواج بشخص لم تره من قبل، وقصتها كانت قصة مكررة بين فتيات العريش وقتها. •