أريد أن أفهم..!
زينب صادق
[if gte mso 9]>
لا أستطيع الاستمرار هكذا وغمامة من الغموض فوق رأسى، لا أريد أن أثور، فقد ثرت فى الماضى ولم ينتج عن ثورتى شىء.. لا أريد أن أحزن، فالحزن فى قلبى ساكن.. لا أريد أن أقلق.. فالقلق يوجع مصارينى.. لا أريد أن أخاف.. فالخوف يشل تفكيرى.. أريد أن أفهم ما الذى حدث للناس فى بلدى.. وماذا حدث فى العالم المنفلت ويؤثر على وطنى!
∎ التحولات فى الشخصية المصرية:
هذا عنوان كتاب للدكتورة الأستاذة عزة عزت، عدت لقراءته لأفهم من هذه الدراسة القيمة التى قامت بها وبدأتها من سبعينيات القرن الماضى.. ومن مقدمة كتابها: «لماذا بداية السبعينيات بالذات وليس قبل ذلك، فلاشك أن ما أحدثته نكسة يونيو 1967 من صدمة لمشاعر المصريين وصلت بهم إلى حد الانكسار كان له أثره فى الشخصية المصرية، عمق قدرتهم على السخرية والاستعلاء على الحدث الجلل الذى لم تستوعبه النفس المصرية الأبية، ولعله قد عمق فيها خاصية الشجن الممزوج بالسخرية اللاذعة، وأسلوب الاستبياع اليائس وليس السخرية الفكهة المرحة».
يمكننا القول بأن السنوات الثلاث التى تلت النكسة وأكملت عقد الستينيات تضمنت إرهاصات بالتغيير والتحول فى الشخصية المصرية.. ومع منتصف السبعينيات وبتغير التوجهات والمناخ الاقتصادى وما استتبع ذلك من انفتاح وما جره من مظاهر تحول اجتماعى من هنا يمكننا رصد ما اعترى الشخصية المصرية من تحولات ليس بسبب الأحداث الداخلية وحسب، لكن بسبب ما اعتمل فى العالم كله من تغيرات بتنا منفتحين عليها متأثرين بها وإن لم تعلن عن نفسها مبكراً فيما عرفناه بعد ذلك باسم النظام العالمى الجديد.. أو العولمة.. والهجمة الإعلامية الشرسة من خلال القنوات الفضائية وما تحمله لنا عبر أطباق الدش ثم ثورة الاتصالات والمعلومات من خلال شبكات الإنترنت وما تحمله لنا من كل غريب ومستغرب نعتاده ويصيب جزءا من حياتنا اليومية.. لا نملك رفضه أو تجنبه، فلم تعد مصر مجتمعا مغلقا على قيمه وثوابته.
∎ الأمر جد مختلف!
استعرضت د. عزة عزت آراء كثيرة وتوصلت إلى تحقيق الفرضية الأولى فى دراستها وهى أن هناك تحولات فى الشخصية المصرية أفقدتها بعض سماتها الأصلية التى اتسمت بها عبر العصور وأن هذا التحول لم تعد وجهة نظر شخصية لها لكنه كما كتبت وجهة نظر صفوة كتاب مصر كما وضح من العينة التى اقتطفتها من كتاباتهم والمكونة زمنيا مما نشر خلال العامين 1997ـ 98 تعبر عن رأى الكتاب وأصحاب أعمدة الرأى فى الصحف من صحفيين وأساتذة الجامعات والشخصيات العامة، وما يكتبه القراء حول استشعار هذا التحول فى بريد الصحف كمثال يوضح إدراكهم لهذا التحول واتجاهه السلبى، وإن كان موقفهم يتأرجح بين يأس من الإصلاح والعودة إلى السمات الأصلية للمصريين وبين محاولات تبرير هذا التحول بأنه سطحى وأنه مجرد تحول فى السلوك والتصرفات أصابها بالانحراف وأن ما أصاب الشخصية المصرية من تطبع بصفات دخيلة عليها يمكن إدراكه.. وتجد الكاتبة الباحثة أن هذا فى تصورها جد صعب.. وإذا كان قد عرف من زمن بأن مصر ظلت عبر عصور تمصر الآخرين وتؤثر فيهم، وتغزوهم وهم الغزاة.. فإن هذه النظرية التى ثبتت لقرون أمر محفوف بالخطر لأن أساليب الغزو الفكرى الغربى والأمريكى تحديداً أكبر كثيراً من كل ما تعرضت له مصر قديما من غزو.. فالأمر جد مختلف.. هذه المرة لأن نظريات العولمة منظمة ومخطط لها بأسلوب علمى ومعنى هذا أن الغزو الجديد مصر لن تستطيع تمصيره.
من هذه الكلمات للباحثة عدت لكتاب الدكتور جلال أمين الذى شرح فيه ببساطة هذه العولمة وتأثيرها علينا واخترت جزءاً من الفصل الأول.
∎ حقيقة العولمة:
وهذا الفصل من الكتاب يحدثنا فيه د.جلال أمين عن الذى تجرى عولمته..! ويقول: «الذين يهللون لظاهرة العولمة يقعون فى رأيى فى خطأ فادح، فهم يفهمونها على أنها عملية تحرر من رقبة الدولة القومية إلى أفق الإنسانية الواسع، تحرر من نظام التخطيط الآن إلى نظام السوق الحرة، تحرر من ثقافة ضيقة ومتعصبة إلى ثقافة عالمية واحدة يتساوى فيها الناس والأمم جميعا فقد اقترن الحديث عن العولمة عن أشياء براقة، من حقوق الإنسان والديمقراطية إلى الإشادة بالعقلانية والعلم والهجوم على التعصب بكل أشكاله، والزعم بأننا مقبلون على عصر جديد تنتصر فيه كل القيم الرفيعة».
ويقول د. جلال إن كل ما يقال عن العولمة جميل لكن الحقيقة غير ذلك.. ففى رأيه أن لفظ العولمة يصف ما يجرى على السطح من دون أن يفصح عن محتواه الحقيقى!
إذ إن الكلام يجرى عن العولمة بدون أن يثار السؤال عما تجرى عولمته؟!
ويحدثنا عن عصر العولمة حيث سرعة النقل والمواصلات بين الدول وتزول الحواجز أمام انتقال السلع والخدمات والأشخاص والمعلومات والأفكار، لكن لا أحد يعنى كثيراً بالتساؤل عن طبيعة هذه السلع والخدمات وعن نوع المعلومات والأفكار التى يعم بثها بهذه السهولة والكفاءة.. ويتساءل
د. أمين :كيف يكون موقفنا لو أدركنا واقتنعنا بأن هذا الذى يجرى عولمته ليس إلا سلع وخدمات بعينها ذات طبيعة وخصائص معينة أفرزتها ثقافة بعينها.. وأنه ليس علينا أى التزام يجبرنا على قبولها والثقافة بالذات؟!
∎ نام لما أدبحك!
يقول د. أمين إذا تبينا واقتنعنا بأن العولمة نمط معين من الحياة أداتها الأساسية الآن هى الشركات العملاقة متعددة الجنسيات التى تمارس هذه العولمة بكفاءة، متى أدركنا أن كل هذا الكلام الذى يصور العولمة على أنها عملية تحرر من مختلف صور الاستعباد.. هو محض خرافة ويتساءل« هل نتحرر حقا عندما ينحصر نظام التخطيط الأمر الذى تمارسه الدولة.. أم أننا نستبدل تخطيطا بآخر؟!
هل نتصور أن شركة عملاقة تنتج وتسوق فى عدد كبير من دول العالم تتوقف عن التخطيط؟! وهل يقف فى وجه هذه الشركات شىء إذا أرادت أن تخطط لنا حياتنا وطريقة تفكيرنا بما يتفق مع أهدافها فى الإنتاج والتسويق؟!»
وما كتبه د. جلال أمين يجعلنا نفهم سر الإعلانات عن السلع الكثيرة المختلفة التى زادت بشكل ملحوظ فى مجتمعنا خصوصا فى القنوات التليفزيونية المتعددة، حقيقة هذه الشركات تخطط وتحكم أيضا وأنا أقرأ فصول كتاب العولمة أتذكر المثل الشعبى المصرى« قال نام لما أدبحك.. قال.. ده شىء يطير النوم».
∎ ربما أفهم
أنا جنوستاكيس شاعر وأديب وطبيب وثائر يونانى، اشترك فى ثورات شباب اليونان فى منتصف القرن العشرين، ومن قصائده الغريبة والمعبرة أيضا «قصيدة الميت» لكنى لم أفهم تماما هل كان يقصد شخصا بعينه أم رمزاً لحالة مرت بها اليونان.. يقول فى قصيدته:
وصلت البرقيات الأولى.. توقفت ماكينات الطباعة.. جرت الاتصالات صدرت الأوامر للسلطات المختصة لكن روح الميت لم تصعد إلى بارئها فى الساعة المنتظرة.. ارتدى الجميع أربطة العنق السوداء، وانبعثت التنهيدات الحزينة.. انتظاراً للمرثيات المبكية.. لكن روح الميت لم تصعد إلى بارئها فى الساعة المنتظرة.. وفى النهاية غدت الساعات أياما أياما مريعة من الانتظار تقشعر لها الأبدان.. وبدأ الأصدقاء يتذمرون فلقد أغلقوا مكاتبهم.. وأهملوا أعمالهم.. وضاعت دخولهم.. وها هم أطفالهم يذرعون الطرقات بلا رادع.
وها هى الزهور تذوى وتذبل.. وها هى الورود تفقد أريجها.. لكن روح الميت لم تصعد إلى بارئها فى الساعة المنتظرة.. حدثت أمور لم تكن قط فى الحسبان.. وجرت أحداث لم يتوقعها أحد أبدا.. تضحيات جسام.. خسارة محققة ولكن لمن تشكو وممن تتذمر؟.. أغلب الظن أن شكواك ستذهب أدراج الرياح.. فروح الميت لم تصعد إلى بارئها فى الساعة المنتظرة.