عندما تلتقى المتعة والإثارة فى تجربة شخصية: ما تيجى نرقص تانجو!
ماجى حامد
لستم بجسد واحد، بل جسدين، يقف كل منكما فقط على بعد لمسات، يقف هو بكل ما أوتى من ثقة يقود رقصته بينما تقفين أنت بكل ما أوتيت من قوة تدفعين به إلى الخلف، هو بكل إصرار يقاومك، وأنت بكل ثقة تسمحين له، فى تلك اللحظة وبخطوات ثابتة تبدآن معا رقصتكما.
نظرات صادقة نابعة من تفاهم متبادل بينك وبينه وما هى إلا إشارات يصدرها هو لك تتحدد بناء عليها خطوتكما التالية، ولكن قد تتفاجئين فى بعض الأحيان بخطوة ما تعمد هو أن يفاجئك بها فقط لكى يثبت لنفسه ولك أنه هو ذلك القائد لتلك الرقصة وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة بها.
شعور بالسعادة انتابنى بمجرد بدء الموسيقى وما هى إلا ثوانٍ فإذا بى على سطح كوكب آخر برفقة شريكى فى الرقص، هناك صوت يهمس فى أذنى «مرحبا بكما على كوكب التانجو، فما هى إلا ثوان وتبدأ الميلونجا نايت».
على كوكب التانجو..
بدأت الرقصة وأنا أحاول بكل حواسى التركيز لتلقى إشاراته، كانت البداية مع الكلاسيك تانجو، وثلاث أغانٍ بلا توقف تبادل كل منا الخطوات الثابتة، كان هو القائد أو الفعل وكنت أنا مجرد التابعة أو رد الفعل، كان يفاجئنى أحيانا أثناء الرقص وأنا ما عليَّ سوى أن أستجيب لمفاجأته وكلى سعادة بها، بسرعة شديدة انتهت أول فقرة من فقرات الميلونجا نايت أو التانجو نايت وقد كنا على موعد مع لحظات من الراحة أنصتنا خلالها إلى موسيقى «الصلصا»، فالاختيار حر خلال تلك الثوانى لنوعية الموسيقى التى تتضمنها، من ثم حانت اللحظة لنعود إلى ساحة الرقص وهذه المرة كنا على موعد مع التانجو فالس، وثلاث أغان على التوالى كنت خلالها أشعر بخطوات قدمينا وكأنها أسرع من الكلاسيك تانجو، فهو أسرع فى إصدار إشاراته وأنا أسرع فى الاستجابة لها، فقد أصبح تركيزى أقل فما هو إلا إحساسى الذى يقودنى وما هو إلا إحساسه الذى يقوده، هناك شعور أكبر بالسعادة وهناك فضاء أكثر براحا رغم اتساعه فهو لا يسع سوانا، وفجأة توقفت الموسيقى من جديد وبدأت موسيقى الـ«تشا تشا»، لتبدأ عن انتهاء فقرة جديدة من الميلونجا نايت وبدء ثوان من الراحة، وإن كانت مجرد ثوان إلا أنها كانت تمضى كساعات طويلة، ولكن فى النهاية كانت تمضى وهذه المرة كنا على لقاء مع المودرن تانجو أو التانجو الحديث الذى شعرت خلاله وكأننى هائمة فى سماء العالم أطوف بحركاته كل شبر وكل ركن فيه، حالمة، أغوص بخيالى فى منتهى اللا واقع، حيث تلك السعادة التى يعيش فيها الجميع من خلاله، حيث السلام الذى يعم كل أركانه، فالجميع فى ساحة واحد شديدة البراح، على أنغام موسيقى التانجو يخطو فى اتجاه واحد، نحو هدف واحد، كل منا على وعى تام بدوره الذى جاء من أجله، هو القائد وهى وإن كانت التابع له، فهذا لا صلة له بمدى أهمية الدور الذى تقوم به، فهو لن يصبح قائدا بدونها وهى لن يحسب لها قيمة ما تقوم به بدونه، علاقة فى غاية التعقيد، بحاجة إلى قمة التركيز فقط إلا أن يدرك كل من طرفيها حقيقة دوره، ويدرك كل من طرفيها قيمة دور الآخر بالنسبة له، هذا ليس انفرادا يحسب لصالح كوكب التانجو، وإنما هى حقيقة على العالم كله أن يدركها ويعمل على أساسها.
أنغام حزينة..
كانوا ولطالما وصفوها باعتبارها مجرد رقصة بائسة على أنغام حزينة، وذلك لأسباب عديدة أبرزها ما كان يشعر به المهاجرون الأفارقة فى الأرجنتين من غربة وحنين لأسرهم الذين تركوهم وهاجروا من أجل فرصة عمل وتوفير الأموال من أجلهم، فى مدينة «بيونيس أريس» كان المهاجرون الأفارقة الرجال لا يجدون سوى التانجو وسيلة للتعبير عن مشاعرهم، هناك حيث تلك البلدة التى يندر بقلبها الجنس الناعم كان الرجال يتنافسون من أجل الحصول على أى فتاة ولفت انتباهها لقضاء وقت ممتع برفقتها، كانت البداية مجرد دعوة لرقص التانجو، وما بين العديد من الرجال كانت هى تبحث عن الأفضل، فهى نادرة وهم كثر، هكذا كانت الحياة فى التسعينيات من القرن التاسع عشر حياة حادة، صعبة، لا متنفس لأهلها وغربائها الذين يقطنون بها سوى رقص التانجو.
زى رسمى..
بفستان طويل وحذاء عالٍ أعد خصيصا من أجل راقصى وعشاق التانجو، تقف هى فى انتظار سماع الموسيقى، وعلى الصعيد الآخر يقف هو مرتديا بذلته السوداء وحذاءه، هكذا كان الزى الرسمى لرقصة التانجو وفقا لأصول الإتيكيت المتعارف عليها فى العالم كله،، ولكن تدريجيا تم استبدال ذلك الفستان بآخر قصير تماشيا مع موضة العصر، ذلك الفستان الذى يتسم بفتحته المميزة، التى تحرص عليها كل فتاة من خلال فستانها، قد يتباين مكانها، فالبعض يفضلها بأحد جوانب الفستان والبعض يفضلها فى الخلف والبعض من الأمام، فهى إلى جانب ما تمنحه من رونق خاص للفستان ومرتديته، فهى أيضا تمنحها مساحة من الحرية والإثارة، حتى تستطيع المرور من حركة لأخرى دون عائق يمنعها، أما الحذاء فالمفضل من أجل رقصة رائعة أن يكون نعلاه من الجلد المقلوب، ارتفاعه ما بين الخمسة والتسعة سنتيمترات، وذلك لسهولة الحركة، ينبغى أيضا أن يكون مغلقا من الأمام والخلف، فقط منعا لحدوث أى إصابات أثناء الرقص..
إتيكيت..
من أبرز أصول الإتيكيت العالمية للتانجو هو كيفية اختيار الشريك لشريكته فى الرقص، فدعوتها من أجل الرقص تبدأ عادة بإشارات يتبادلها كل منهما، قد تعنى تلك الإشارات الموافقة وقد تعنى الرفض، ولكن فى حال كانت الموافقة يسارع هو فى الذهاب نحوها ليتجها معا نحو ساحة الرقص، وبناءً عليه يظل كل منهما بصحبة الآخر على مدار المدة التى تستغرقها فقرة كاملة من فقرات التانجو التى تكون عادة ما بين الثلاث أو الأربع أغانٍ المتتالية، فقد تكون عبارة عن كلاسيك تانجو، وقد تكون عبارة عن فالس تانجو أو مودرن تانجو، هذه هى الأشكال المتعارف عليها عالميا بالنسبة لرقصة التانجو، التى تتضمنها أى ميلونجا نايت أو تانجو نايت، والتى ممنوع منعا باتا أن تقوم هى خلالها بالاعتذار لشريكها أثناء الرقصة، فالاعتذار قبل انتهاء إحدى الفقرات يتنافى مع أصول التانجو عالميا، أما تحديد المسافة بينها وبينه فهى من الأمور التى لا تتنافى مع أصول التانجو عالميا، فدائما تكون هى صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة فى تحديد شكل الرقصة، والمسافة فيما بينهما، فما بين «open tango» أو التانجو المفتوح والذى يحفظ المسافة بينها وبينه وبين «close tango» أو التانجو المغلق أو القريب، والذى تتلاشى خلاله أى مسافات يقع على عاتقها مسئولية الاختيار الحر فيما بينهما، عقب ذلك وبناءً على هذا الاختيار يبدأ دوره فى تحديد لحظة البداية.
أشهر الآلات ..
آلات كثيرة هى الأشهر فى عالم التانجو ففى منتهى الانسجام وهى وهو ينصتان إلى موسيقى التانجو تجدهما فى عز انسجامهما وتركيزهما يتتبعان النوتة الموسيقية بآلاتها المتعددة التى يتألق من خلالها آلات مثل الكامنجا والبيانو، إحدى أشهر الآلات المعتمد عليها أثناء إبداع موسيقى التانجو، ولكن لعل الأشهر من بين تلك الآلات والأكثر تأثيرا فى تلك الموسيقى هو الأكورديون، فهو أحد أبرز الآلات المعتمد عليها بشكل كبير فى إبداع أشهر المقطوعات الموسيقية التى يتمايل على أنغامها عاشقو التانجو حول العالم.
تجربة حياتية..
اختصارا لتلك السطور السابقة التى حاولت من خلالها وصف تجربتى مع رقصة التانجو، التى كانت البداية من خلالها عندما تم تكليفى بعمل تحقيق صحفى عن رقصة التانجو، لم أكن على دراية بمدى المتعة التى سأشعر بها أثناء رحلتى مع هذا الموضوع، فهو تجربة حياتية أكثر منه موضوعا صحفيا نمطيا، كانت معلوماتى عن هذا العالم لا تتجاوز حدها لدى أى فرد لم تمهله الحياة الفرصة للاستمتاع بمتعها الحياتية الأخرى، ولكن عقب بحث طويل التقيت خالد نصار أحد أشهر مدربى التانجو فى مصر وهناك حيث مدرسة « forever young dance studio » التقيت به وفوجئت هناك بعدد كبير من عاشقى التانجو فى مصر، لم يكن يخطر ببالى للحظة أن ألتقيهم، تحدثنا معا عن تاريخ التانجو وعن أبرز تفاصيل تلك الرقصة التى بلا مبالغة هى أحد أصعب الرقصات العالمية من حيث التفاصيل والخطوات والإتيكيت الخاص بها، لم يبخل خالد نصار عليّ بنقل خبرته التى اكتسبها على مدار ثمانية عشر عاما، كانت البداية مجرد فضول بالنسبة له دفعة للغوص فى عالم التانجو، ولكن تدريجيا تبدل هذا الشعور لشعور آخر أكثر عمقا، فقد عشق خالد هذا العالم وقرر أن يواصل رحلته خلاله حتى أصبح عالمه الخاص، الذى يهرب إليه كلما ازدادت تفاصيل الحياة وتراكمت عليه.
فما هو إلا الفضول الذى دفع بى للقاء خالد نصار، ولكن تدريجيا بدأ الشعور يتبدل لدى أيضا فالسعادة التى شعرت بها خلال اللحظة الأولى لى فى ساحة التانجو، سعادة لم أشعر بها من قبل، وهذا وإن عاد الفضل فيه فهو يعود للفنان خالد نصار، الذى بإصرار شديد استطاع أن يجذبنى لعالم التانجو لا للانتهاء من مهمتى فى إجراء هذا الموضوع الصحفى وإنما للاستماع بسحر وإثارة هذا العالم، إنه عالم التانجو. •