الثلاثاء 22 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الطريق إلى عالم ما بعد الحداثة

الطريق إلى عالم  ما بعد الحداثة
الطريق إلى عالم ما بعد الحداثة


 أثلجت صدرى كما لقيت إعجاب الكثيرين الكلمة التى ألقاها الخبير الاقتصادى الكبير شريف ديلاور بالمؤتمر الوطنى الرابع للشباب الذى عقد منذ أيام بمدينة الإسكندرية بمشاركة الرئيس السيسى، المهندس المخضرم أوضح بصورة قاطعة أن التصورات القائمة على تأسيس الصناعات ووضع الخطط الاقتصادية دون اعتبار للاتجاهات العالمية الحديثة سواء فى استخدام مصادر الطاقة المتجددة (الرياح - الخلايا الشمسية) بدلاً من الوقود الأحفورى (البترول ومشتقاته) أو التصنيع المتناهى الدقة (النانو تكنولوجى)..لم تعد تصلح لمساعدتنا فى تحقيق النهضة المأمولة.
 هذه العبارات الموجزة جاءت لتؤكد ما سبق الإشارة إليه فى مقالى المعنون (حلم الثورة الصناعية الذى ولى) بعدد المجلة الأسبوع الماضى، الذى كان ملخصه أن استدعاء الأفكار والتوجهات الاقتصادية والأيديولوجية التى عفى عليها الزمن لن يسفر عن الخروج من أزمتنا الراهنة.
لمحات من تاريخ العالم
فى كتابه ذائع الصيت (لمحات من تاريخ العالم Glimpses of The World History) أبدى المفكر والمصلح ورئيس الوزراء الهندى الراحل جواهر لال نهرو إعجابه الشديد بتجربة مصر الحديثة التى يمكن التأريخ لها باستقرار حكم البلاد لقائد فرقة السباهيين (الفرسان) محمد على باشا التى وصلت المحروسة على رأس حامية عثمانية لإعادة سيطرة الباب العالى على الولاية عقب جلاء سارى عسكر الجيوش الفرنساوية عنها عام 1801، مشيراً إلى أن مصر استطاعت أن تنجز خلال سبعين عاماً ما استغرق مائتى عام من أمم أخرى. فى الحقيقة يمكننا: إن عشرات، بل المئات من المفكرين العالميين نظروا إلى المشروع الحداثى المصرى بأنه حالة فريدة وواعدة فى زمانها، ولذلك سبب واضح لأنها جاءت فى وقت كانت المنطقة بأسرها تتخبط فى ظلمة الجهل والفقر.
ليس من الصعب إدراك أن المعجزة المصرية التى تحدث عنها نهرو كانت وليدة نهضة تعليمية أطلقها محمد على باشا صاحب الرؤية الحداثية التى ارتكزت على بناء جيش عصرى وفقاً لأحدث العلوم والأسلحة والتكتيكات العسكرية يعتمد على العنصر المصرى فى غالبيته، وإرسال مجموعات متتالية من الطلاب النابهين لاكتساب العلوم والمعارف الأوروبية، ثم وضع تلك العلوم موضع التطبيق من خلال تدشين المصانع؛ ونقل المعارف بتأسيس المدارس المتخصصة لتعليم أجيال جديدة من المصريين.
محمد على والمشروع المتكامل
بلا جدال كان الباشا رجلاً استثنائياً فى هذا العصر وصاحب مشروع متكامل وواقعى تولد لديه بعد فهم حقيقى لطبيعة المكان والزمان والبشر، مع الوضع فى الاعتبار أنه لم يكن رجلاً متعلماً وفقاً للصورة الكلاسيكية آنذاك فلم يكن يتقن العربية (لم يكن شرطاً فى هذا الوقت أن يتحدث الحاكم بلغة المحكومين حتى فى بعض الممالك والإمارات الأوروبية)، بل إنه جاء لبلادنا كأحد الفرسان المحترفين المرتزقة. لا داعى لإرهاق أنفسنا، كان ببساطة حاكمًا ذا عقل واعٍ لمستجدات العصر وعزيمة على امتلاك أدوات هذا العصر، والأهم إصرار على تجاوز أية عوائق يتم وضعها أمام أصحاب الأفكار المستحدثة والهمم الوثابة.
جيد للغاية، نجحنا فى وقت مبكر فى حصر الأسباب التى صنعت النهضة المصرية فى عصر الحداثة. لحظة من فضلك..
ما الذى أوقف تجربة محمد على؟
سؤال ملح: إذن ما الذى أوقف التجربة الناجحة وأعاق استكمالها طريقها نحو عالم ما بعد الحداثة Post-Modernity؟ جميع مناهج التاريخ التى يتم تدريسها فى مدارسنا المصرية أجابت على السؤال؛ السبب هو الاستعمار الأجنبى المستغل الذى جثم عن أنفاسنا لمدة 70 عاماً حتى قيام ثورة يوليو 1952. هل هناك أسباب أخري؟ نعم، فساد الأسرة العلوية الحاكمة وطبقة الباشوات والنخبة السياسية وعملاء الإمبريالية ووكلاؤها المحليون - مناهج التاريخ تذكر ذلك أيضاً - ولكن ألم يتشكل وعى وعقول جميع العلماء والنابغين وكبار الأدباء والمبدعين والمثقفين، بل ثوار يوليو أنفسهم خلال الحقبة الاستعمارية ذاتها، وهم من صاغوا لنا إرثنا الفكرى والسياسى والاقتصادى والقانونى والعلمى تراكمياً حتى هذه اللحظة؟! إذن لم يكن الاستعمار مانعاً من أن يفرز المجتمع أبرز النخب المصرية فى جميع المجالات والتى حاولت من جانبها استئناف التجربة الحداثية المصرية إلا أنها لم توفق للأسف.
عصر مابعد الحداثة
طرح عدد من علماء النفس والاجتماع والاتصال، بل الفيزياء والرياضيات بالجامعات الأوروبية والأمريكية خلال السنوات الأخيرة تصوراتهم النظرية وبعض المفاهيم لتفسير الظواهر التى مثلت فى مُجملها عصر ما بعد الحداثة كالشركات العابرة للقارات وعولمة المنتجات والأسواق ومعدلات الاستهلاك غير المسبوقة من حيث تأثيراتها على الأفراد والعلاقات الاجتماعية وحركة ارتقاء أو انكماش الطبقات الاجتماعية، وعلى الرغم من الاختلافات بين تلك النظريات فإنها شغلت مساحات من الجدل الأكاديمى وتم طرحها بصورة واسعة على الرأى العام الغربى. على سبيل المثال كان لتفسير أستاذ الجغرافيا والأنثروبولوجيا البريطانى دافيد هارفى David Harvey  لعالم ما بعد الحداثة بأنه تجسيد لما سماه بتضاغط الزمان والمكان Time-Space Compression  نتيجة لانتشار تقنيات الاتصال والإنترنت ووسائل المواصلات الحديثة محذراً من الاستعمار الجديد للشركات العالمية ومخططاتها لتحويل كل البشر إلى مستهلكين وكل الأشياء إلى سلع والتى عرفها بـــظاهرة (التسليع Commodification) ، الأمر الذى أثار حالة واسعة من الجدل استمرت خلال تسعينيات القرن الماضى وأوائل الألفية ولا تزال كلما تم طرح إشكاليات العولمة واستفحال صور التسويق والترويج لزيادة الاستهلاك فى مواجهة حملات الترشيد والتقشف. هذا النوع من الأسئلة التى تصدت لها نظريات تحليل ظواهر عالمنا المعاصر جديرة بأن تشغل وقت النخبة والعامة على خلاف المناقشات عديمة الجدوى التى تسود مجالنا العام فى غالبية الأوقات، على غرار التساؤل عن جدوى التوقيت الصيفى أو ما هى أفضل النظم الانتخابية الفردى أم القائمة أو المكانة التى كانت تشغلها مصر خلال الحقبة الملكية الغابرة.
أسئلة المستقبل؟!
الغاية الرئيسية من هذا النقاش هى منحنا الفرصة للتفكير بتجرد دون اعتبار لأية أفكار سابقة التجهيز حول أسباب توقف خطى التحديث والتطوير على مستوى المجتمع والدولة، وتجاوز مرحلة تفسير ما حدث فى الماضى القريب بأساليب من الماضى الأبعد. بكل صراحة، يجب التحول وبأقصى سرعة ممكنة إلى إجابة أسئلة المستقبل من خلال أدوات الحاضر، الإجابة واضحة كما كانت جلية لوالى مصر فى بداية القرن التاسع عشر؛ النهضة لا تتحقق سوى من خلال منظومة تعليمية حديثة تراعى التطور المتسارع حتى تحقق أهدافها فى الجيل القادم، وإعادة النظر فى الخطاب السياسى والإعلامى والدينى لخلق الوعى لدى الجيل الحالى بمشاكلنا الراهنة وفلسفتنا لإيجاد الحلول الوقتية أو المستقبلية لها والحقوق والواجبات التى تترتب عليها لكل من الأفراد والجماعات والطبقات على اختلافها خلال المرحلة القادمة.
كما رأينا أن وضع الإطار العام للمضى قدماً للتعامل بصورة جدية مع عالم ما بعد الحداثة ليس صعباً، بل هو بديهى، لكن التنفيذ شيء آخر. هناك حاجة ماسة للتخطيط الاستراتيجى بمستوياته الزمنية (بعيد، متوسط، قريب المدي)، والمكانية (قرى، مدن، محافظات) ومسئولياته الإشرافية والتنفيذية، وإعلان بنوده من خلال وسائل الاتصال السياسية والاجتماعية والإعلامية بشفافية واضحة لا تدع مجالاً للتأويل والتكهنات. •