هل تعرف الدكتور محمود قاسم؟

رشدى ابو الحسن
هل تعرف الدكتور محمود قاسم؟ هل سمعت به؟ وهل قرأت له شيئًا مما كتب وحقق وترجم؟.. إذا قدمته لك بأنه أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم، وتولى عمادتها لعشر سنوات، نقل الكلية خلالها من حال إلى حال، فإنى بهذا التعريف أظلمه ولا أعطيه حقه، ولا أحيط بدوره وإنجازه الفكرى وأدائه الأكاديمى الرفيع، وقيامه بمسئولية العمادة، على أرفع وأدق ما يكون القيام بالمسئولية.
فهو ليس أقل من أحد رموز التنوير، الذين تابعوا رسالة رواد الإصلاح الدينى والسياسى الذين وضعوا أسس النهضة فى العصر الحديث، وبذروا بذور التغيير، والانتقال من الركود والجمود وإغلاق باب الاجتهاد والخروج من العصر، إلى محاولة اللحاق بقطار التقدم، وبناء أمة ودول تنتمى إلى العصر.. الرواد الذين يأتى فى مقدمتهم الأفغانى والكواكبى وشكيب أرسلان ورفاقهم، ومن تلاهم.
وفى الحلقة الرابعة من هذه السلسلة المضيئة، نجد اسم محمود قاسم، بين المبعوثين الذين أرسلتهم الجامعة المصرية فى الثلاثينيات من القرن الماضى، وعادوا بعد الحرب العالمية الثانية، يملؤهم الإيمان والحماس والمعرفة، لإكمال الطريق، الذى كان دائمًا مليئًا بالعثرات.
إذ عاد قاسم سنة 1945، بعد ثمانى سنوات فى فرنسا، لم يكف خلالها لحظة، عن محاولة استيعاب الحضارة الغربية، والتسلح بالأدوات التى صنعت تقدمها، حيث حصل على دكتوراه الدولة بمرتبة الشرف الأولى من السوربون، فى موضوع «نظرية المعرفة عند ابن رشد وتأويلها لدى توماس الأكويتى»، وبدأ عمله مدرسًا بدار العلوم، وظل ما يقرب من ثلاثين عامًا، فى هذا المعهد العلمى العريق، يؤلف ويترجم ويحقق، وفى ذهنه، أنه لا يحبر أوراقًا، ولكن يخوض معركة ضد التيارات التى يجتمع تحت لوائها «الذين جردوا العلوم الدينية من روحها، ونشروا كل ما يشغل الإنسان عن حاضره، ويصرفه عن سوء ما آل إليه، وتدعو إلى الرضا بالظلم واعتبار أن ما ينزل بهم هو من القضاء والقدر».. ومع هذه المعركة ضد الصوفية والسلفية والأشعرية، كان لا يتوقف عن نشر مناهج البحث الحديث والمنطق ومبادئ النظر العقلى، فى صفوف طلابه، وبين صفوف النخبة، وجمهرة المثقفين.
• بين أمسه وغده
وبالنسبة إلى جمهرة المثقفين، فقد كنت وقعت مصادفة على كتاب بعنوان «الإسلام بين أمسه وغده» منذ وقت بعيد، ربما منذ ثلاثين سنة.. شدنى عنوان الكتاب، وليس اسم المؤلف الذى لم أسمع به.. وحين قرأته بهرنى، فقد قادنى إلى حقائق، إذا لم تكن تغيب عنى، فإنه وضحها وحددها ووضعها فى إطارها التاريخى، وألقى عليها نورًا، أضاء كل جوانبها.. كان من نوعية الكتب التى تجيب عن سؤال، لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟
ويجيب المؤلف عن هذا السؤال، وأمامه كل ما جادت به قرائح الرواد، وتلاميذهم من الجيل التالى لهم، الذى يقف الشيخ محمد عبده فى صدارته! وفى ذهنه أيضًا التطورات التى جرت بعد ذلك، فهو يكتب كتابه فى منتصف القرن العشرين، حيث غابت شمس المستعمر، الذى كان يوجه إليه قادة الإصلاح الأوائل، كل السهام، وأصبح علينا أن نواجه أنفسنا.
ولذلك يتوقف مطولاً عند نفسية المسلم المعاصر، وما تتسم به من تواكل وجبن واستسلام، تغذيه فيه سطوة الحكم الاستبدادى، وتحالفه مع فقهاء السلطان، الذين نشروا تفسيرًا للدين يقوم على عقيدة القضاء والقدر والجبرية، التى ليست من الإسلام الحق، وتحت مظلات الأفكار الصوفية والسلفية والأشعرية، ابتعد المسلمون عن الجوهر الذى ابتدأ به الإسلام وكسب العقول والقلوب، ولذلك فهو يكاد يعتبر أن بداية التدهور، هى منذ استقرار «الحكم العضوض» عقب الفتنة الكبرى، فهذه هى البذرة الأولى، رغم النجاحات التى حققها المسلمون بعد ذلك.. هذه بداية التدهور، وليست التواريخ والأحداث التى اعتمدناها بعد ذلك.
ولابد أننى نسيت الكثير من التفاصيل، منذ قرأت الكتاب من عقود مضت، ولكننى لم أنس دفقة الحماس التى تفيض من سطوره، ليس حماس الشعارات، ولكن حماس الوعى والقدرة على التحليل والتفسير لوقائع التاريخ.
ويصعب على أن ألخص لك ذلك «المنفستو» الذى كأن صاحبه كتبه فى نفس واحد، وهو يطلق زفرة من صدره.
ولكى أقدم لك روح الكتاب، سأنقل لك الفقرة الأولى من مقدمته:
«قد نحسن الظن لو قلنا إن شباب المسلمين وشيوخهم، قد انقطعوا منذ جيل أو جيلين، عن الفخر بماض لم يصنعوه، وعن الأسى والحسرة لحاضر يزعمون عجزهم عن إصلاحه، وعن الأمل العريض فى مستقبل يلقون عبء تحقيقه على الأجيال بعدهم، ذلك أنهم كانوا ينتظرون إحدى المعجزات لكى تقودهم إلى الحرية عفوًا، واليوم يوشك القوم أن يعترفوا بأن النهضة لا تأتى دون جهد، وإنما تنبعث من أعماق الأمة، وعلى عيونهم، ولهم بعد ذلك أن يدركوا أن تدهورهم أبعد مما يظنون.. ولم أهتم وقتها بالبحث عن كتب أخرى للمؤلف.
ففى حدود اهتمامى بقضية التراث، بدا لى هذا الكتاب كافيًا.
• ماجدة قاسم
ومع مرور السنوات، لم أسمع باسم محمود قاسم يتردد، فى المجالات التى لابد أنه أحد فرسانها، وتولد لدى إحساس، أن شيئًا ما، ربما لا يعود إليه هو، هو الذى يجعله بعيدًا عن الأضواء ودوائر التأثير.. ومما يدهش أننى عرفت فقط هذا الأسبوع، إجابة عن هذه الأسئلة، ما هى مؤلفاته، وما هو المشروع الذى انقطع لإتمامه؟ وما الذى حجبه عن جمهور قراء، يبحثون عن مثل هذا الصوت.
وتجىء هذه الفرصة مصادفة.
ففى سهرة خاصة، فى بيت السيدة ثريا متولى، زوجة الصديق الصحفى المرحوم محمد قناوى، كان من بين الحاضرين الدكتورة ماجدة قاسم الأستاذة بهندسة الزقازيق، وابنة المرحوم محمود قاسم.
وأشارت عرضًا فى بداية حديثها، إلى أنها كانت مشغولة طول اليوم، فى مشوار من المشاوير التى اعتادت عليها منذ سنة 1992، بين الهيئة العامة للكتاب ووزارة الثقافة وكلية دار العلوم وقسم نشر الأعمال الكاملة بالهيئة، وذلك فى مسعى مرهق، تكاد تتفرغ له منذ ذلك التاريخ مع شقيق لها، لإعادة طبع مؤلفات والدهم.
والحمد لله أنها وجدت من يتحمس لطبع هذه الكتب فى الهيئة ووزارة الثقافة، وقد صدر بالفعل سنة 2009 كتابه «الإسلام بين أمسه وغده».
وأرخيت أذنى، وكلى إصغاء، فإننى منذ انتقيت هذا الكتاب، فى نسخة قديمة من سور الأزبكية، وأنا حريص عليه، أدعو الأصدقاء إلى البحث عنه، ولكن لا أفرط فيه.. وها أنذا أعرف أن للكتاب أهلاً وعزوة، مازالوا يعتزون بالانتساب إليه، بل إن فى المكتبات طبعة جديدة له.
ومن الطريف أننى عرفت منها، أنها بسبب دراستها العلمية وتكوينها باللغة الفرنسية، لم تعرف شيئًا عن نشاط والدها الفكرى قبل هذا التاريخ.
وكان التعرف عليه مفاجأة كبرى لها ولأخيها أيضًا، الذى حدثها من باريس بعد إعادة طبع كتاب «الإسلام بين أمسه وغده» والذى قرأه أخيرًا، وفوجئ به مفاجأة صاعقة، وقال لها: كأن أباهم يعيش بيننا اليوم، يشارك معنا فى الحوارات الدائرة، حول الإسلام والتجديد الدينى والمواجهة بين الإسلام المتطرف والعالم كله.
وعلى أى حال فكثيرًا ما يحدث أن الأبناء لا يعرفون فضل آبائهم وجميل صنعهم إلا بعد الموت.
ومن حسن حظها أنها وجدت من يساعدها ويسارع إلى معونتها فى إتمام هذه المهمة، حتى تم إقرار خطة إعادة الطبع وجدولة الإصدار.. وهى لا تنسى عندما تجىء مناسبة، أن تشكر الدكتور وحيد عبدالمجيد والأستاذ حلمى النمنم والدكتور أحمد مجاهد والأديبة سلوى بكر وجودة رفاعى المشرف على طباعة الكتب، فكل منهم أسدى مساعدة مخلصة وكريمة وتستحق كل تقدير وطبعاً لاتنسى تلاميذه، والذين أصبحوا أساتذة منذ وقت طويل واليوم أعلاماً.
• 45 كتاباً
وستحظى المكتبة العربية خمسة وأربعين كتابا، ستصدر تباعا فى مجلدات.. وألقيت نظرة على قائمة الكتب، فإذا هى ذخيرة لا غنى عنها، ومن العجيب بأنها كانت محجوبة عن عيون القارئ العام، ولا تشغل الاهتمام والحوار طوال هذه السنوات.. يضيق المجال هنا أن أقدم لك نبذة عن كل كتاب من هذه الكتب التى تغطى التأليف والترجمة والتحقيق، التى قرأت بعض عروض لها فى كتاب سأحدثك عنه حالا.. وهى ليست مجرد دروس فى ملازم لطلاب الجامعة، إنها فى مجموعها تنبع من رسالة تسهم فى صياغة العقول بروح المناهج العلمية الحديثة، والعقلانية، وإعادة نظر واعية فى التراث، ونقل المراجع الرئيسية فى علوم المنطق والاجتماع وغيرها من اللغات الأجنبية.
ويهمنى أن ألفت نظر المهتمين من الشباب وغيرهم، إلى أن المجلد الأول فى الطبعة الجديدة للمؤلفات، يضم الكتاب الذى كان موضوع رسالته للدكتوراة وعنوانه «نظرية المعرفة عن ابن رشد وتأويلها عند توماس الأكوينى» وكتاب عن «ابن رشد وفلسفته الدينية» وتحقيقه لكتاب ابن رشد «مناهج الأدلة فى عقائد الملة».. إن مجرد كونه أحد المتخصصين القلائل فى فلسفة ابن رشد، كان يجب أن تجعل له مكانة سامية.. لاسيما أن كثيرا من الباحثين المتابعين يرون فى بحوث قاسم، ندا لباحثى الغرب فى هذا الموضوع.. وقد أسندت له لجنة فلسفة العصور الوسطى بمدريد نشر بعض إنتاج ابن رشد بالعربية، وقام بهذا الجهد المضنى وقد اختطفه الموت وهو مشغول بإتمامه، قبل أن يكمل عامه الستين.
وقس على هذا فى بقية المؤلفات.
فمثلا كما يكتب الدكتور حامد طاهر أستاذ الفلسفة الإسلامية «بعد أن حقق محمود قاسم كتاب ابن رشد «مناهج الأدلة فى عقائد أهل الملة» وضع له مقدمة، لم تصبح مقدمة عادية لكتاب محقق وإنما أصبحت عملا متميزا قائما بذاته، وذلك أنه ضمنها جملة آرائه فى علم الكلام، وشتى الآراء الدينية التى فرقت بين طوائف المسلمين، وقد تم ذلك بلغة متدفقة، وباتباع منهج علمى محكم، بالإضافة إلى حسم واضح فى عرض المشكلات وتقديم الحلول.. أما كتاب «ابن عربى وليبنتز» فيراه الدكتور حامد، أنه أحد اكتشافات محمود قاسم العلمية.
وهو مقارنة موضوعية تحليلية بين المفكر العلمانى ليبنتز والفيلسوف الصوفى المسلم ابن عربى.
• كتاب تذكارى
وأعارتنى الدكتورة ماجدة، الكتاب الذى أصدره عدد من تلاميذه وزملائه وأصدقائه وعارفى فضله، على نفقتهم الخاصة، بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته.. وهو الذى نقلت منه الاقتباسات السابقة عن كتبه.. وقد وجدته ذا فائدة كبيرة على مستويات عديدة.
بل إننى أحسست أنه يستحق أن يطبع مع المؤلفات الكاملة، أو فى أى مكان آخر.. فحين ينبرى عشرين أستاذا من جامعات مختلفة، بعد عشرون سنة من غياب الرجل، ويجتمعون على الإشادة بمزاياه، والاعتراف بفضائله، وتقييم الفترة التى قضاها أستاذا وعميدا تقييما منصفا، ويؤكدون أن الكلية التى كانت فى ذيل كليات الجامعة، على اعتبار أنها تقبل أدنى المجاميع، أصبحت موضع احترام، لما أصبحت عليه من حضور فى جوائز طلابها فى المسابقات الجامعية، وتغيير المناهج الدراسية، وما أثاره من روح جامعية تتسم بالطموح والمشاركة.. فإن هذا يشير إلى أن محاولات التشويه والإزاحة ومقاومة الإصلاح لا تنجح على طول الخط.. الأقسام الخمسة للكتاب، تغطى سيرة حياته، وعرضا لمؤلفاته، ونماذج من فكره، وشهادات لثمانية من الذين عرفوه وشاركوه وعملوا معه عن قرب، وكلهم من الأعلام المحترمين، ودراسات فى فكره كتبها خمسة من الأساتذة، ودراسات مهداة إليه لثمانية من الباحثين.
أما الصورة التى رسمها هؤلاء الشهود العدول لهذا الرجل النبيل، فخطوطها تنطق بالاستقامة، التى لا تعرف أى درجة من التنازل والحلول الوسط، والجرأة فى قول الحق، ومواجهة الخارجين على القيم والتقاليد الجامعية، ورفع المظالم التى تقع على الحريصين على أداء واجبهم.
حزمة من الفضائل يرتبط بعضها ببعض.. وضربوا لنا عشرات من الأمثلة..سأذكر مثلا واحدا على اهتمامه بدوره وواجبه من أصغر الأمور إلى أكبرها فقد كان ينظر دائما فى أوراق إجابات آخر العام نظرة عامة، ليتأكد أن الأستاذ قد قرأ ما صححه دائما.. ولاحظ مرة أن أستاذاً أعاد الأوراق بعد يومين من تسلمها، فطلبها وألقى عليها نظرة، فتبين له أن الأستاذ لم يفتح ورقة واحدة واكتفى بوضع الدرجات.
فاستدعاه وقال له إما أن يؤخر إعارته عاما أو يحيله إلى التحقيق.
• عدو جديد !
ويعلق الشاهد على هذه الواقعة: ومن هنا كسب الدكتور قاسم عدوا جديدا، وانضم إلى الحلف الذى اجتمع على محاربته والعمل بكل الوسائل على إزاحته من المشهد.. وتكشف مادة الكتاب عن الجو الجامعى، بعد سيطرة حكم الحزب الواحد بعد 23 يوليو، وما أحدثه من تدهور، ورغم أن قاسم لم يكن من أعداء النظام وقائده، بل كان عضوا فى تنظيماته، إلا أن حرصه على حرية واستقلال الجامعة كان أكبر، ومواقفه فى هذا المجال، تضاف إلى حسناته، والوقائع التى ذكرت تشرف صفحته.
سألتك فى بداية الحديث هل تعرف الدكتور محمود قاسم؟
وها أنت قد عرفته فماذا أنت فاعل؟!
إنى لو أستطيع لطبعت هذا الكتاب التذكارى، الذى نفدت نسخه ففيه إعلاء لقيمة التفانى فى العمل والحس بالمسئولية والواجب، وعدم التراجع أمام الفاسدين وأنصاف الموهوبين والمتسلقين.. وإذا كان محمود قاسم «قد خلت حياته من لحظات التقدير التى يتلقاها العامل المجد، بل على العكس كان نجاحه هو سر مأساته» كما يكتب أحد زملائه.. وفى العيد المئوى لكلية دار العلوم، تذكروا بالشهادة والجوائز من هب ودب، إلا هو وفى المبنى الجديد وضعوا لافتات بأسماء أعلام الكلية إلا محمود قاسم.. وفى سنة 1992 فى ذكرى وفاته العشرين يصنع له تلامذته وكلهم اليوم من الأعلام بهذا الكتاب تمثالا.
وأقرأه أنا بعد خمس وعشرين سنة فأنحنى إعجابا له.. ويبقى الدرس الأهم: أنه لا يكفى أن نعترف لهؤلاء بالفضل بعد غيابهم ونبكى على مآثرهم، ولكن أن نقف إلى جانبهم فى حياتهم نشد أزرهم.
حتى نصل إلى خلق البيئة الطيبة المواتية، التى تجعل هؤلاء الأبرار يعطون أفضل الثمار ونصل إلى الدرجة التى تدور فيها عجلة النهضة والتنمية والتقدم دون توقف أو تراجع. •