الأحد 8 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حكاية: سحبة قوس فى أوتار كمان

حكاية: سحبة قوس فى أوتار كمان
حكاية: سحبة قوس فى أوتار كمان


ذرات بلورية صافية تجمعت ورأيت فيها «أبلة نوال» - أيام كان لقب المعلمة أبلة - معلمة الموسيقى، تذكرتها وأنا أسمع جملة فى مسلسل أرابيسك، غناها على الحجار بكلمات سيد حجاب وألحان عمار الشريعى.. كانت كأنها «سحبة قوس فى أوتار كمان» عاد إليَّ الزمان كأنه بالأمس، كنا أطفالا وهى المعلمة التى تأخذنا إلى الفرح، أنيقة هى وناعمة، الآن أراها هى الكمنجة نفسها.

 تهل علينا لتعزف لطابور الصباح على البيانو «والله زمان يا سلاحى» أنيقة، أناقة أشعر بها الآن بعد أن اختفت الأناقة من حياتنا، كان طبيعيا أن ترتدى تايورات وفساتين تقف عند منتصف الركبة، وأن تضع فى قدميها أيضا الأحذية ذوات الكعب العالى الرفيع، تلك التى قال عنها الموسيقار محمد عبدالوهاب «الأنوثة لاتكتمل إلا بالكعب العالى»، والأناقة تختل إن كانت الشنطة بلون مختلف عن لون الحذاء، ينسدل شعرها الكستنائى على كتفيها، يزين وجهها ابتسامة مسكونة بالموسيقى.
كان فى مدارسنا حصة للموسيقى، لها نفس أهمية باقى الحصص، ولكن أخف بالضرورة على قلوبنا نحن الأطفال من بقية الحصص. كانت حجرة الموسيقى فى الطابق الأول من المدرسة، تستقبلنا فيها أبلة نوال، كنا خمسة وعشرين طفلا - بنات وبنين- حيث كانت كثافة الفصل فى ذلك الوقت لا تزيد على 25 تلميذا.
 حجرة الموسيقى أكثر اتساعا من بقية الفصول، مؤسسة بمقاعد خشبية فى مواجهة بعضها، يتصدرها بيانو أسود لامع، كان يدهشنى لمعانة، كأنه مرآة كانت أبلة نوال تعزف البيانو لنسمع ونردد صوت مفردات السلم الموسيقى، وبجدية وبصوت مرتفع يصل إلينا جميعا، ونردد وراءها، دو-رى-مى-فا-سول-لا-سى-دو، وتضغط بقوة على الـ«دو» الأخيرة، تعزف السلم الموسيقى فى حصة على البيانو، وفى أخرى على الأوكورديون، وكنت أشعر أن الأوكورديون سيأخذها ويسقط بها على الأرض.
أما عزفها للكمنجة، فقد كان سحرا، عرفت من خلاله سريان الموسيقى فى الكون.
كان من ضمن أدواتنا وكراساتنا المدرسية التى نشتريها مع بداية العام الدراسى، كراسة الموسيقى، كنا نتعلم كيف نكتب على سطورها المزدوجة السلم الموسيقى. فى يوم كانت أبلة نوال مشغولة بمراجعة تلك الكراسات تسحبت مقتربة من البيانو، وضغطت على أصابعه، فأخرج ضجيجا مزعجا، نظرت لى بابتسامة عذبة، وأمسكت بأصبعى وضغطت، وطلبت منى أن أردد وراءها..دو..رى......
ظللت أحلم بأن أجلس مثلها على مقعد البيانو وأعزف ألحانا، الألحان التى حلمت أن أعزفها هى أغنيات ذلك الزمن «دع سمائى فسمائى محرقة»، «والله زمان ياسلاحى»، «مصر مصر أمنا ونيلها وشعبها»، كانت تلك هى الأغانى التى تعزفها لنا أبلة نوال.
وفى ذات يوم وأنا متوجهة إلى مكتب ناظرة المدرسة، الموجود فى الطابق الأول، سمعت صوت الكمنجة، ورأيت أبلة نوال وهى تعزف أغنية عرفتها بعد ذلك، وسمعتها ولازلت أرددها، بعد أن شاهدت الفيلم فى فترة لاحقة من عمرى، أغنية «الدنيا ريشة فى هوااا»، لسعد عبدالوهاب، وكان فى الفيلم الذى أشاهده كلما عرض، مدرس للموسيقى، ويذكرنى فى كل مرة بأبلة نوال وحصة الموسيقى.