الأحد 25 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

من النهر إلى البحر

من النهر إلى البحر
من النهر إلى البحر


أتوقع أن يدفع عنوان المقال البعض إلى الاعتقاد بأننا سنتصدى لإحدى جوانب القضية الفلسطينية الأثيرة فى أنفسنا على مدار ما يقارب سبعين عاماً، حيث يُنسب إلى مؤسسى الجبهة الشعبة لتحرير فلسطين مبدأ رئيسى يعرف بـ(من النهر إلى البحر) وهو السعى إلى استعادة كامل الأراضى التاريخية لفلسطين من نهر الأردن إلى البحر المتوسط، إلا أن القضية التى نحن بصددها لا تتعلق سوى بالرقعة الجغرافية الفريدة التى تنحصر بين البحرين الأبيض المتوسط والبحر الأحمر ويوسطها نهر النيل العظيم ويُطلق عليها منذ فجر ظهور بنى آدم على الأرض (مصر).

تتذكر الأجيال المتعاقبة درس الجغرافيا الشهير فى المرحلة الإعدادية الذى يصف ديمغرافية السكان فى مصر ومساحة الأرض التى يشغلونها نسبة إلى إجمالى مساحة مصر التى تربو على المليون كيلومتر مربع بقليل. يشير هذا الدرس إلى أننا جميعاً نشغل مساحة لا تزيد على 6 % فقط من أرض مصر بينما يبقى 96% غير مستغل! لا نندهش من الإجابة التى ترد فى السطر التالى بأننا نعيش على ضفاف النيل ودلتاه منذ آلاف السنين ولا نغادرها؛ نظراً لأن تلك الأرض المحدودة تضم كامل مقومات الحياة وأبرزها على الإطلاق توافر للمياه والخصب فى تربتها الغرينية التى قدمت للعالم أجود المحاصيل الزراعية، وهو ما كان نتاجه الطبيعى أن حاضرة البلاد ومدنها الكبرى تقع إما فى دلتا النيل أو على شاطئه بالوجه القبلى، فيما عدا الإسكندرية ومدن القناة.
وفقاً لذلك تبنت استراتيجية الأمن القومى المصرى على مدار العصور مبدأ الدفاع عن تدفق النيل والحياة المزدهرة على جانبيه من منابع نهر الفرات والهلال الخصيب شرقاً (سوريا والعراق وجنوب تركيا حاليًا) إلى المدن الخمس غربًا (ليبيا حاليًا) ومن جزر البحر المتوسط شمالاً (قبرص وكريت وأرخبيل اليونان) وحتى منابع النيل ببحيرة فكتوريا جنوباً. مثلت كل الأراضى المتاخمة للدلتا ومجرى النيل وصولاً إلى الحدود الاستراتيجية للأمن القومى الدوائر العازلة عن الخطر، أى أنها بمثابة ساحة للأعمال الحربية والنقاط الدفاعية من قلاع وتحصينات ومواقع متقدمة للوحدات المقاتلة.
كان لتلك الاستراتيجية وجاهتها فى ظل أن غالبية المدن المصرية لم تتحول إلى مدن مليونية سوى عقب ثورة يوليو 1952، إلا أنه بالنظر إلى التزايد المضطرد للسكان خلال العقود الست الماضية فى المدن والريف على السواء وبالتالى ازدياد الكثافة فى المتر المربع إلى معدلات عالمية، فإنه ينبغى إعادة النظر فى مجمل التصورات عن حركة المجتمع خاصة هجرة أهل الريف إلى المدن، والأخطر (ترييف) المدن! ففى حقيقة الأمر ظل المصريون طوال نصف قرن ينتشرون أفقياً؟ بمعنى أن أبناء العائلة الواحدة قاموا ببناء أدوار أعلى للسكنى عقب تزاوجهم وتوالدهم مع البقاء بجانب ذويهم، وأدى ذلك بالتبعية إلى تصاعد ظاهرة البناء على الأراضى الزراعية لاستيعاب الأبناء والأحفاد خاصة مع تمليك الأراضى الزراعية للفلاحين عقب تفتيت ملكيتها بموجب قوانين الإصلاح الزراعى. على جانب آخر، توالت الهجرات من أبناء الريف والوجه القبلى لحواضر المحافظات والعاصمة على نوعين أولهما للالتحاق بركب متعلمى الطبقة المتوسطة التى صممها المهندس الاجتماعى الأبرز فى العصر الحديث - الرئيس الراحل جمال عبد الناصر - أو للحياة على أطراف المدن لممارسة المهن والحرف اليدوية على اختلافها والإقامة فى التخوم التى عرفناها فيما بعد بالعشوائيات التى أحاطت بمدننا الكبرى كالقاهرة إحاطة السوار بالمعصم.
أسهبت أبحاث ودراسات كثيرة فى وصف أوضاع المناطق العشوائية والحلول الناجعة لها، بل وتم بذل جهود حقيقية من جانب الدولة والمجتمع المدنى على السواء للنهوض بأوضاع قاطنى تلك المناطق من خلال حلول مؤقتة بتوفير بعض فرص العمل لهم أو إدخال المرافق لمنازلهم، أو بتدشين مشاريع لنقلهم من تلك العشوائيات ومنحهم مساكن بديلة وتطوير مناطقهم الأصلية.
لا تبدو المعلومات المتعلقة بتلك المشكلة خافية على أى شخص أو جهة، إلا أن ما يؤرق الكثيرين خاصة عقب إعلان نتائج التعداد الأخير تداعيات ما يسمى بـ(الانفجار السكاني). فى حقيقة الأمر، تمثل الزيادة السكانية صداعاً فى رأس حكام مصر المتعاقبين فى ظل محدودية الموارد وثبات مساحة الأرض. لكن العامل الأكثر إلحاحاً الآن هو ديمغرافية السكان، فمع وجود نسبة تناهز ربع السكان من الشباب وحوالى 66% فى سن العمل مما يعنى ضرورة التوسع رأسياً بشكل عاجل لتوفير المسكن وفرص العمل وإلا ازدادت نسبة المخاطر على الاستقرار الاجتماعى وتداعياتها المستقبلية.
إذن وبكل اختصار، نحن فى حاجة ماسة إلى الانطلاق خارج الوادى إلى مساحات أرحب لاستيعابنا والأجيال القادمة. لا أبالغ إذا ما اعتبرت تحقيق هدف تحفيز التوطين السكانى فى مناطق التنمية الجديدة ضمن المحور العاشر (التنمية العمرانية) فى رؤية مصر 2030 التى أطلقتها وزارة التخطيط، أهم الأهداف الاستراتيجية على الإطلاق. هذا لا يمنع عن التوقف عن توجيه عتاب لبعض التحركات الحكومية استجابة لنتائج التعداد، أبرزها إطلاق مبادرة (تنموية!) تسعى إلى تحديد عدد المواليد بطفلين فى إطار علاج الأزمة السكانية! لا داعى يا سادة للإعلان عن محاولات غير مدروسة، فالسوابق فى تنظيم النسل (وليس تحديده) خلال ثمانينيات القرن الماضى لا تبعث على التفاؤل بشأن نجاحها. يجب التركيز على صياغة رؤية اجتماعية اقتصادية للسكان المحتملين للامتدادات العمرانية الواعدة مثل العلمين الجديدة والاسماعيلية الجديدة، وذلك ليس بمجرد الاهتمام الإعلامى بهما، ولكن بإطلاق مشروع للجيلين الحالى والقادم الذين من المفترض أن تستوعبهما المدينتين - حوالى 7 ملايين شخص- يمنح الأمل فى انطلاقنا من وادى نهر النيل إلى سواحل البحرين الأبيض والأحمر لبناء مصر المنبسطة على أراضٍ جديدة. يلزمنا أن نؤكد لمن سيذهب إلى تلك المدن أنها ليست لنخبة محدودة لا يميزها سوى امتلاك النقود، ولكن للمصريين الجدد أبناء الطبقة المتوسطة الذين سيضعون رحالهم بأرض يمتلكونها منذ آلاف السنين ولم يسبقهم أحد إليها، إنهم الرواد الذين سيتبعهم الآخرون ويباركون خطواتهم الأولى نحو مصر الجديدة التى نحلم بها. هل يمكننا تخيل أحفادنا عام 2050 أو 2075 يملأون وديان سيناء الحبيبة وأرض الواحات الغالية فى مدن خضراء ذات طرق واسعة، يشربون من مياه البحر المحلاة ويتنفسون هواءً نقيًا ولا يلزمهم الانتقال لمكان آخر فى صيف أو شتاء؟ هل هو من الصعوبة بمكان أن نتمنى أن نشهد بداية ذلك الحلم أو نراه واقعاً متجسداً فيما تبقى لنا فى أعمارنا القصيرة؟  آمين.
 
المصادر:
https://www.citylab.com/life/2012/03/are-satellite-cities-cities-future/1468/
استراتيجية التنمية المستدامة.. رؤية مصر 2030