عصر الكذب الإلكترونى!

صباح الخير
يمكننا ببساطة أن نطلق على العصر الذى نعيشه الآن ومنذ ربع قرن، عصر الكذب الإلكترونى، فهو الذى شهد ميلاد ما يسمى الآن وسائل التواصل الاجتماعى، أى الإنترنت والفيس بوك وتويتر وغيرها من المبتكرات التى أتاحها التقدم التكنولوجى فى مجال الاتصالات الإلكترونية، ومع أنها وسائل وابتكارات مفيدة بصفة عامة وحققت تقدما كبيرا فى التواصل الإنسانى ونشر المعرفة والأخبار، إلا أنها للأسف، وكأى سلاح ذى حدين، ساهمت، أو بمعنى أصح، استخدمت للمساهمة فى إشعال حرب الأخبار الكاذبة أو المزيفة «فاك نيوز».. ومن خلالها أصبح العالم كله يعيش عصر الكذب الإلكترونى.
وأصبحنا نعرف أزمات سياسية بين الدول ناتجة عن الأخبار الكاذبة المذاعة على أى وسيلة إلكترونية.. وأيضا شهدنا عمليات التأثير على أصوات الناخبين بنشر الأخبار الكاذبة ضد مرشح لصالح الآخر كما حدث فى انتخابات الرئاسة الأمريكية، ليس هذا فقط بل تابعنا عمليات التأثير على الناس فى بريطانيا ليصوتوا بـ«نعم» لخروج بلادهم من عضوية الاتحاد الأوروبى، بترويج أخبار ومعلومات كاذبة، وتضليل الرأى العام وبلغ الأمر مداه بأن تسبب خبر كاذب فى اغتيال نائبة برلمانية بريطانية العام الماضى.
عمليات غسيل مخ عشوائية
ولو ابتعدنا قليلا عن السياسة الدولية سنلاحظ أن الإنترنت ومرافقه ومواقعه أصبحت تأكل عقول الناس وتقوم بعمليات غسيل مخ عشوائية لها أهداف سلبية فى معظم الأحوال، سواء بغرض تحقيق الشهرة لبعض الأفراد أو الجماعات أو للتشهير بالآخرين وتشويه سمعتهم وإثارة الشكوك حولهم، أو للانتقام منهم، فنانة تنتقم أو تحقد على أخرى فتنشر عنها أخبارا كاذبة وشائعات وفضائح.
وما أكثر شائعات موت الفنانين فى حياتنا هذه الأيام، خبر صغير على «تويتر» أو «إنستجرام» أو«فيس بوك» يردد: شادية ماتت.
تتناقله المواقع والصحف الإلكترونية وحتى الورقية دون مراجعة أو تأكد من صحته، فينتشر بسرعة مذهلة، ولا أنسى فى نهاية تسعينيات القرن العشرين، يوم إذاعة خبر كاذب عن وفاة سعاد حسنى، قبل سنوات قليلة من جريمة اغتيالها المروعة، اتصلت بى وقد أصابتها حالة من التوتر والذهول، وتبين فيما بعد أن عملية إذاعة الخبر الكاذب فى تليفزيون الدولة الرسمى - ولم تكن الفضائيات والمحطات الخاصة قد ظهرت بعد - كان وراءها مسئول كبير فى الدولة!
العالم يخوض الحرب على الكذب
ومع اتساع نطاق الكذب الإلكترونى ورواجه والأضرار الناتجة عن ذلك بدأ العالم منذ سنوات يبحث مخاطر الأخبار الكاذبة المزيفة على الإنسانية بصفة عامة ويخوض الحرب عليها، وانعقدت مؤتمرات دولية فى مقر الأمم المتحدة فى نيويورك لمناقشة وسائل مواجهة هذا الوباء، وقرر الاتحاد الأوروبى تشكيل فريق من الخبراء المتخصصين فى مكافحة الأخبار الكاذبة يضم أكاديميين ومنظمات مجتمع مدنى وممثلين عن وسائل الإعلام، وذلك لصياغة استراتيجية لمواجهة الأخبار الكاذبة ومساعدة مواطنى الدول الـ 28 الأعضاء على الكشف عنها، وكان البرلمان الأوروبى قد صادق على قانون لإطلاق إجراءات لهذا الغرض.
وشكلت بعض الدول هيئات ولجاناً رسمية مهمتها مراقبة هذا النشاط المحموم المسمى «فاك نيوز» حدث هذا فى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وجمهورية التشيك وأوكرانيا وغيرها.
وتكونت جمعيات ومنظمات وتأسست مواقع إلكترونية تهدف إلى كشف الأخبار الكاذبة وكشف مروجيها وتوعية الناس بطرق التعرف على هذه الأخبار والحذر منها والتنبه إلى مخاطرها، ومن هذه الهيئات والمواقع:
(IFCN) المنظمة الدولية لتحرى الحقائق
التى أنشئت سنة 2015 لتنسيق الجهود الدولية لمكافحة الأخبار الكاذبة وتوفير برامج تدريبية، وفى العام الجارى نشرت بيانًا بالمعايير الأساسية وقدمت مساعدات فى هذا المجال للنقابات والاتحادات الصحفية حول العالم وأطلقت صحيفة إلكترونية هي:
«المحادثة».. كما أنتجت نموذجا يساعد الصحفيين فى الكشف عن الأخبار الكاذبة عبر موقعها على الإنترنت The Conversation.
وهناك موقع آخر هو The Snopes. com أسسه سنة 1994 ويديره ديفيد ميكلسون وقد أصبح الآن أكبر وأقدم موقع لمطاردة وكشف الأخبار المزيفة، ويلقى احترام الصحفيين وعامة الناس حول العالم. وقد تم اعتماد بعض أبحاث الموقع ضمن البرامج التعليمية فى الولايات المتحدة حيث نشأ، وأيضا كندا.
ويقول كيم لاكابريا، أحد الباحثين فى موقع «سنوبس» من واقع خبرة عمرها أكثر من 20عاما وخلال عمل مستقل عن أى حكومة أو حزب أو أجهزة مخابرات أو مؤسسات أو رجال أعمال: إن الأخبار الكاذبة فى أمريكا هى ظاهرة شائعة. وليس صحيحا الاعتقاد السائد هنا بأن الحزب الديموقراطى، يصنعها أكثر من الجمهورى. باحث آخر يقول إن هذا صحيح لكن المشكلة تكمن فى أن الأشخاص المتعلمين جيدا فى الفئة العمرية بين 40 و50 سنة هم - للأسف - أكثر مستهلكى الأخبار الكاذبة، إنهم يعيشون فى «غرفة الصدي» وهؤلاء هم من يدلون بأصواتهم فى الانتخابات!
حرب الصحفيين الدوليين
خطورة الأخبار الكاذبة التى تنتشر عبر وسائل الاتصال الاجتماعى على الإنترنت وتمتد لتملأ شاشات التليفونات المحمولة الذكية وأجهزة «الآى باد» وغيرها، لم يغب أمرها على أهل الصحافة الرصينة فى العالم، ومعلوم أن انتشار الأخبار المزيفة عبر النت أدى إلى اهتزاز الثقة فى الصحافة بصفة عامة. لكن شبكة الصحفيين الدوليين بدأت تواجه هذه الأزمة من خلال سلسلة من الدراسات والبيانات والدراسات لمكافحة الأخبار الكاذبة والوقاية من تسربها إلى الصحف الورقية ومواقعها الإلكترونية.
IJ NET وتقدم الشبكة عبر موقعها الإلكترونى بيانات وأساليب وعناوين لمواقع معنية بالمساعدة فى كشف الأخبار الكاذبة والتحقق من مصداقية الصور والفيديوهات وغيرها من وسائل نشر الأخبار الكاذبة..
كما تقدم آخر الابتكارات فى الصحافة العالمية، وتطبيقات الأخبار والأدوات وفرص التدريب، بالإضافة إلى تقديم المشورة والتوجيه للصحفيين المحترفين والمواطنين الصحفيين فى جميع أنحاء العالم. وينتجها المركز الدولى للصحفيين فى سبع لغات منها العربية.
خبر كاذب وراء اغتيال نائبة بريطانية
ويكفى للتدليل على بشاعة ما يمكن أن يسببه انتشار خبر كاذب، أن نستعيد واقعة جرت مؤخرا فى بريطانيا، حيث تم اغتيال النائبة العمالية فى مجلس العموم (البرلمان) بعد نشر خبر كاذب على أحد المواقع الإلكترونية قبل أيام من الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، وكانت جو كوكس تمر فى دائرتها الانتخابية لتشجيع الناخبين وتوعيتهم بأهمية البقاء فى الاتحاد، وهاجمها رجل من مؤيدى الخروج ولقت مصرعها.
ومؤخرا حذر «داميان جرين» نائب «تريزا ماي» رئيسة الوزراء من مخاطر تكرار نشر أخبار كاذبة قد تتسبب فى مصرع عضو آخر فى البرلمان، مشيرا إلى أن حياة الناس مهددة بالخطر بسبب المدونات المجردة من المبادئ الأخلاقية والمواقع الإلكترونية التى لا تحاول أن تتأكد من الحقيقة.
تبقى كلمة أو سؤال قد يسأله القارئ: بعد كل هذا الحديث عن الجهود الدولية ضد انتشار الأخبار الكاذبة، أين نحن فى مصر والعالم العربى من مكافحة هذا الوباء؟
والإجابة: هذا هو موضوع حلقة قادمة، بعد أن نتعرف على تفاصيل أكثر عن سر تجاوب الناس مع هذه النوعية من الخبار والشائعات والأكاذيب، وتاريخ صناعة الأخبار الكاذبة وكيف ستتصدى وسائل الاتصال الاجتماعى «فيس بوك» و«تويتر» وغيرها لهذا الوباء بينما هى متهمة بنشره؟!
وبماذا يدافع أشهر مروجى وصناع الأخبار الكاذبة عن بضاعتهم الفاسدة؟
وفى الأسبوع المقبل نكمل