الحرب

محمد الرفاعي
[if gte mso 9]>
كل مساء.. أبدأ رحلة الحنين والغربة، فى ذلك الشارع النائم على سور مدرسة الصنايع، المستند على أعمدة الإنارة الشحابة والمطفأة، الشارع الملتف بحزنه وصمته، ويخاصم الوسعاية التى تخلع طرحتها، وتفك ضفائرها، ولا تتوقف عن الصراخ طوال النهار.. كان إحساس غامض قد بنى عشه على قلبى وطار حتى النافذة الخضراء، فطرت خلفه علنى أراك جالسة فى الشرفة.
لكن الشرفة المغلقة الصامتة، تردنى إلى الوسعاية التى جلست تنتظر العيال دون جدوى، وتردنى الوسعاية إلى تلك الحجرة التى كانت تطل على شجرة التوت التى لم تثمر أبدا، وأطير أوراق العمر الضائع لعل واحدة منها تصل إليك، وفى اللحظات التى يراوغنى فيها النوم - وهى كثيرة - أرتدى ملابسى، أتوكأ على قلبى المتعب، وندب فوق الأسفلت حتى نصل إلى النافذة المغلقة، فنختبئ تحت الأعمدة التى كسر العيال مصابيحها.. ونردد معا قصيدة كامل الشناوى:
وإذا مررت.. وكم مررت بينها
تبكى الخطى منى.. وترتعد الدموع
نظل تحت ارتعاشة الضوء.. نحاول أن ننسى الزمن، حتى ينسانا.. لكن ولا مرة.. رأيت النافذة مفتوحة، ولا مرة.. نط الضوء من خلال فراغات الشيش الذى صار بلا لون، ولا مرة.. انكسرت الأغنية القديمة على حافة الرصيف:
- ليه الإنسان ما يقدرش يطير ؟!
يمكن السما واسعة عليه
- وأنا صغيرة.. كنت دايما أرسم نفسى طايرة فى السما، والبيوت صغيرة قد قوالب السكر
أنت الوحيدة إللى ممكن تطيرى يا سهير
- لو طرت.. مش هانزل على الأرض، إلا لحظة الموت
ابتسمت كطفلة فى كراسة الرسم، ولوحت له بخجل، ثم تحولت إلى ذرات من الضوء، واختفت فى السماء الواسعة.
فتح عينيه بصعوبة، كانت الشمس القنفد، قد قفزت من بين أعواد الحطب فوق السطح، وغرست شوكها فى وجهه وعنقه، ثم أخذت تزحف بقسوة فوق الجسد الغارق فى ملوحة العرق، نهض واقفا.. خلع جاكتة البيجامة، ومسح بها وجهه.
سمع خشخشة تأتى من جوف الكنبة لابد أنها الصراصير التى تظل تزحف فى الظلمة، وتقتات على بقايا الخبز القديم، حيث كانت الجدة نجية تستخدمها هى والكنبة الموجودة فى الصالة، لتخزين مؤنة الشهر من الخبز، الذى تفرشه على ملاءة تحت السرير بعد خروجه من الفرن، وتتركه ليلة كاملة حتى ينشف، أشعل السيجارة الوحيدة، التى بقيت معه من ليلة أمس، راح يراقب الشارع الواقع بين مدرسة الصنايع وسور الوسعاية، وقد بدا خاليا إلا من طفل صغير حافى القدمين، يرتدى جلبابا ترابيا قصيرا، يجرى فرحا وهو يدحرج أمامه طارة حديدية بسلك رفيع، انحرفت الطارة فجأة واصطدمت بالرصيف، ظلت تهتز فوق الإسفلت، محدثة صوتا رفيعا حادا، سرعان ما بدأ يخفت حتى تلاشى، وسكنت الطارة على حافة الرصيف، نظر إليها بغضب، كأنها كسرت روحه الطليقة، ثم رفعها بطرف السلك، وبدأ يدفعها أمامه ويجرى فى منتصف الشارع، صارخا فى الفضاء الرمادى، الذى فتح بوابات المطر فجأة، حتى اختفى وراء السور، هل ارتطمت الطارة وسقطت مرة أخرى ؟! أم مازالت تتأرجح فوق الإسفلت، وتتأرجح معها ضحكة صغيرة، تحاول أن تفرد جناحيها ؟! مثلما كانت سهير تحاول أن تفرد جناحيها فى ليالى الحزن.. أين أنت الآن يا سهير ؟! وقد أصبحت عاجزة عن الطيران، عاجزة حتى عن الحركة، كأن الدنيا غارت من أحلامك وجنونك، فكسرت جناحيك ما بين الأرض والسماء، لو تظهرين مرة واحدة، حتى أقرأ فى عينيك تواريخ المدن التى أشتهيتها، ثم أطلق الجنى الساكن فيهما، فأمسح تواريخ الموت والحزن، وأكتب تواريخ الميلاد، أتلمس وجهك اليمامة، فتنتقل الحياة إلى وجهى الميت.. فقط.. افتحى النافذة.. فقط.. افتحى الراديو لتغنى أم كلثوم.. سهران لوحدى.. ربما نطت من فوق النافذة الخضراء طقوس الحزن.. وترانيم الألم.. وطارت بعيدا.
فتح باب الغرفة، وخرج إلى الصالة، كانت ساكنة تغفو على حافة الرطوبة، وباب الشقة مفتوحا، أين ذهبت الجدة فى تلك الساعة ؟! لابد أنها صعدت إلى السطح، بعد أن توقف المطر فجأة، كما بدأ فجأة، لتفرد ساقيها فى الشمس، وتراقب الكتاكيت التى اشترتها منذ أيام، وهى تنقر بقايا القمح والخبز، خوفا من أن تخنقهم العرسة، مثلما خنقت كتاكيت أم رفعت الشهر المارضى، فشقت صدر جلبابها حزنا عليها، وظلت تبكى طوال الليل غلبها وفقرها، شعر بالضيق والقرف.. وقف فى النافذة يراقب العطفة، كانت أم يوسف التى أطلق عليها العيال فى الوسعاية الطرشة لأنها لا تسمع، حتى نسى الجميع اسمها الحقيقى، تجمع الغسيل الذى بلله المطر الفجائى من فوق الحبال، وتسب وتلعن لأنها ستضطر لغسله مرة أخرى، تسقط منها المشابك فيزداد سخطها وسبابها، ظهر الولد ياسر فى أول العطفة، فى يده اليمنى صنارة قصيرة، وفى اليسرى كيس بلاستيك ملىء بالماء، قادما من بحر كفر حجازى، حيث يصطاد العيال السمك فى الصباح الباكر، وهو ليس بحرا.. مجرد رافد صغير من روافد النيل، كانت تعبره فى الصباح المراكب المحملة بالقصب وأجولة القمح والأرز، وفى الليل.. تسكنه الجنايات والعفاريت، وبعد أن انتشرت البيوت المبنية بالطوب الأحمر على جانبيه، ودخلت الكهرباء تلك المنطقة النائية، لم يعد العيال يستحمون فيه، ولم تعد تسكنه الجنيَّة التى خطفت الولد على، ولم تعد العفاريت تختبئ بين الأشجار والحقول الواسعة، لتطارد العابرين من الضوء إلى الظلمة رفع الولد ياسر الصنارة عاليا، صرخ بعزم الروح، حتى انتفض الجسد النحيل:
- الحرب قامت.
انفتحت الشرفات والنوافذ، أطلت النسوة بجلاليبهن المفتوحة الصدر، وضفائرهن الهاربة من المناديل المطرزة، فالعيب هجر عشه القديم فى العطفة الترابية منذ سنوات بعيدة، بعد أن ظل العيال يطاردونه فى مداخل البيوت، وبنى عشا جديدا فوق أعمدة الأسرة النحاسية والحديدية فى الغرف المغلقة، فى ليالى الحنين إلى الجسد.. النشوة، وعندما تفتح الأبواب.. يصبح طقسا يوميا عاديا.. فالبيوت مفتوحة على بعضها، وصدور النسوة تنط من فتحات الجلاليب كالقطط البرية أمام العيال ساعة الرضاعة، حتى فقدت تضاريسها الأنثوية، ولم تعد تثير العيال، وهم يمارسون العادة السرية. صرخ الولد ياسر بصوت مبحوح مرة أخرى:
- الحرب قامت.
ألقى بالكيس النايلون على الأرض، فانفجر محدثا صوتا مكتوما، وتناثر الماء، جرى ناحية الوسعاية، واختفى خلف السور، مالت الرؤوس على حواف النوافذ والشرفات، وتحركت الأيدى فى الفراغ، كأنها تهش الموت بعيدا، فمازالت العطفة ترتدى طرحتها السوداء منذ عام 76، والمخابئ التى لم يختبئ بها أحد، شاهدة على انكسار الروح، وأبوابها الخشبية المغلقة بأقفال صدئة، كتب عليها العيال الأحرف الأولى من أسمائهم، وأسماء البنات اللاتى يكتبون لهن خطابات لم تصل أبدا، داخل قلوب تخترقها السهام، كأنهم يدفنون مشاعرهم على أبواب المخابئ المقابر، أيام كثيرة هبت على العطفة كرياح الشتاء الباردة، واخترقت عظامها، فأغلقت البيوت أبوابها، وأيام.. وقفت تنبح على مشارفها، فيختبئ العيال فى جلاليب الأمهات، لكن.. ولا يوم واحد.. أخذها فى حضنه، واستراحا معا، سقطت ملاءة السرير من أم يوسف التى لم تسمع شيئا على الأرض، فازداد سبابها وسخطها، سمع صوت إغلاق باب الشقة، رأى الجدة تدخل قفص الكتاكيت، وتضعه تحت سريرها النحاسى القديم وانتصبت أمامه كعود القصب الذى نخره السوس، همست بخوف:
- أخوك فى الحرب يا يحيى
التفت إليها نصف التفاتة، حتى لا يمنحها الفرصة، لتطلق خيول الحزن فتدهسه فى تلك الساعة، وهو عاجز عن لملمة روحه، التى تبعثرت على حافة النهار، قال لها باقتضاب إن وحدة أخيه بعيدة عن الجبهة، سألته بصوت مخنوق:
- أعملك شاى
- أنا خارج