الثلاثاء 20 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

سنة أولي سياسة!

سنة أولي سياسة!
سنة أولي سياسة!



انتهيت بالقارئ فيما سبق ذكره فى العدد الأخير من ذكرياتى إلى كيف أن صار للمجلة إدارة جديدة، ولا فخر، بعد أن ضاق منزلى بالزائرين، وهدد المحررون المتطوعون بالامتناع عن صعود الأربعة والتسعين سلما والاكتفاء بالجلوس فى بير السلم يكتبون فيه مقالاتهم جلوسا على الأرض أو على دكة البواب..
وأن الإدارة الجديدة ـــ ولا تنس ذكر الفخر الكبير ـــ لم تكن سوى قسم من بدرون المنزل المقابل للمنزل الذى كنت أسكنه، والمنزلان من ممتلكات أمير الشعراء المرحوم شوقى بك فى شارع جلال.. ومما يصح تداركه بالذكر مادمت أذكر «الإدارة البدرون» إن سعادة أمير الشعراء، كان على غناه الواسع وجاهه العريض يبدى دقة متناهية فى سبيل قبض إيجار هذه الإدارة وقدره مائتا قرش صاغ، فلما التمسنا من سعادته أن يمهلنا بضعة أيام فى دفع الإيجار، باسم الأدب والشعر والصحافة كان سعادته يسمعنا دائماً أن الأدب والشعر كوم، والفلوس والإيجارات كوم تانى وبينهما برزخ واسع فهما لا يلتقيان!!
كذلك وقفت بالقارئ كيف أن الجمهور أعجبته مخاصمتنا «للأدب العالى» فأقبل على قراءة المجلة وهى تتهادى فى فستان الأدب الرشيق حتى إن رقم التوزيع قفز إلى تسعة آلاف نسخة!!
والأدب الرشيق، مهما قلنا فى رشاقته وخفافته، فهو أدب يحشر أنفه فى تصرفات الناس، وتصرفات الناس كما يعلم القارئ بعضها يستحق الحمد والثناء والبعض الآخر لا يمكن التعليق عليه بالحمد والثناء.
إلا أن للاشتغال بهذا الأدب الرشيق خاصة لا يمكن إغفالها، وهى أنها تجعل المشتغل يحس إحساسا عميقا بالمحيط الذى يعيش فيه ويتحرك مدفوعا بتفكيره إلى الغاية التى يندفع إليها التيار الكبير الذى يسود هذا المحيط ويغمره.. كانت السياسة بثورتها ومنازعاتها الحزبية هى التيار الاجتماعى الجارف..
وكان سعد زغلول قد تحول من شخصية ممتازة إلى فكرة، ومن فكرة إلى عقيدة وطنية، وصارت حركاته وسكناته متصلة بتصرفات الناس ولا سيما الطبقة العالية، وهى الطبقة التى كنت أجرب فيها نظريات الأدب الرشيق.. كانت السياسة المصرية مسرحا عجيبا تقدم فيه أفكه المهازل وأعجب المآسى.. وكنت كزعيمة للأدب الرشيق إياه، أحس بكل ما يجرى حولى وأتأثر به.. وكنت كفنانة، قضت عليها الظروف بأن تقف متفرجة على العجيب المدهش مما يمثل على مسرح السياسة، أحس برغبة قوية فى أن أعتلى خشبة هذا المسرح الجديد وألعب دورا فيه بحكم غية التمثيل.
كل هذه العوامل كانت تضطرب فى رأسى وتختلط كما تختلط وتتمازج مختلف المشروبات فى كوز «الكوكتيل».. وفى ذات مساء استدعيت الأستاذ التابعى، صديقى، وبعد أن قفلت باب البدرون بالضبة والمفتاح، صارحته بما يضطرب فى رأسى وطلبت إليه أن نعتلى خشبة هذا المسرح ولو بصفة كومبارس!!
وهنا بحلق التابعى فى وجهى وارتفع طربوشه محمولا على شعره الواقف، ثم قال لى بلهجة قاطعة: لا يا ستى أنا لا أحب السياسة ولا السياسيين.. وراجعته متلطفة ولكن بلا فائدة وأصر على إبداء كرهه للسياسة وختم حديثنا بأن أبحث عن واحد تانى يشتغل معى فى هذه الصنعة الجديدة!
فسكت على كره منى بعد أن استعنت على السكوت بشرب قُلة المية!!
ولكن الفكرة لم تمت بل لم تهمد، وأحسست بأنها تزداد قوة تحت الرفض الذى أبداه الأستاذ الصديق.. وسرنا خطوتين، وفى كل خطوة نتعثر بالعقبات المالية، فقد كان إيراد المجلة كما ذكرت فى عدد مضى  وثمن النسخة الواحدة خمسة مليمات ــــ يغطى بالكاد تكاليف المجلة ودفع مصاريف القهوة والسجاير «البفرة» للمحررين الأعزاء وفى كل «دخلة» إلى إدارة المجلة ذات الباب الواطى ترتطم رؤوسنا بأعلى الباب حتى أتقن الزوار والمحررون أحدث التمرينات فى ثنى القامة وفى الزحلقة!!
وشاءت الحوادث أن أعيد الكرة فى فتح الحديث من جديد فى مسألة السياسة.. وكانت مجلة «الكشكول» فى عنفوان جبروتها، وكان لها سوط سليط تشرعه على كل كبير، وكان سعد زغلول الهدف الأول والأخير لهجماتها.
وكانت الجرائد الوفدية ترد التحية على «الكشكول» ولكن بغير سلاحه، فقد كان سلاحها المقالات الطويلة التى تجر وراءها بحر البلاغة والبيان، وكان سلاح الكشكول الصور «الكاريكاتورية» التى تركز المعانى وتقدمها سهلة هينة إلى الجمهور، وكان سلاحها أيضاً نوعاً من الأدب الرشيق..
وكانت السيدة «منيرة ثابت» أصدرت مجلة باسم «الأمل» وخاضت بحر السياسة ولكن على قرعتين من البلاغة والبيان والأدب العالى فلم تقدم ولم تؤخر شيئا فى رد هجمات الكشكول.. واضطرت السيدة إلى إغلاق المجلة بعد خمسة شهور من إصدارها.. وكنت كلما قرأت «الكشكول»، وهو ينال من سعد العظيم، أقضى ليلة مزعجة أتمنى أثناءها أن يحولنى الله من امرأة إلى رجل، لأذهب إلى الأستاذ سليمان فوزى صاحب الكشكول وأضربه علقة وزغدين!
إذ كانت لـ «سعد» فى نفسى مكانة سامية، وكنت أعتقد كما أعتقد الآن أن من يجترئ عليه بالباطل إنما ينال من حقوق الوطن!!
كل هذه العوامل جعلتنى أفاتح صديقى ثانية فى الموضوع، وكان جوابه أيضاً هذه المرة الرفض التام، ولكننى لم أتقهقر وأخذت فى تنفيذ مشروعى.
••
ولكن كيف نحصل على رخصة سياسية للمجلة؟!
كانت وزارة «زيور باشا» أو «أحمد الصغير» كما أسميناه، قائمة فى الحكم، وزيور باشا على جسمه الكبير، رقيق العاطفة لين العريكة يعمل بالمثل المعروف «اعمل الطيب وارميه فى البحر»!!
وعمل دولته بالمثل إياه فأعطانى الرخصة السياسية بعد محاولات قمت بها.. ولبست أثناء قيامى بها قناع الهبلة المضروبة على عنيها التى يغرر بها الناس أصدقاء كانوا أو أعداء!
وكانت فرحتى بهذا التوفيق فرحة لا تقدر، تستحق فسحة على قد الحال، ولكن أين أجد الفلوس!.. دخلت على الجماعة فى البدرون فعجبوا من أننى مبسوطة هذا الانبساط الذى ليست له مناسبة، وكنت أكتم عنهم جميعا خبر النصر الذى أحرزته، وسرعان ما سرت العدوى إلى الجميع وانفتحت نفس الأستاذ التابعى على آخرها ورمى فجأة بعلبة السجاير التى على قد الحال برضه وقفز واقفاً ليخبرنا فى لهجة حازمة بأنه سيأتى لنا بقرشين من تحت الأرض نبل بها ريقنا فى هذه الليلة!
وغاب التابعى وعاد يحمل فى يمينه ورقة من فئة الجنيه فقابلناه  مهللين صارخين.. ولكن كيف جرت الأعجوبة؟
تأملت التابعى من فوق لتحت وبالعكس، فإذا بى أرى معصمه خاليا.. من ساعة اليد، وهى ساعة ذهبية كانت عنوان وجاهته فى كل مكان وكانت لها بركات فى أن تجعل الناس يحسنون الظن بالمجلة وبمن يكتبون فيها!!
وكانت ليلة لم يأت منتصفها إلا وكان الجنيه يلفظ النفس الأخير.. يارفاق الجهاد الأول أحييكم متواضعين ومأزومين وأحييكم كبراء وموسرين!!
كم كانت شاقة مرحلة الانتقال من الأدب الرشيق إلى ما هو رشيق فى عالم السياسة!
بين دنيا الصالونات والمسرح والنوادر وبين الدنيا السياسية بمسئوليتها الجنائية وغير الجنائية، مرحلة وعرة مليئة بالمخاوف والأهوال، كان عليَّ أن أجتازها بأقدامى الصغيرة، ولا ناصر لى من رجال أو مال إلا حفنة من أصدقاء أوفياء، أو من مدعى الصداقة وإلا نفس قانعة مطمئنة، وإيمان بالله، وعقيدة فى جلال المهمة التى شاءت نفسى باختيارها أن تتولاها.
وباسم الله، وفى سبيل مصر، بدأت أسعى سعيا حثيثا بأقدامى المضطربة كالأعمى يتلمس الطريق بقدميه.
••
كانت العقبة الأولى هى إيجاد شخص ابن حلال يتولى تحرير القسم السياسى بالمجلة، وأقصد بابن الحلال فى هذا المقام الشخص الذى يشتغل من غير أن يأخذ أبيض ولا أسود حتى تنفرج الحال ونصل إلى الأرض الميعاد، وهى أرض عقدنا عليها أحلام الذهب وتخيلنا أديمها مفروشا بعلب السجائر ولقم الساندويتش وقطع الحلوى وغيرها من المتع التى يتخيلها الجائع الطروب حينما يحلم بسوق العيش!
وقد سبق لى أن قلت إن صديقى التابعى أبدى رفضه مرتين أن يكتب فى السياسة أو أن يدخلها من عقب الباب، فلم يكن لى والحالة هذه إلا أن أبحث عن سواه ليقوم بهذه المهمة، وبعد البحث والتنقيب عثرت على ضالتى فى الأستاذ حبيب جاماتى، واستمر الأستاذ التابعى رافعا راية الأدب  الرشيق فى سائر أبواب المجلة.
والأستاذ جاماتى رجل خدوم إلا أنه من أصحاب اللحسات، ولحسته خفيفة الدم!
كان وديعا كالحمل مادمنا لا نتكلم فى السياسة، أما إذا أخذت أشير عليه بما يجب أن يعلق عليه من الأخبار السياسية، فإنه يهيج ويركبه ألف عفريت ويذكر الشو والعمى وملحقاتهما، وأثور أنا بدورى، ويركبنى ألف عفريت بحكم العدوى، وتمتد أيدينا إلى شد الشعور، فإذا انتهينا عدنا وادعين متصافين يشرب كل منا نخب صاحبه فى كوبه من ماء القلة..  وما أردته يكون!
وكان جاماتى ينقطع أحيانا عن الكتابة لاشتغاله بمهام أخرى، فلم يكن لى بد من أن أعتمد على غيره.
فمن جاماتى، إلى محمد أبوالعز، إلى رمزى نظيم، إلى المرحوم عبدالمجيد حلمى، إلى أسعد لطفى، إلى أحمد عبدالرحمن قراعة، إلى عبدالرحمن نضر.. كان يجرى التناوب فى كتابة القسم السياسى بالمجلة فى كل أسبوع، وهذا القسم السياسى لا يتجاوز الصفحة أو الاثنتين فى كل عدد، هذا وصديقى التابعى واقف يتفرج علينا ويجود علينا بالنكت الظريفة كلما تحركت عليه أوجاع النكتة!
وكان القسم السياسى ينحصر فى تعليقات خفيفة على أهم الحوادث السياسية، فكان موقفنا من السياسة كموقف الذى ينوى الاستحمام فى البحر مدفوعا برغبة شديدة فيلبس «لباس البحر» ويتحزم بالقرعتين ثم يتقدم إلى الموج، فإذا غمر الماء قدميه تراجع واكتفى من الاستحمام والسباحة «بالبطبطة» وغسيل الوجه ورش الماء على الرأس، ثم قراءة الفاتحة والرجوع إلى الكابين!
وفى العدد 25 الذى صدر بتاريخ 21 أبريل 1926، ظهر أول مقال سياسى لى، وعنوانه: «فى محكمة الجنايات - ملاحظات ممثلة وصحفية».
ومحكمة الجنايات هنا هى المحكمة التى عقدت لمحاكمة أحمد ماهر ومحمود فهمى النقراشى، وكانا فى عداد المتهمين بمقتل السردار، وكانت ملاحظاتى ملاحظات فنانة لها عين متفحصة وتعليقاتى تعليقات صحفية تعودت أن تدس بأنفها فى كل شق، وأذكر أن نصيب المستر كرشو المستشار ورئيس الجلسة كان وافرا من لذعاتى.
وأسرع بتسجيل عاطفة الفرح والزهو التى أحسست بها حينما تلقيت دعوة الحكومة لحضور هذه المحاكمة باسم «روزاليوسف» السياسية، كانت هذه العاطفة أول مكسب والصلاة على النبى خرجت به من اشتغالى بالسياسة!
••
وسافرت بعد ذلك بشهرين إلى باريس لرؤية زوجى زكى طليمات واستقبلنى فى مارسيليا ليحمل على كتفه ابنته «ميمى»، وبدأت المشاحنة بينى وبينه فى القطار بخصوص اشتغالى بالسياسة، فلم أجد بدا من دفع هجومه وصرفه عن الموضوع.. بهجوم كبير من جانبى، وتذكرت المثل المعروف «خدوهم بالسوط ليرعبوكم»، وبدأت المعركة بانتقاد طريقته فى تسوية أظافره، وفى اختيار لون ملابسه.. فلم نصل بالقطار إلى باريس إلا وكان بسلامته قد رفع الراية البيضاء!
وإلى الأسبوع المقبل.•