السبت 26 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

فن تجميد المشاعر

فن تجميد المشاعر
فن تجميد المشاعر


 قرأت فى فنون كثيرة لإجادتها، فن الطهى، فن الحب، فن التعامل والإقناع، وفن الدفاع عن النفس.  لكن كان غريبا أن أسمع أو بالأحرى أرى من يجيد فن قتل المشاعر. ربما تكون العبارة صادمة أو تثير بعض التساؤل، كيف يكون قتل المشاعر؟!  ومن يتفنن فى هذا الفعل؟ واكتشفت... أننا كلنا نفعل ولكن بدرجات متفاوتة.

تبدأ مشاعرنا فى النمو كبراعم صغيرة منذ طفولتنا، لكن كثيراً من الآباء والأمهات لا يدركون الفروق بين أبنائهم، قد يكون أحد الأبناء على درجة عالية من الإحساس أو فى حاجة لمعاملة خاصة، فيقابل إحساسه الرقيق بالاستهزاء والسخرية من معظم أفراد أسرته، دون أن يعرفوا التأثير السلبى لهذا الفعل على طفلهم.
الضحية الأولى
 داخل إحدى أسر أقاربى، كان طفلهم الذى لا يتعدى السادسة شديد الحساسية بالإيجاب تجاه أى استحسان، وبالسلب تجاه النقد أو اللوم، كان يبكى لساعات إذا عنفته أمه لطبيعته الرقيقة أو سريعة التأثر تلك، وكان يشكو لى معللا حزنه بقسوة أمه عليه.
وبعد ما يقارب الثلاثة شهور فوجئت بتغير سلوك هذا الطفل ، كنت قد عهدته طيبا حنونا، فأصبح أكثر عدائية مع إخوته ودائم تكسير ألعابه التى تغيرت إلى مسدسات ورشاشات وسكين وضعها خلف ظهرى لأعطيه ما بجيبى من حلوى، قال لى  «لازم أكون قوى ولا عاوزانى ضعيف زى الأول».
كانت كلماته مؤشرا خطيرا على تغير شخصيته نحو الأسوأ، تحدثت مع والدته وهى خريجة إحدى المدارس الفرنسية ومترجمة-فقالت «كنت أشعر بخيبة أمل كبيرة فى هذا الطفل تحديدا، لأنه ضعيف الشخصية وسريع البكاء والتأثر ، والمفترض أن ينشأ كرجل قوى، حتى أخذت أشجعه بأن يكون مثل إخوته قويا شجاعا لا يبكى أو يتأثر، وكنت أتعمد السخرية منه ومدح إخوته بأنهم أفضل منه وأن حبى لهم أكثر منه، حتى صار يقلدهم وأصبح كما رأيته «رجلاً»!!
دائرة القتل
تستمر دائرة قتل المشاعر للطفل الذكر حتى يصبح رجلاً، فممنوع عليه البكاء والبوح بمشاعره الإنسانية، عليه أن يكتم مشاعره لأنه رجل، ويعامل زوجته بشىء من البرود والتعالى كما أوصته أمه حتى لا تتمرد عليه وتمسك لجامه - وسريعا ما تتحول صلابة الفكر تدريجيا إلى تبلد للمشاعر وقتل بطىء لها.
 أما الفتاة فهى لا تبوح، إنما تتعلم ثقافة الكتمان والإخفاء لأحلامها وأفكارها ومشاعرها، فهناك نظرة مسبقة عنها بأنها لم تزل ناقصة، حتى وإن تفوقت، وإن اجتهدت، فهذا استثناء قد يجذب إليها بعض الانتباه والثناء بأن الله قد نظر إلى أسرتها بعين الرحمة.
 «لا اختلاط مع الذكور إلا فى حدود، لا حرية فى التعبير عن إحساس الحب العفوى أو المشاعر البريئة إذا ما شعرت بها البنت كأنثى ناضجة»، اللهم إلا العبارة التى تتكرر دائما وهى لم تزل طفلة صغيرة لا تتعدى الخامسة عندما تسألها أسرتها على سبيل الفكاهة هتتجوزى مين ياحلوة؟ تكبر الحلوة وتصبح شابة قادرة على التمييز لكن تكبر معها دائرة الحجب والمنع، فلا تستطيع أن تتجرأ وتجيب عن السؤال الذى وجه إليها وهى طفلة.
وتنصحها الأم (على البنت أن تكون مرغوبة لا راغبة)، انتهى الدرس الأول فى حياة الفتاة لتتعلم ألا تبدى مشاعرها إلى أن يبادر الطرف الآخر بذلك، وإلا سيكون وصمة عار فى جبينها وسقوطاً لتاج الكرامة لديها.
 تتزوج وتظل كلمات أمها دستور حياتها، وخاصة فى نصائحها الأخيرة قبيل الزواج بألا تبادر بشىء مع زوجها ولا حتى فى التعبير عن مشاعرها معه وإلا سيشك بأخلاقها وبراءتها. سلسلة من الأكاذيب والقتل المتعمد للمشاعر باعتبارها ذنبا أو خطيئة واجب إنكاره والتكفير عنه  بدلا من تعزيزه وحمايته أو الجهر به.
قسوة الحياة تقتل المشاعر
 ترى مادى عبدالرحمن مدرسة لغة إنجليزية، أن طبيعة الحياة السريعة ومتطلباتها فرضت سياقا من الروتين والواقع المادى الذى أصبح يسيطر على كل بيت، لم يعد هناك وقت للحب أو الرومانسية.
 الحب بالورقة والقلم
  مريم على فتاة جامعية فى العشرين، تبتسم وهى تجيب عن سؤالى عن مساحة  المشاعر فى حياتها لتقول «الكلام ده زمان أيام أفلام الأبيض والأسود، دلوقتى كله بالعقل ولازم كل خطوة تتحسب، لازم أحسبها كويس واختار العريس اللى هيوفرلى حياة مستقرة ومستوى اجتماعى مناسب، الحب بييجى بالعشرة والتعود، مش بحب الراجل (النحنوح)، لو زميلى بيحبنى يعبر عن مشاعره بشكل صريح، مش ورد ودباديب ونضيع سنة فى كلام فاضى هيؤدى فى النهاية لنفس الطريق وهو الجواز».
 الرومانسية  و(طاجن المسقعة)
 خالد مصطفى مهندس كمبيوتر له فلسفته فى الحب والتعبير عن المشاعر فيقول «الرجل بطبيعته الخشنة لا يميل إلى التعبير المباشر عن مشاعره يضعها وسط جملة طويلة عريضة، فالمصارحة فى التعبير عن المشاعر فى عالم الرجال تعنى الميوعة أو الليونة وهو ما يرفض الجميع إلصاقه به، وعندما أريد أن أعبر عن مشاعر الحب لزوجتى، أزودلها مصروف البيت علشان تشترى هدية لها على ذوقها، وهى لما تحب ترضينى أطلب منها عمل  «طاجن مسقعة».
عمى المشاعر
تؤكد د.هبة العيسوى أستاذ الطب النفسى بطب عين شمس، على تغير نمط التعبير عن مشاعرنا، فى الماضى كانت رسائل الحب المكتوبة أكثر رومانسية وشاعرية، الآن اختزلنا مشاعرنا فى رسائل سريعة على التليفون أو بوست على الفيس بوك، وتفكير شائع خاطئ الآن بأن من يعبر عن مشاعره، شخص سلبى. فالمرأة عندما تبكى يصفونها بالنكدية، والرجل إذا بكى انتقص من رجولته وهناك مرض  اسمه (اليكسيثيميا) وهو عدم القدرة على التعبير عن المشاعر، بمعنى أن الشخص لا يستطيع التعبير بالكلام ولكن من خلال الفعل أو التصرفات فقط، وهذا مزعج لأن من منا يستطيع أن يعيش دون كلمة إطراء أو غزل من شريكه.
وهناك مرض نفسى آخر اسمه (عمى المشاعر)، هناك من لديهم (غشامة) فى التعبير عن المشاعر، فبدلا من التعبير عن حبه بشكل طبيعى بكلمة أو تعبير  إيجابى، يميل  إلى العصبية أو التشويش فى التعبير عن حبه بدعوى الخوف على الطرف الآخر والغيرة وما إلى ذلك. وفى النهاية فالمشاعر ليست جريمة ولكن الجريمة هى قتلها، وجهلنا تجاهها هو أحد أنواع القتل البطىء لها، فهى ليست فى حاجة إلى وأد ولكن إلى فهم وتعليم ورعاية. ولك القرار، فإما أن تفصح عن مشاعرك قبل أن تختنق، أو تحتفظ بها لحين إشعار آخر فى أحد بنوك ( تجميد المشاعر). •