الأربعاء 25 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

رحلة الألم والبهجة

رحلة الألم والبهجة
رحلة الألم والبهجة


يمثل الفنان رءوف عياد حالة خاصة جدا بين رسامى الكاريكاتير فى «صباح الخير».. أو بمعنى أدق فى تاريخ الكاريكاتير  المصري.. منذ «دلوفه» هذا العالم الساخر.. الساحر منتصف خمسينيات القرن العشرين حتى وفاته بداية القرن الواحد والعشرين.. نصف قرن ورءوف عياد يمسك بفرشاته ويلون ويضخ أفكاره ويبدع ويقول كلمة على الورقة كانت دومًا أشبه بـ«طلقة» صامتة تعرف الهدف وتنطلق إليه بهدوء لا يوازيه إلا هدوء الرجل.. كما عرفناه وعهدناه فى طرقات «صباح الخير» ومكاتبها التى كانت ولا تزال تزدان ببنات أفكار رءوف عياد التى عاش لها وبها فى عالم خاص.

الصناعة المصرية القديمة
الكاريكاتير هو صناعة وبضاعة مصرية خالصة منذ أجدادنا الفراعنة الذين سخروا من كثير من بعض أوضاعهم الحياتية، وبعض الحكام والمسئولين، كما تسجل نقوشهم فى المعابد والجداريات، وكان استخدامهم للحيوانات المختلفة هو وسيلة الإسقاط الأساسية وعالم الرمز الذى يستخدمونه للسخرية ولتوصيل رسالتهم «الكاريكاتورية».. وغابت ريشة الساخر المصرى طويلا عكس الكثير من الفنون والعلوم المصرية القديمة، التى استمر وهجها ولم ينطفئ.
الجيل الرائد
فى بداية القرن العشرين طل على مصر وامتلأت جوانبها بكل أطياف البشر من الأقطار الأخرى، وفى ضوء تبادل الثقافات ونهر الإبداع كان الأشقاء من الشام والأرمن الطليان قد حملوا ريشة الكاريكاتير ورسموا، لكن الروح المصرية خالصة الهوى.. وجاءت الشرارة مع المبدع صاروخان.. «المولود فى 1898»، والذى جعل من الكاريكاتير فنان ذا حيثية منذ اكتشاف السيدة فاطمة اليوسف والأستاذ محمد التابعى له عام 1927 على صفحات وأغلفة «الرائدة» «روزاليوسف» التى كان لديها كتيبة من رسامى هذا الفن الوليد على رأسهم «سانتيس»، ولكن صاروخان انطلق بهذا الفن فكرة وكلمة وريشة إلى آفاق أخري.. وسار معه بالتوازى العظيم رخا بكل توهجه وأفكاره الطازجة وخطوطه العميقة التى جعلت الكاريكاتير مصريا هوى وهوية، ومهنة ذات كيان بدأت تفرض وجودها على الساحة الصحفية والأدبية.
رخا.. والجيل الرائد
وانطلق الجيل الرائد.. وتوالت الأجيال من أصحاب الفكرة «الرصاصة» والريشة «الساخرة» و«الكلمة الهادفة» التى امتلأ طابورها بهذه المواهب.
الكاريكاتير فى «صباح الخير»
وولدت «صباح الخير» فى مطلع العام 1956 لتكون نقلة فى هذا الفن.. وفى عالمه الساحر بالرواد جورج وصلاح جاهين ورجائى وحجازى وبهجت وإيهاب شاكر وزهدى وصاحب غلاف العدد الأول لصباح الخير.. الذين أحدثوا فى صفحاتها ثورة عاتية فى تاريخ هذا الفن الرفيع.. وكانت ولا تزال حاملة المشعل حتى وإن «خفت ضوؤه»، لكن لم تنطفئ شموعه.
فى كلمة لأنه «كائن حى» يؤثر ويتأثر، عفوا بحركة الحياة عنفا ولينا.. هدوءا وصخبا، وفى استدعاء سيرة ومسيرة رواد هذا الفن وكبار رموزه رسالة خارج إطار الزمن لأن أفكار مثل هؤلاء تصلح لكثير من الأزمان.. فدوما رسامو ومبدعو الكاريكاتير سابقون بأزمانهم
رءوف عياد
ورءوف عياد.. أحد هؤلاء العباقرة والذى نسعد ونفتخر فى «صباح الخير» أنه إنتاج «الصبوحة» قلبًا وقالبًا وأحد أبنائها العظام الذين اختلف شكل ريشتهم وتنوعت بنات أفكارهم ورؤيتهم للأحداث، لكن اجتمعوا جميعا على العطاء الوطنى غير المحدود، وعشقهم المبرح للمجتمع وللمواطن البسيط «ملح الأرض» الذى يحلمون معه وبه إلى عالم أفضل.
نعم، فصفحات «صباح الخير» هى الأكثر احتواء ونشرا لهذا الفن الرفيع صاحب الرسالة البسيطة العميقة القوية التى لا تصد ولا ترد، ولم تشهدها أى مطبوعة أخرى فى تاريخ الصحافة وامتلأت بنجوم وكواكب ولآلى أصحاب هذا الفن.
رءوف عياد هذا الصامت الصامد لاتزال فكرته وريشته أحد هذه الكنوز التى نستعيد فى ذكرى ميلاد «صباح الخير» هذه المشاغبات ومعها نستعرض سطورا بسيطة من حياته، فالملاحظ أن معظم صناع هذا الفن لديهم إنكار ذات كبير.
رءوف عياد مولود فى السودان عام 1940 لأب وأم مصريين، حيث كان والده يعمل فى هيئة البريد منذ الثلاثينيات، وكانت مصر والسودان دولة واحدة اسمها «مصر والسودان» وظلت هكذا حتى عام 1956.
والتحق رءوف بالمدارس السودانية ابتدائى وثانوى وحصل على التوجيهية و«كلية الحقوق» وبدأ مشواره مع الريشة أثناء دراسته الثانوية، حيث كان يقوم بتقليد رسوم ملوك الريشة وقتها فى «روزاليوسف» بهجت وحجازى وصلاح جاهين وبهجورى ورجائى ونيس وحسن فؤاد وجمال كامل، رجال الصف الأول، (ووجدت ريشة رءوف مكانا وسط هؤلاء العباقرة فى بطن الغلاف فى رحاب نادى الرسامين).
أحسن رسام كاريكاتير فى السودان
وفى ثانوية السودان شارك برسومه وأفكاره فى معرض المدارس الثانوية وحصل على الجائزة الأولى، ولقب أحسن رسام كاريكاتير فى المدارس السودانية الثانوية، وكان هذا اللقب عام 1956 أثناء العدوان الثلاثى على مصر، وجاءت رسوماته معبرة عن الحدث منددة به، وبعد حصول رءوف على هذا المركز الأول أصبح الكاريكاتير شغله الشاغل وعشقه الأبدى.
ومع افتتاح جامعة القاهرة لفرع لها بالخرطوم (حقوق وتجارة وبعض أقسام الآداب)، التحق بالحقوق.. ولكن كان قلبه معلقا بالكاريكاتير.. فلم تستمر رحلته بالحقوق.
فتركها والتحق بالمعهد الفنى العالى والذى أعطاه مساحة كبيرة للإبداع على صفحات الصحف والمجلات السودانية منها الميدان والرأى العام والسودان الجديد.
عام 1961 ومع إحالة الوالد إلى المعاش والعودة للعاصمة «القاهرة» التحق رءوف بكلية الفنون الجميلة «القسم الحر».
رءوف فى مدرسة «روزاليوسف»
وفى التوقيت نفسه طار إلى «روزاليوسف» ليلتقى بأبطال عالم الفن وملوك خياله الذين لا يلتقى بهم سوى على الصفحات، «وكان يؤكد لى دوما أنه حلم كثيرا بالوصول لمستوى هؤلاء العباقرة المبدعين».. وكان اللقاء الأول مع «متلقف» المواهب وصانع نجومها «جمال كامل».
ومن الوهلة الأولى قال له:
الفكرة لديك جيدة على المستوى الاجتماعى والسياسى، ولكن الخطوط تحتاج بعض التدريب.
انطلق إلى حجرة الرسامين وقد كان هناك كوكبة من ملوك هذا الفن الذين تزخر بهم الدار: رجائى، جورج، مأمون، ناجى كامل، يوسف فرنسيس، حجازى، صلاح جاهين.
وبعد شهور كد وتعب وحضور يومى ونشر أصبح رءوف أحد أركان الكتيبة الفنية مع مطلع العام 1963.. ومع مرور الأيام وكر الأعوام ثبتت أركان هذا النجم الذى امتلأت صفحات «صباح الخير» بخطوطه الواضحة التى هى من نوع السهل الممتنع.. وأفكاره القوية التى تمتلئ بحب الوطن والنقد الهادف البناء من أجل حياة اجتماعية أكثر سعادة.. فلم نر للرجل شطحات أو عاش مراحل حنجورية رغم ميله دوما لليسار ولكنه عاش دوما فى الظل لا الظلال.
فى الجون!
تأثر - كما كان يقول - بحجازى وأخذ من خطوطه ولكن لم يعش فى جلبابه.. عشق صلاح جاهين وفكرته لكن بروح رءوف عياد الطائر الوديع الساكن.. الذى امتلك ناصية الفكرة والحكمة بريشة ولا أروع فأنتج آلاف اللوحات الفنية القيمة.
ومخطئ من يظن أن رسام الكاريكاتير مجرد تعليق ساخر لرسم بسمة على الشفاة جراء تناول وضع اجتماعى أو سياسى معين بخطوط معينة.
فرسام الكاريكاتير هو ضمير الشعب.. هو اختزال الفكرة قد تحتاج كتبًا ومجلدات وعشرات المقالات بحبر ريشة يصل فنان الكاريكاتير لهذا بالتعبير الدقيق.. وتأتى كما يقول الرياضيون فى الجون.. إن فنان الكاريكاتير قارئ واعٍ وفاهم لكل أحوال المجتمع وأركان سياسته لذا يصل لهدفه بأسرع ما يكون.
رءوف عياد كان من هذا النوع.. الموهوب لأقصى حد والمتابع لكل دقائق وأسرار الكون.
رءوف عياد بخطوطه وريشته على مدار نصف قرن كان راصدا.. ناقدا بكل أمانة وصدق لأحوال مجتمعه فى هدوء الأبطال وصيحة العباقرة.
مواكبا لأحداث عصره مؤمنا بقضايا لم يتنازل عنها رسائل كانت ولا تزال تؤثر فى كيان المجتمع المصرى قضايا الحرية والكرامة والحق والعدل والوطنية لأجل صالح المواطن .
مرة أخرى البسيط الطموح فى عيشة حرة إلى أن وافته المنية فى 2006 عن 67 عاما بعد رحلة قصيرة مع المرض، وسقطت ورقة من أهم أوراق الكاريكاتير فى مصر وانزوت ولكن لم تنزو أفكاره ولا رؤاه ولا ريشته التى ستظل أحد مشاعل الحرية فى الوطن.