الجمعة 24 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

اعترافات توفيق الحكيم فى «سجن العمر»

اعترافات توفيق الحكيم فى «سجن العمر»
اعترافات توفيق الحكيم فى «سجن العمر»


«هذه الصفحات ليست مجرد سرد لتاريخ حياة، لكنها؛ تعليل وتفسير لحياة، إنى أرفع فيها الغطاء عن جهازى الآدمى لأفحص تركيب ذلك المحرك الذى نسميه الطبيعة أو الطبع، هذا المحرك المتحكم فى قدرتى، الموجه لمصيرى، من أى شيء صُنع؟»..
بهذه الكلمات لخص الكاتب والأديب الكبير توفيق الحكيم قصته فى بداية الحياة، والتى وصفها بـ «سجن العمر»، وجاءت فى كتاب يحمل نفس الاسم، وأضاف «لابد من بعض الشجاعة والصراحة لنعرف على الأقل شيئا عن تركيب طبعنا، هذا الطبع الذى يسجننا طول العمر».

تحدث الحكيم فى بداية الكتاب عن كيف تم التعارف بين والديه، وعن مولده، وظروف نشأته، فقال: «قالوا عنى إننى آثرت الصمت وأنا رضيع، وزعموا أننى كنت أنظر إلى ضوء المصباح، وأصبعى فى فمى شأن المتعجب، الأم زعمت أنها معجزة، ولكنى كنت أرى السبب فى أننى كنت مجهدا مكدودا، وربما كان الأفضل أن يقال إنى آثرت الصمت والسكون بخلا، أو اقتصادا فى صياح لا طائل من ورائه.
كما حكى الحكيم عن قيمة العلم، وكيف كان المجتمع ينظر إلى تعليم المرأة فى ذلك الوقت، متحدثا عن أمه التى وصفها بأنها، «كانت أكثر تنورا وتعليما من كل نساء جيلها، كان ذلك فى وقت ليس فيه للعلم أو التعليم قيمة تذكر، قد يبدو غريبا فى عصرنا أن نتصور عالما بأسره عاش يوما وليس فى قاموس لغته كلمة علم أو معرفة، ونحن اليوم فى عالم يتميز بأن الناس فيه يريدون أن يفتحوا عيونهم كل صباح على شيء جديد يتعلمونه أو يعرفونه.
وأضاف الحكيم «ما من أحد اليوم يستطيع أن يكون بمعزل تام عن مصادر المعرفة الجارية كما يجرى الماء فى الأنابيب، تغيرت أنواع المعرفة فمنها المهم ومنها التافه، منها العميق ومنها الضحل، والخيار للناس فيما يتناولون من ألوان المعرفة، مؤكدا أن هذه الخيارات «الصحف، المجلات، الإذاعات»، لم تكن معروفة لأهل العصور السابقة، ولم تكن مهيأة لهم، ولذا كان طلب العلم يحتاج إلى كفاح وإرادة.
لا أحب المجاملات
ولم يكن الحكيم مجاملا فى الحياة، بل إنه لم يكن يحب المجاملات على الإطلاق، وقال عن ذلك «أعجز عن مراعاة أبسط قوعد المجاملات أحيانا من تهنئة وتعزية وسؤال عن الصحة.. حتى بالنسبة إلى أعز الناس.. كما أنزعج أيضاً من سؤالهم عني.. وقد عرف ذلك المتصلون بى ففهمونى وتركونى لطبعي»..
حريتى هى تفكيرى
ويتحدث عن التناقض الذى عاشه فى حياته بين والدين أحدهما صارم شديد فى التعامل، وأم لم تكمل تعليمها وتؤمن بالجن والعفاريت، مشيرا أن هذا التناقض أثر فى شخصه وتصرفاته، ويتضح ذلك فى قوله «إن ما لا يُحل بالقلب يجب أن يُحل بالجنون، والدى الذى أورثنى حب الأدب هو نفسه الذى يصدنى عن الأدب.. والدتى التى أورثتنى الإرادة تقف دون رغباتى الفنية»، ولذا كان اعتراض الحكيم الدائم على قيود الحياة، فقال «حريتى الباقية لى إذن هى فرصتى الوحيدة وسلاحى الوحيد فى مقاومة كل تلك العقبات، وحريتى هى تفكيرى، أنا سجين فى الموروث حر فى المكتسب، وما شيدته بنفسى من فكر وثقافة فهو ملكي.. وهو ما أختلف فيه عن أهلى كل الاختلاف».
ويرى الحكيم أنه كان كسولاً، وأن هذا الكسل أضاع منه العديد من الفرص، وذكر ذلك فى «سجن العمر»، حين قال «قلة نشاطى وحركتى هى دائى العضال، وقد أضاع هذا الداء علي كثيرا من الفرص والمتع فى الحياة والفن»، ويضيف «ما الذى جرفنى إلى هذه الفئة؟.. ما الذى أغرانى بهذا البلاء؟.. ما الذى أبعدنى عن أضواء النجاح السهل الجماهيرى، لست أدرى.. لعلها نزعة عندى فى الحياة والفن.. حقا، أرانى أختار أحيانا الطريق الصعب الذى يتعذر معه النجاح، وأترك الطريق المألوف المعروف المؤدى حتما إلى نجاح مضمون».
كما تحدث عن عشق والده للفن والأدب  والمسرح، فقال إنه «كان يحب الأدب والشعر، وكان يود فى دخيلة نفسه أن يتخذ الشعر والأدب مجالا وميدانا، تلك ولا شك كانت رغبته المكبوتة، كبتها فى نفسه نظرا لظروفه العائلية والمالية، ثم يضيف توفيق الحكيم «والرغبة المكبوتة عند الآباء ربما كانت هى التى يورثونها للأبناء، ولو أن والدى تمكن من إفراغ كل ما فى نفسه من رغبات وميول أدبية لأعفانى أنا، وحررنى من «نزعة الأدب»، ولكنت أنا قد انصرفت طليقا إلى شيء آخر.. إن أبناء رجال مثل «لطفى السيد»، و«أحمد شوقى» لم ينزعوا إلى الأدب، لأن آباءهم لم يكبتوا تلك النزعة، بل أفرغوها وأطلقوها بكل طاقتها وقوتها فى حياتهم، لقد ألقى والدى إذن على كاهلى أنا ما لم تهيئه له ظروفه هو، ويضيف فما أنا إلا سجين رغبته هو التى لم يحققها، بل إننى سجين أشياء كثيرة أورثنى إياها، فيها الطيب وفيها الرديء، كما ورثت عن والدتى خيرها وشرها، هذا السجن الذى أعيش فيه من وراثات كأنها الجدران، هل كان من الممكن الخلاص منها؟
ويجيب الحكيم عن ذلك قائلا: «حاولت كثيرا كما يحاول كل سجين أن يفلت، ولكنى كنت كمن يتحرك فى أغلال أبدية، وبدت المأساة لعينى عندما خيل إلى يوماً وأنا أحلل نفسي, أننى لا أعيش حياتى إلا فى نسبة ضئيلة، أما النسبة الكبرى فهى تلك العجينة من العناصر المتناقضة التى أودعت تلك النطفة التى منها تكونت، والنسبة الضئيلة التى تركت لى حرة من حياتى قضيتها كلها فى الكفاح والصراع ضد العوائق التى وضعها أهلى أنفسهم فى طريقى، ومن خلفهم المجتمع كله فى ذلك الوقت.
الرسالة إلى أراد توفيق الحكيم توجيهها إلى المجتمع من خلال «سجن العمر» هى نشر الحرية، ودعمها، حتى يكون المجتمع خاليا من سجون الفكر، قبل سجون الجسد، فقد دعا إلى الحرية فى اختيار نوع التعليم،  والهواية، وعدم فرض الآراء على الآخرين، لأنه حتما التفكير سيختلف، والعقول ستتغير، ولن نضمن الاستمرار فى الحياة إلا بالحرية. •